الأشجار والأعشاب وصالون العقاد
أقرأ في هذه الأيام كتاب أخي الكاتب أنيس منصور عن أستاذنا وأستاذ الجيل الذي سبقنا والأجيال اللاحقة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها عباس محمود العقاد.
وقد عرفت أنيس منذ قرابة ثلاثين عامًا، وكان التعارف مقالة له في الأخبار فيها عنف، رددتُ عليها بمقالة فيها نفس العنف بجريدة المصري. ولم نكن حينذاك قد التقينا، ولم تمرَّ على المقالتَين أيام حتى التقينا بدار الأوبرا المصرية، وتعارفنا وتوطدَت بيننا منذ ذلك الحين صداقةٌ تزداد على الأيام عمقًا لم يَشُبها في يوم من الأيام إلا ما يزيدها توثقًا وألفة وتقاربًا. وهكذا تحقق بيننا المثل السائر الذي لا أومن به «لا محبة إلا بعد عداوة»، ولكنها كانت عداوة يسيرة هينة لم تبقَ من عمر الزمن إلا أيام لا تكتمل أسبوعًا، ولكنها أمدَّتنا بحادثة ظللنا نتندر بها هو وأنا كلما ساق إليها الحديث بيننا.
وأحسب أنني قرأت كلَّ ما كتب أنيس منصور سواء كُتب في كتاب أو انتثر في مقالات.
وأنيس صاحب أسلوب أعتبره من أذكى الأساليب العربية، وقد استطاع في مقدرة فائقة أن يحافظ على الكلمة العربية الشريفة، وعلى النحو وأصول اللغة، ولكنه استطاع أيضًا أن ينفرد بأسلوب خاص تلمع فيه الومضات التي تدل على الذكاء الحاد، وعلى الثقافة العريضة في وقت معًا. ويمتاز أنيس بالاطلاع الواسع الذي يصل إلى مرتبة الإذهال، ثم هو يمتاز بشيء أهم من ذلك، فهو قادر على أن يستحضر ما حصَّله عندما يكتب بصورة لا أحسب أنها تتوافر إلا لقلة نادرة من الكُتَّاب، وربما كنت ظالمًا لأنيس بهذه الجملة الأخيرة.
وما كان لي أن أكتب عن كتاب أنيس الأخير «في صالون العقاد»، فإن هذا من عمل الناقد ولست به، وقد أوشكت فعلًا أن أترك للنقاد هذه الفرصة؛ بل إنني قد رجوت زميلي الدكتور عبد العزيز شرف أن يتصدى لهذا. ولم أكن قد بدأت قراءة الكتاب بعد، حتى إذا بدأتها بادرت أطلب الدكتور شرف وأسأله إن كان قد بدأ الكتابة، فحين علمت أنه لم يفعل عُدت أرجوه أن يؤجل مقاله، ويترك لي أنا الفرصة. وما كان هذا عن رغبة مني في تحية صديق جمعتني وإياه فترة امتدت إلى ثلث قرن من الزمان، وإنما كان ذلك لأنني وجدت في الكتاب نفسي، وأبناء جيلي، وقد استطاع أنيس في ذكاء باذخ أن يقدمنا إلى الأجيال اللاحقة، وهكذا كان من الحتم أن أكتب، فهذا الذي يقدِّمه أنيس هو حياتي وحياة زملائي ولِداتي وأبناء زماني. وإن كان أنيس قدم هذا في السديم المحيط بكوكب العقاد فإن العقاد كوكب من كواكب جيلنا كله، وليس منَّا مَن لم يَدُر في فلكه كما دُرْنا في أفلاك الآخرين من الكواكب أو قُل الشموس إذا شئت، ولن تكون مبالغًا فجيلي سطع عليه العقاد، وطه حسين، والدكتور هيكل، وتوفيق الحكيم، والمازني، بل إننا أيضًا رأينا نحن العاملين في ميدان الرواية والقصة جزءًا كبيرًا من الطريق على ضياء نجيب محفوظ؛ وهو الجيل الذي يفصل بيننا وبين جيل العقاد وطه أو إن شئت فقل إنه الجيل الذي يكون أحد الوشائج بيننا وبين الجيل السابق عليه.
ونحن أبناء هذا الجيل الذي ينتسب إليه أنيس منصور؛ عشنا الحرية وهي مزدهرة على رغم الاحتلال الأجنبي، وتمتعنا بها، والقيود تنحسر عن أطرافها شيئًا فشيئًا، وتزداد ازدهارًا فيها وتألقًا، ثم رأينا القيود تنثني عائدةً إليها تُقيدها ولكن لا تقتلها، وتعوق انطلاقها ولكن لا تحبسها ثم تتساقط القيود وتعود الحرية إلى الانتعاش. وفجأة عصف بنا الطوفان وماتت الحرية وشهدها الجيل الذي جاء بعدنا قتيلًا لا وجود لها، فحسب المسكين أن الأصل في الحرية أن تكون قتيلًا، فهي عنده كلمة بلا معنى، وتاريخ كان ثم اندثر، وحياة عاشت في مكان ما، ثم قتلت وأمسَت بلا حياة، وكأنها لم تكن من قبل حياة.
