كذبة فظيعة
وابتدأت عند الصباح تفوه بكلمات متقطعة وتدعو حبيبًا لها بأعزِّ الألقاب، وكان يتخلل كلامها صراخ محزن وتنهُّد عميق، فخفق قلبي لاستماع صوتها وخفتُ أن تكون قد استيقظت، لكن وا أسفاه أن تلك الألفاظ لم تكن سوى هذيان ناتج عن حمى شديدة قد أصابتها كما أوضح لي الطبيب! فلبثت بجانب سريرها والقلب يتقلب على جمر العذاب منتظرًا أن أسمع اسمي بين شفتيها، فيا لقلبي ما أشقاه، وأنا الذي سعادته تقوم باستماع كلمة واحدة تصوَّب إليَّ من فمها الطاهر! يا لتعاستي، لقد ظهر لي أني رجل مجهول لديها! فمن هذا الذي كانت تناديه يا ترى، أليس هو ذاك القتيل الذي شاهدتهُ أنا أيضًا؟ قلبي يحدثني أنه قضى شهيد الظلم والغدر، فآهٍ منك يا ماكيري الماكر يا من سلبت هذا الحمل الوديع السعادة انتظر عاجلًا جزاء ما جنتهُ يداك فإن الله لا يهمل عقاب المجرمين، وأنت أيتها الملاك الطاهر انعمي بالًا وقرِّي عينًا فسوف ينتقم لكِ من الظالمين.
وعند ذلك أعلمت بزيارة ماكيري فتلقيتُه بالترحاب وقد أخفيت عنه ما يكنُّ له صدري من الحقد والغيظ، وعندما لمست أيدينا بعضها شعرت بارتعاش قد سرى في جميع مفاصلي لزعمي أن اليد التي أنا قابض عليها ملطخة بدم المعصية، بل لا يبعد أن تكون هي نفس اليد التي قبضت علي عنقي فيما مضى، ثم صرت أفكر بأيِّ عبارة يجب أن أبتدرهُ الآن، وبأيِّ وسيلة يمكن أن أستطلع منهُ هذه الأسرار، ولو قلنا إنه أقرَّ بالحقيقة فكيف يمكن إثبات الدعوى لدى الحكومة وقد مضى على الحادثة ثلاث سنوات؟ ثم قاطعني عن التفكر بقوله: لقد أتيت لعيادة شقيقتي علمًا مني أنها مريضة. وكان يتظاهر أثناء الحديث بتأثير عظيم حتى لا يدع للشك مكانًا بكونه أخاها، ثم انتقل فجأة لحديث آخر، فقال: يسوءني أن أزعجك وأنت بمثل هذه الحال، إنما للضرورة أحكام، فهل أنت مزمع بعد على معاضدتي بطلب المساعدة من فكتور عمانوئيل؟
– لا أفعل ما لم أقف منك على حقيقة أمورٍ تهمني.
فانحنى باحترام قائلًا: إني مستعد لخدمتك.
– أولًا يجب أن أتحقق إذا كنت أخًا لزوجتي.
فرمقني بنظر الاستغراب محاولًا التبسُّم، وقال: هذا أمر سهل جدًّا، فلو كان الطبيب سنيري حاضرًا لنفى الشك عنك بكلمة واحدة.
– ولكنه أخبرني خلاف ما تدعيه.
– ربما فعل ذلك لأهواءٍ في النفس أو لأنه لا يمكنه إظهار الحقيقة. أما أنا فلست أخشى شيئًا ويمكنِّي أن أثبت قولي في الحال حيث يوجد كثيرون ممن يعرفون حقيقة حالي.
فقلت له متمهلًا وأنا أتفرس به جيدًا لئلا تفوتني ملاحظة ما يطرأُ عليه من التغيير: لِمَ قتلت رجلًا من مضي ثلاث سنوات في أحد منازل شارع هوراس؟ فنظر إليَّ بتعجب وكأني به يتساءل كيف عرفت ذلك، ثم صرخ قائلًا: هل بك من جنون؟
– أصغِ. في الساعة التاسعة من مساء العشرين من شهر آب سنة (… ١٧٦) في شارع هوارس قد طعنت صدر شاب بخنجر، وللحال سقط قتيلًا في غرفة اجتمعت بها مع سنيري واثنين آخرين.
فأحدق برهة دون أن ينطق ببنت شفة، ثم تقدم نحوي وقبض على ذراعي، فظننت بادئ بدءٍ أنه يقصد بي سوءًا، فاستعديت المدافعة عن نفسي، ولكني أدركت بعد قليل أنه يبتغي التفرُّس بي فقط، فقلت له في نفسي: ألم تعرفني بعدُ؟ وهل يغير العمى الإنسان إلى درجة لا يعود يُعرف بها بعد أن يعود إليه بصره؟ ولكن لا، فإنه قد عرفني أخيرًا لأنه ما لبث بعد أن حدجني بأبصاره أن همس قائلًا: الويل لهم لِمَ لمْ يدعوني أتمم عملي وقتئذٍ؟ ثم جعل يخطر في أرض الغرفة طولًا وعرضًا، وبعد أن سكن جأشه قليلًا وقف أمامي ونظر إليَّ كأنه غير مبال بتبرؤ نفسه، وقال: لقد صدقت فيما نطقت يا مستر فوكهان، فأنا قاتل، نعم قاتل، ولا لزوم بعدُ للإنكار، فعلى ما يظهر لي أنك مطلع على كل شيء. فاعلم يا صهري العزيز أني لم أقتل هذا الشقي إلَّا لأنه كان محبًّا لزوجتك وشقيقتي، وإذ علمت ذلك تهيج الدم الشريف في عروقي ولم أتمالك أن قتلته، نعم قتلته بحضورها وبمساعدة سنيري خالها وتركتها تندبه كل أيام حياتها. فهل علمت الآن معنى الكلمات التي ألقيتها إليك على طريق جينوى من أنك سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياتها؟
ولما أتى على هذه العبارة هجَمْتُ عليهِ قاصدًا إعدامه، ولكنه كان قد استعد لذلك ودبَّر طريقًا للهرب إذ جعل مكانه قرب الباب، وهكذا فرَّ من أمامي وهو يقول: إلى الملتقى يا مستر فوكهان، فهذا ليس وقت الانتقام.
فصرخت: اغرب عن عيني يا شقي، فكل ما فهتَ به كذب وبهتان.
وبعد ذهابه شعرت أن هواء الغرفة قد فسد من أنفاسه الدنسة، فهرعت لمخدع زوجتي وجلست قرب سريرها، وأصغيت لكلماتها المتقطعة، فإذا هي لم تزل تردد أحب الألقاب لذلك الشخص الذي أحاول معرفته والذي نسب إليه ماكيري تلك الكذبة الفظيعة.
فلا شك أن هذه حيلة عمد إليها ليبرِّئ ساحته أو لينتقم مني لأني تزوَّجت بولينا بينما كان يحبها حسب زعم سنيري، ولكن كيف كان الحال فلا يمكنني أن أطرد كلامه من ذهني، وسوف أتجرَّد من الراحة والسلام كل أيام حياتي. آه، من لي فيطلعني على حقيقة هذه الأسرار الغامضة ويخلصني من عذاب أليم! انهضي يا حبيبتي بولينا وانزعي عنك جمودًا يدمي فؤادي واقرني جمال هذه العيون بنظر صادر عن تعقُّل وحكمة ومُنِّي عليَّ بقولك: «إني بريئة.» فأسكب إذ ذاك دموع الفرح على أقدامك، وأكون من أسعد البشر.