لكل عصر جبرتي
أقرأ في هذه الأيام الجزء الثاني من كتاب تاريخ الحركة القومية لإمام مؤرخي العصر الحديث الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي، وليست هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها الرافعي، ولا هي المرة الثانية، ولكن الذاكرة لا تعي كلَّ شيء، وكثيرًا ما تكون القراءة الثالثة أو الرابعة وكأنها القراءة الأولى، وهذا الجزء الذي أقرأه مفردًا تقريبًا للحملة الفرنسية على مصر، وقد جاء فيه أن نابليون أصدر في ٢١ ديسمبر سنة ١٧٩٨ منشورًا يقول فيه إنه عطل الديوان منذ شهرين عقابًا لأهل القاهرة على الثورة التي قاموا بها، ثم يذكر الأستاذ الرافعي نظام هذا الديوان الجديد، ويقول إنه جاء أوسع نطاقًا من نظامه القديم، فهو مؤلَّف من هيئتَين «الديوان العمومي»، ويسميه نابليون «الديوان الكبير»، والديوان الخصوص.
أما العمومي فيكون من ستين عضوًا يمثلون أعيان مصر ومختلف الطبقات فيها، وقد ذكرهم الرافعي جميعًا. أما الديوان الخصوص فيقضي أمر تأسيسه بأن ينتخب من أعضاء الديوان العمومي وعدده أربعة عشر عضوًا.
ويقول الكتاب بعد ذلك ببضع صفحات إن نابليون ترك مقاليد الأمور عند سفره في حملة سوريا لرجلين اشتهرَا بالحكمة والدهاء؛ أحدهما الجنرال دوجا، والآخر المسيو بوسيليج، ولم يدخر هذان الرجلان وسعًا في اتباع سياسة الحكمة والمحاسنة إزاء الشعب، ومجاملة أعضاء الديوان واحترامهم ورعايتهم مما حبَّبهما إليهم، وخاصة بوسيليج الذي كان لا يألو جهدًا في اكتساب قلوب أعضاء الديوان بالمودة والمجاملة والمباسطة ورعاية الحرمات ومبادلتهم الزيارة ومجالستهم في أنديتهم، واقتباس بعض تقاليدهم؛ فقد شوهد مرارًا في منزل السادات جالسًا على الديوان يشرب القهوة على الطريقة المصرية ويدخن الشبك ويطارح جلساءَه فنونًا من الحديث في شئون العلم والعمران ونظام الحكومات في الغرب والشرق. وكانت له مطارحات طويلة مع الشيخ المهدي الذي يعدُّه أكثر أعضاء الديوان علمًا وفهمًا ومعرفة … وهكذا اكتسب الديوان نفوذًا كبيرًا في إدارة شئون الحكومة بما كانت ترجع إليه السلطة الفرنسية في مهمات الأمور، فلم يكن الجنرال دوجا والمسيو بوسيليج شأنًا من الشئون المتعلقة بإدارة الأمن في القاهرة، أو بكل ما له مساس بالشريعة وإدارة الضرائب أو بالتقاليد والعادات المرعية إلا بعد مفاتحة أعضاء الديوان واستشارتهم في تلك المسائل، وكانت تُسمع آراؤهم في معظم الشئون.
وإلى هنا أتوقَّف عن نقل ما جاء به الرافعي، وأصيح وا لَهفتاه على مصر، ويا حسرتا على ما حلَّ بها في سنوات الطغيان والقهر والجبروت، أيحكم المحتل الغاصب مصر بالشورى، ويحكمها ابنُها الذي ينتمي بعروقه إلى ترابها بالحديد والنار والقتل والسجن والاعتداء على الأعراض والأديان والشرف والكرامة، بينما كان الفرنسيون المغتصبون يراعون المشاعر الدينية والمشاعر الإنسانية؟!