وبين مدِّ الحرية وانحسارها تكوَّن جيلنا وبدأنا معه مسيرتنا كلٌّ من الباب الذي فتحته له الحياة ليرى إلى الحياة ويتعرف عليها، ورُحنا ننهل من الموارد الشتى سكارى مفيقين نشاوى متيقظين، فرحين في أمل، ناظرين إلى المستقبل دون أن نخاف صلبة تلك الأرض التي نقف عليها، واثقة خطواتنا حتى وإن كانت مضللة الطريق. كنا نُخطئ ونصيب لأننا بشر، ولكن كنا نؤمن بأن خطأنا هو الصواب حتى تردَّنا الحقيقة إلى طريقها، فلا نفزع ولا نخاف وما لنا لا نُخطئ، وكيف نكون بشرًا إذا نحن لم نُخطئ. ولم يكن الطوفان في حسباننا ولا كان في حسبان أحد، حتى إذا عصف كانت أعوادُنا هينةَ المكسر، ولكن كانت جذورها ضاربة في أرض القيم الرفيعة والخلق الأشم، والإيمان بأنه هو الله الأحد الفرد الصمد لا نخشى غيره، ولا يهزُّنا سلطان إلا سلطانه جل وعلا، كنَّا جيلًا ينتسب إلى جيل ثورة ١٩ بالمولد كما أنتسب أنا إليه، فأبي واحد من رجالها أو بالصلات والتعرف على هذه الكوكبة من مشاعل هذه الثورة. كما تعرَّف أنيس بالعقاد ذلك الرجل الذي خرج من السجن فلم ينتظر حتى يذهب إلى بيته ويستريح هونًا من عذاباته، وإنما يصيح بقصيدته الخالدة أني قد خرجت منه كما أنا صحبي هم صحبي وعدوي هم عدوي ما اختلف لي رأيٌ ولا صال لي لون. وتعرَّف جيلُنا على هيكل إن لم يكن بالصلة الشخصية فبما يُروى عنه حين اعتذر له الملك السابق أن رئاسة الوزارة إن تكن أخطأَتْه فهي في طريقها إليه عما قريب، فإذا هو يصرخ في وجهه باللفظ لا بالحنجرة إنني حين أجلس إلى مكتبي لأكتب يصغر في عيني كلُّ كرسي لمنصب في العالم، يوشك الرجل أن يقول له حتى كرسي عرشك، ومن هذا الجيل عرفنا معنى أن يكون الإنسان كاتبًا، كاتبًا فقط بلا كرسي ولا سلطان ولا منصب، ورأينا هؤلاء الرجال في العاصفة يقف العقادُ الأبيُّ وهو لا يكاد يجد قوتَ يومه رافضًا أن يحنيَ رأسه أو يقول غير ما يعتقد، كان هذا الجيل هو إمام جيلنا وكان مثلنا الأعلى.
ويُرفت أنيس من جريدة الأخبار، وأشهدُ بعض أصدقائه يعرضون عليه المال فيأبى في عزَّة وفي تواضع، وأنا أعلم أنه أحوج ما يكون إلى هذا المال الذي يُعرَض عليه ويُعرِض عنه. وأشهد العاملين في الإذاعة وهم يتجنبون الحديث إليه وهو مَن كانوا يسعون إليه، ويبتسم ثم يُطلق النكتة اللاذعة الذكية العميقة والخالية من الحقد أو المرارة في نفس الوقت. فهو يعرف أنهم صغار وشأن الصغار أن نعطف عليهم ولا نحقد.
وتنصب الأشجار الباسقة العملاقة من جيلنا عرفَت طريقها إلى السماء بعد أن مهَّده لنا آباؤنا رجال ثورة ١٩ ويعشوشب بعض أفراد من جيلنا، ويظل صغيرًا ملتصقًا بالأرض أو بالحضيض لا قيمَ له حتى يشبَّ بها. فيتهافت هشيمًا أو نباتًا جافًّا هزيلًا يذروه الهواء ولا أقول الرياح، ويحقد العشب على الأشجار ويحاول أن ينفث حقده في وقاحات مخدرة متخاذلة وتضحك أشجارنا، فمن شأن الأعشاب أن تحقد على الأشجار، ومن واجب الأشجار أن تُشفق على الأعشاب حين يطؤها الرجال والنعال.
وإنني أستوحي جملة من العقاد نفسه، وأنا أكتب هذا الحديث عن الأشجار والأعشاب.
ورعاك الله يا أخي أنيس، أرجعتَ إلينا نفوسنا ورددتَ إلى كهولتنا صبانا وشبابنا.
لقد خلتني إياك وأنت تسترد مقالات كتبتها، وأحسست أنك نسجتها على نَول العقاد. فقد صنعتُ الصنيع نفسه حين كتبت مقالةً وجدت وأنا أقرؤها أنها ظلٌّ باهت لطه حسين. فقد كان جيلنا يريد أن يكون لكلٍّ منه نوله هو وقلمه الذي يتمتع باللون الخاص به، فلا يكون تابعًا لأحد مهما يكن هذا المتبوع العقاد أو طه حسين. لقد قدَّمتنا يا أخي أنيس إلى الأجيال التي تلينا خيرَ تقدمة، ولو لم تكن فعلت بكتابك إلا هذا فحسبك فقد صنعتَ جيلًا وأقمت بناء باذخًا … هنيئًا لك.