الخنفساء اليابانية
أنا فنانة النقش والنحت على أوراق النبات، خنفساء وادعة جميلة، حجمي صغير لا يتعدَّى بنان الأصبع، وجسمي جميل لونه أخضر لامع، أمَّا أجنحتي الأمامية فقوية ولونها ضارب إلى البني النحاسي.
يابانية الأصل. أمتاز بالمهارة وإتقان الصنعة. أحترف مهنة تخريم أوراق الأشجار وحفرها ونقشها، شأني في ذلك شأن النسوة من بني البشر اللواتي امتهنَّ حرفة تخريم الأقمشة وإنتاج أقمشة الدانتيل.
فما إن نقع أنا وأخواتي على ورقة من أوراق النباتات حتى نسارع إلى الْتهام نسيج بشرتها الطري بين تفرُّعاتها، تاركين خلفنا شكلًا فنيًّا آخر للورقة، جميلًا مفرَّغًا، لا خضار فيه، ولا يخضور سوى شبكة من التفرُّعات داخلها، فتبدو للناظر ورقةً عجيبة غريبة دالَّة على وجودنا أو مرورنا من هنا.
سافرت مع أفراد عائلتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من مائة عام، على متن خطوطها الجوية دون بطاقة صعود؛ حيث كنا نختبئ بين جذور النباتات في تلك الصفقة المشحونة.
وما إن وصلنا هناك حتى وجدنا أنفسنا في جنة من الخضرة بين مئات الأنواع من النباتات والأشجار ومحاصيل الخضار، ورحنا نتغذَّى عليها وعلى براعمها الزهرية وثمارها الناضجة، ونتكاثر جيلًا بعد آخر حتى أصبحنا في نظر علماء الزراعة والباحثين والمزارعين آفةً خطيرة تُهدِّد الإنتاج الزراعي واللون الأخضر؛ في ملاعب الجولف، والحدائق، والسهول، والمراعي، ومروج المناظر الطبيعية، فراحت أجراس الخطر تُقرَع معلنةً الحرب علينا نحن الخنافسَ الصغيرة الوادعة الجميلة.
ومنذ أن تمَّ رصدنا في تلك الأيام من عام ١٩١٦م في مشتل نيو جيرسي، واطلاعهم على آثار أفعالنا وحجم الخطر الداهم القادم الذي يهدِّد مزارعهم وسهولهم وغاباتهم، حتى قرعت الحكومة والهيئات المختصة أجراس الإنذار، وأعلنت الاستنفار ورفع الجاهزية؛ فتمَّ رصد الميزانيات، وإنفاق مئات الملايين من الدولارات للسيطرة على أفرادنا كبارًا وصغارًا؛ كتكاليف لإقامة مختبرات ومراكز تربية وإكثار للطفيليات والجراثيم التي تهاجمنا، وثمن للمبيدات والسموم والطعوم، إضافةً إلى إقامة مراكز للحجر الزراعي في المطارات وعلى الحدود للحد من انتشارنا في أماكن أخرى من الولايات، إلا أن هذه الجهود وإن ساهمت في القضاء على الآلاف من أفرادنا إلا أنها لم تُفلح في القضاء علينا جميعًا؛ فأعدادنا كبيرة كبيرة، والخضرة كثيرة وفيرة.
ولكنهم لم يَدَعونا وشأننا؛ فالحرب سجال بيننا وبينهم؛ حيث يفاجؤننا بين فترة وأخرى بسلاح جديد أو طريقة جديدة، يكافحوننا بها؛ إذ إن استخدام المبيدات الكيميائية راحت تنعكس سلبًا على حياتهم؛ فهي سموم فتاكة تؤثِّر علينا ولكنها تُلحق ضررًا أكبر بحياة الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، فتتلوَّث التربة والمياه والهواء، ويتلوَّث طعامه وطعام حيواناته وحشراته النافعة التي يربِّيها؛ كالنحل وفراشة الحرير، فراح ينصب لنا المصائد الفرمونية الجاذبة المغرية لنا، ولكنها أيضًا لم تكن مجديةً معنا نحن الحشراتِ الكبيرة البالغة، فكانت تجذب المزيد من عائلتنا إلى حقولهم وحدائق منازلهم أكثر ممَّا تصطاده من أفرادنا، فاتجه إلى الانتقام من يرقاتنا المسكينة تلك القابعة تحت التربة بين جذور النباتات، مستخدمًا الحرب الجرثومية الفتاكة التي تعتمد على نثر أبواغ البكتيريا اللبنية المُمرضة، التي تكون على شكل حبيبات ومساحيق يتم توزيعها على مروج الملاعب والحدائق، وعندما تبتلعها يرقاتنا مع الأعشاب خلال تغذيتها الطبيعية على هذه المروج؛ تَنبت الأبواغ داخل أجسامها مؤديةً إلى إصابتها بالمرض، فتموت ويتحرَّر من جثثها الملايين من الجراثيم الجديدة في التربة، مؤديةً إلى إصابة وموت المزيد من أخواتها اليرقات، الأمر الذي أدَّى إلى القضاء على أعداد كبيرة من صغارنا عُدَّة المستقبل، وجعل مستقبل حياتنا مهدَّدًا دون أجيال جديدة تضمن استمرار النسل، فتأثير الأبواغ اللبنية اللعينة هذه يستمر سنوات طويلة، ما دام تكاثرها يتم داخل أجسام يرقاتنا وعلى جثثها النافقة.