لبئس ما رأينا العهد، وقد كنت خليقًا أن أحاول نسيانه فلا أذكره، وإنما أذكرنيه هذا الذي طالعني من كتاب الحملة الفرنسية على مصر، فقد حرَّك الكلامُ الذي قرأتُه والذي نقلتُه إليك الأشجانَ والآلام وآثار الحسرات والأسى، أوَنُحكم بالشورى منذ ما يقرب من مائتي عام، وفي عهد طاغية أيضًا من طغاة التاريخ هو نابليون، وتُحجب عنا الشورى والحاكم مصري والمحتل قد جلا، وأصبحت البلاد جميعها خالصة لأبنائها، والعصر قد تقدَّم الحكم فيه إلى قمم سامقات من الديمقراطية، وحرية الفرد، وجعل آدميته فوق كل اعتبار لا استثناء لهذا إلا في الدول الشيوعية التي حطمت كلَّ نبيل وشريف في حياة الإنسان، بادئة بالدين ترفضه وتحاربه، وبالإنسان تستذله للقمة العيش، وتمحق كرامته، ثم تحرمه أيضًا من لقمة العيش التي رفعَتْها شعارًا.
وأعود إلى كتاب الرافعي لأقف معه وقفةً أخرى فيها شيء من المقارنة التي تملأ النفسَ لوعة، وتمضُّ القلبَ حزنًا ومرارة. يقول الرافعي في غضون ذلك — يقصد الإعداد لحملة سوريا — حلَّ موسمُ الرؤية لإثبات رمضان عام ١٣١٣ﻫ، فانتهزها نابليون فرصةً طيبة، وكانت قبل سفره بأيام، فأمر بالمبالغة في الاحتفال، وتفخيم موكب الرؤية تملُّقًا لإحساس الأهالي، وكان الاحتفال عظيمًا بالغًا سار فيه طوائف الصناع كالمعتاد، وذهب المحتسب بهذا الموكب إلى بيت نابليون بالأزبكية، وأبلغوه رؤية الهلال فبالغ في الحفاوة بهم.
وإلى هنا ينتهي سردُ الرافعي ثم هو في ذكاء شديد يورد ما كتبه الجبرتي مؤرخ هذه الفترة، أنقله إليك، فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد ورخصوا لهم وسايروهم، رجعوا إليها — إلى البدع — وانهمكوا في عمل موالد الأضرحة التي يرون فرضيتها، وأنها قربة تُنجيهم بزعمهم من المهالك، وتُقرِّبهم إلى الله زلفى في المسالك. فرمحوا في غفلاتهم مع ما هم فيه من الأَسْر وكساد غالب البضائع وغلوها، وانقطاع الأخبار ومنع الجالب، ووقوف الإنكليز في البحر وشدة حجزهم على الصادر والوارد حتى غلَت أسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي (البحر الأبيض) … إلخ.
وهنا وقفت مرة أخرى … يا رحمة الله عليك أيها الشيخ الجبرتي، حزنت لأبناء بلدك أن أقاموا الموالد، وذكروا الله بالطريقة التي تفهمها عقولهم. فماذا كنت تراك فاعلًا أو قائلًا لو شهدت ما حدث في بلدك نفسها بعد قرابة مائتي عام، واليهود يمحقون جيشك في ست ساعات ويخلو لهم الطريق من السويس إلى القاهرة ليس فيه جندي واحد. ومجلسك التشريعي من أبناء مصر لا الفرنسيس، ولا اليهود في فرحة غامرة وسعادة طاغية حتى ليعتلي أحدهم صهوة مقاعد المجلس، ويروح يرقص بعد أن عقد الحزام على وسطه.
ولكن لا تحزن يا جبرتي في قبرك لكل عصر جبرتي، ونحن ما زلنا نعيش آثار هذه الفترة وإن كنا قد تجاوزناها والحمد لله.
ولك التاريخ لن يتجاوزها، وإنما هي محفورة فيه، وإن وجدت الفترة اليوم مَن يدافع عنها؛ لأنه كان منتفعًا بها أو والغًا في دمائها فالغد سيأتي وتصبح الحقيقة هي السيد الأوحد في الميدان يصحبها التاريخ، وتقرأ الأجيال هذه الصفحات السود من تاريخ مصر كما نقرؤك نحن اليوم يا خالد الذكر يا جبرتي، ويوم ذاك سيكون الظالمون قد عرفوا أي منقلب قد انقلبوا إليه.
فإن الله سبحانه غالبٌ على أمره منذ الأزل وإلى الأبد الأبيد.