الأدب والبشرية
أقرأ في هذه الأيام كتاب الخالدون مائة أعظمهم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والكتاب ترجمَه إلى العربية الكاتبُ الكبير الأستاذ أنيس منصور، ومؤلِّف الكتاب مايكل هارت عالم فلكي رياضي.
والكتاب عرضٌ سريع لهؤلاء الخالدين، يمكن أن يكون تعريفًا لهم لمن لا يعرف عنهم شيئًا. أما هؤلاء الذين يعرفون هذه الشخصيات فسيجدون في العجالة التي أوردها الكتاب تذكرةً لهم بهؤلاء الأعلام، والكتاب ممتعٌ في عرضه يهَبُ للقارئ سعادةً ويدفع عنه الملالة؛ حتى إننا لنقرأ ما يعرضه الكتاب فنجد أنفسنا توَّاقين إلى المُضيِّ فيه، ولا نجد عسرًا في عرضه للشخصيات التي قدَّمت أشياء خالدة في تاريخ البشرية في فروع بعيدة عن تخصصات القارئ.
وإنما أثار اهتمامي في هذه الشخصيات ما كتبَه المؤلف عن شكسبير من رأيٍ يدل على أن الكاتب لا يدري شيئًا عن وظيفة الأدب ولا عن قيمته في الحياة، فهو رأيٌ أقل ما يُقال عنه أنه ساذج فطري. عجبتُ كلَّ العجب أن يصدر عن شخص له ما للمؤلف من ثقافة، ثم رددتُ تعجبي وقمعتُ الدهشة حين تذكَّرتُ أن المؤلف عالِم فلكي ورياضي وأولئك قوم في أغلبهم لا يُدركون إلا المحسوسات، ومَن يدرك المحسوسات ولا يُدرك غيرها إنسان جامد الحس، قاصر النظر، سطحي التفكير، وليس هذا الذي أقوله عنهم ذمًّا، وإنما هو وصفٌ لا أظنهم يضيقون به؛ فالذي يتكلم لغة الأرقام ولا يقبل إلا العلم البصري لا يؤمن إلا بما يراه رأْيَ عين لا تتعمق بصيرته إلى عالم الروح وإلى مكامن النفس وإلى دخائل الضمائر ومكنونها.
يقول الكاتب: «وعلى الرغم من عبقرية شكسبير وعظمته المؤكدة فإنه لم يظهر في وقت مبكر من قائمة الخالدين. وقد جاء دورُه متأخرًا قليلًا، لا لأنني لا أقدِّر عظمته وعبقريته، ولكن لأنني أعتقد أن الأدباء والفنانين ليس لهم إلا أثرٌ ضئيل على تاريخ الإنسانية.»
واعتقاده هذا هو الذي أثارني إلى هذا المقال. فالرجل إذن لا يفكِّر إلا تفكيرًا محدودًا. الدليل على ذلك أننا نجده يضع بين خالديه أسماءً أفنَت من الأرواح ما أفنَت، ودمَّرَت من البشرية ما دمرت، واعتبر أن هؤلاء الخالدين في رأيه أعظمُ أثرًا على البشرية؛ فالذي يهدم البشرية عنده يتقدم على الأدباء والفنانين؛ لأنه يعتقد أن الأدباء والفنانين ليس لهم إلا أثرٌ ضئيل على تاريخ الإنسانية.
ولأنه عالِم فلكي ورياضي لم يستطع أن يتخيل لحظة ماذا كان يُسمَّى تاريخ البشرية لو خلا من الأدباء والفنانين.
فلو أن الإحساس بالفن مسَّه من قريب أو بعيد لتخيَّل عالمًا لا أدب فيه ولا فن، ولو أنه أمعن النظر قليلًا في التاريخ لوجد الأدب هو الذي جعل الناس تعرف معنى الحرية ومعنى الشرف ومعنى الوفاء والحب الذي صَعِدت البشرية على هُداه إلى مراقي الإنسانية.