وبذلك تمكَّن الإنسان — بعد كفاحه المستمر لنا أكثر من مائة عام — تمكَّن من السيطرة على أجزاء كبيرة من أراضي المروج التي كُنَّا نسرح فيها ونتغذَّى ونمرح، وعلينا الآن البحث عن سهول وغابات جديدة بعيدة عن سيطرة الإنسان، والهجرة إليها لضمان حياتنا وحياة أجيالنا من بعدنا.
أمَّا عن دورة حياتي فهي قصيرة، ومتوسِّط عمري سنة كاملة، هي فترة حياتي من لحظة خروجي من البيضة وحتى بلوغي حشرةً كاملة. أضع خلالها ٤٠–٦٠ بيضةً منفردة أو في مجموعات صغيرة في الأراضي الطينية الرطبة المغطَّاة بالأعشاب، أضعها قريبًا من جذور النباتات على عمق لا يتجاوز عشرة سنتيمترات من سطح التربة؛ لتفقس في غضون أسبوعَين عن يرقات صغيرة مقوَّسة، على شكل حرف سي، ذات لون كريمي شفاف في البداية، لا تلبث أن تتحوَّل مع تقدُّمها في العمر إلى لون أبيض ورأس بني. تتغذَّى على جذور الأعشاب في السهول والمروج والحدائق وملاعب الغولف حتى أواخر فصل الخريف.
ومع اقتراب فصل الشتاء تهاجر إلى أسفل التربة طلبًا للدفء، مبتعدةً عن خط الصقيع، وتبقى هناك على عمق ٢٠سم حتى حلول فصل الربيع، حيث ترتفع درجة حرارة التربة، فتتحرَّك اليرقات عائدةً نحو الأعلى إلى منطقة الجذر، وتستأنف التغذية على جذور مجموعة واسعة من محاصيل الخضار والذرة ونباتات الزينة والأعشاب العطرية لمدة ستة أسابيع، ليكتمل نموها في أوائل شهر حزيران، متحوِّلةً إلى عذراء تبقى في مرحلة سكون حتى نهاية الشهر، ليخرج منها خنفساء فتية مكتملة جميلة مثلي، تتابع دورة حياتها في التغذية بأوراق الأشجار والأزهار والثمار والتكاثر، مؤدِّيةً إلى تجريد النباتات من خضرتها، وتاركةً خلفها تلك الأشكال الجميلة من هياكل الأوراق المُفرَّغة المنحوتة الميتة؛ ولهذا كلِّه أُطلِق عليَّ لقب مدمِّرة الغطاء النباتي الأخضر؛ حيث أتغذَّى على المئات من أنواع النباتات.
واعتبروني عَدُوة مروج المراعي والحدائق والملاعب؛ حيث أتغذَّى على جذور نباتاتها خلال طَور اليرقة، فيختفي لون المروج الأخضر وتجف نتيجة موتها، وهو ما دفع الإنسان إلى صبِّ جماح غضبه علينا وعلى يرقاتنا في حربه الجرثومية والكيميائية.
وإذا سألتموني عن أصلي وفصلي، فأنا الخنفساء الخضراء، مدمِّرة المروج والغطاء النباتي، يابانية الأصل. أنتمي إلى فصيلة الجعليات، من رتبةٍ كبيرة تضم آلاف الأنواع من الخنافس والجعلان، هي رتبة الخنفسيات غمديات الأجنحة، ضمن صفِّ الحشرات في شعبة مفصليات الأرجل، وينتهي نَسَبي إلى المملكة الحيوانية.