ولو أن هذا الكاتب نفسه قرأ شكسبير وأحسن قراءَته لوجد أن كثيرين ممن اعتبرهم خالدين إنما هم سفاحون أعاقوا البشرية. وإن كان هو قد ذكر ما صنعوه في ظاهر الحياة وسطحها، فإن شكسبير قد غاص منهم إلى الأعماق وكشف خبيئةَ نفوسهم، وجعل الفرد منهم الذي طغَا وتجبَّر وعتَا لا يزيد في حقيقته عن مخبول أو مجنون. وإنه ما ارتكب ما ارتكب إلا لأنه نبَا في تركيبه عن شرف الإنسان وعما ينبغي لأسمى المخلوقات من رحمة وإشفاق بالبشر وعطف على إخوته في الإنسانية، ولو أنه قرأ شكسبير والأدباء الآخرين في لغته وفي غير لغته لوجد أن الإمبراطور الأعظم والملك المتوج والرئيس المتألِّه الذي تهتف باسمه الحشود عن حق أو ضلالة ليسوا عند الأديب إلا أناسيَّ وبشرًا من البشر لا يزيدون عنهم في شيء. وربما كان أولئك الأباطرة والملوك والرؤساء أقل من الناس شأنًا بلؤم الطبع، وخِسَّة المتجه ودناءة الهدف، وربما كانوا أحقرَ من الإنسان بالوسائل الوحشية التي يتبعونها وبالاحتيال وإخفاء الحقائق والبطش الوحشي، بطشًا يبين في أعين أمثال المؤلف من الماديين مبررًا، وهو عند الأدباء الأمناء لا تبرير له مطلقًا. فما يقبل الأديب أن يُهان الإنسان، وما يقبل الأديب أن يستغلَّ شخصٌ ما مهما يكن ملكًا أو إمبراطورًا أو رئيسًا سطوةَ منصبه ليهين الإنسانية، متمثلة هذه الإنسانية في أي فرد مهما يكن مكانه في المجتمع، وما يقبل الأديب أن يكون الفقر مذلة، ولا أن يكون نوعُ العمل مهما يكن شأنه داعيًا للاعتداء على كرامة الإنسان أو على حقه في الحياة الحرة الشريفة.
ولو أن الكاتب قرأ شكسبير أو غيره من الأدباء لعرف أن الخصومة السياسية ورفض الرأي لا يجوز أن يسمح للإمبراطور أو الملك أو الرئيس أن يقمع بالسلطان خصمه أو ينال بالسيف رضاه؛ فما الإمبراطور أو الملك أو الرئيس إلا فردٌ يُخطئ كما يخطئ الناس ويصيب كما يصيبون.
ولو أنه قرأ شكسبير أو غيره من الأدباء لعرَف أنهم يرَون أن الشرف ليس مقصورًا على طبقة دون طبقة، ولا على ناس دون ناس، وإنما هو مشاع بين كل الطبقات لا اختلاف بينهم ولا فارق، فكما يجوز أن يكون ابن الإمبراطور أو الملك أو الرئيس شريفًا يجوز أيضًا أن يكون وضيعًا في خلقه ساقط الكرامة يرتضي لنفسه ما لا يرضاه إلا السفلة والأفَّاقون.
ويجوز أيضًا أن يكون الفقير شريفًا سامق النفس عالي الهمة، ويجوز أيضًا أن يكون ابن الوضيع وضيعًا.
ولو كان قرأ لشكسبير أو لأحد من الأدباء لعرف أن المال الذي أصبح إلهًا في النظرية المادية الشيوعية، والذي هو الإله في النظرية الرأسمالية، ليس عند الكتاب فيما يكتبون إلا وسيلة وما هو بغاية، وأن الناس الذين يجعلون منه غاية هم أرخص خلق الله على الله وعلى البشر.
وإن الغنى لا يجعل الإنسان عظيمًا، وإن الفقر لا يجعل الإنسان حقيرًا، وإنما الإنسان عند الأديب عمله وليس ماله، وخلقه وليس أخلاق ثيابه.
فالأدباء والكتَّاب هم صرخة البشرية في وجه مَن يعادي البشرية، على نور أقلامهم سار الخالدون الذين ذكرهم باستثناء سيدنا محمد ﷺ وعيسى عليه السلام في كتابَيهما، اللذَين جاءهما الهدى من السماء.
وقد اختار الله لأعظم الخالدين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن تكون معجزته متمثلة في الكلمة، ولكن العالِم الفلكي الرياضي لا يستطيع أن يفهم هذا المعنى ولا أن يُقدِّرَه، ومن أين له أن يعرف قدرَ القرآن الكريم وهو لا يتحدث لغته.
إذا كان المؤرخون هم الناقلون أحداثَ التاريخ إلى الأجيال، فإن الكتَّاب هم الناقلون منائر القيم إلى كل الأزمان.
وإذا كان المؤرخ يُثبت الأحداث، فإن الأديب يبلور روح العصور إلى العصور.
وإذا كان هناك مَن يكفُر بقدر الأديب فهو جاهل، أو غبي، وكلاهما شرٌّ من أخيه.
وإن كان هناك مَن يقول إن الأدباء بما يملكون من أقلام يعظمون قدر أنفسهم، فإن هذا القائل عميَ عن الحقيقة وانفصل عن البشر؛ لأن الناس هم الذين يُقدِّرون الكُتَّاب ويرفعونهم إلى مراتب الأنبياء والصديقين بما أناروا أزمان البشر منذ الأزل وإلى الأبد.