قراءات ومشاهدات
قرأت في الفترة القريبة الماضية روايتَين ومجموعة قصصية؛ أما الروايتان فهما «تمساح البحيرة» للأستاذة إقبال بركة، و«الاختطاف» للأستاذ حسن محسب. وأما المجموعة القصصية فهي «النبش في الدماغ» للأستاذ أحمد الشيخ. وشاهدت على طول شهر رمضان أغلب مسلسلات التليفزيون، وإنما يعنيني منها مسلسل «محمد رسول الله»، وحسبي رسول الله ﷺ سببًا للكتابة؛ أما رواية الأستاذة إقبال بركة فهي رواية عظيمة بكل المقاييس الفنية، وقد استطاعت الكاتبة المتمكنة أن ترسم شخصية البطلة بكل المشاعر التي تتراوح في نفس فتاة في مثلِ سنِّها ومثل ظروفها الاجتماعية والعاطفية، وكما كانت إقبال موفَّقة في رسم هذه الشخصية، واكبَها نفسُ التوفيق في رسم شخصيات الأم وصديق الزوج، وكانت بالغة التوفيق في رسم شخصية الأب. ولعله من المناسب هنا أن أتكلم عن شخصية الأب هذه فهي شخصية مسطحة، وقد جرى كثيرٌ من النقاد أن يجعلوا من كلمة مسطحة هجومًا على رسم الشخصية، جاهلين أن أعظم الشخصيات الدرامية هي الشخصية المسطحة؛ لأنها الشخصية التي تهَبُ نفسها لقضية واحدة لا يشغلها في الحياة غيرها، وحينئذٍ تصبح الشخصية شخصية بطولية لا يُعنَى المؤلف من شأنها إلا بالقضية التي كرَّست نفسها لها، وأعماق هذه الشخصية هامة في الناحية التي تتصل بالقضية التي حرص الكاتب على أن يرصد الشخصية للدفاع عنها؛ فشخصية جان دارك مثلًا شخصية مسطحة، وهي مع ذلك من أعظم الشخصيات الدرامية التي عرفتها الأعمال الروائية أو المسرحية على السواء، وهكذا يقع النقاد في أحبولة الكلمة ويظنون أنهم يحطمون الشخصية الفنية إذا وصفوها بأنها مسطحة، وإنما يعيب الشخصية أن تكون سطحية، وهنا تتجه الكلمة إلى معنًى آخر هو السذاجة وعدم الإقناع، وهذا طبعًا يعيب العمل الفني ويوشك أن يحطمَه. وأشهد أن شخصيات رواية «تمساح البحيرة» جميعًا بعيدة عن السطحية، إلا شخصية واحدة اعتمدت فيها الكاتبة على ما كانت تنشره وسائل الإعلام دون معايشة لنماذج هذه النفر من الناس. هذه الشخصية هي شخصية الجد في روايتها، فواضح أن الأستاذة إقبال لم تعرف نموذجًا لمثل هذا الجد قط، ولهذا جاء رسمها للشخصية ترديدًا لشعارات هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي، وهكذا أصبحت هذه الشخصية باهتة ساذجة سطحية وليست مسطحة، وأنا كنت أرجو للأستاذة إقبال وهي على القدر من الموهبة أن تتعمق هذه الشخصية وتتعرف على أبعادها ولا تكتفي في شأنها بألفاظ جوفاء تعطي وجهًا واحدًا باهتًا لفئة قامت على أكتافها وعلى كدحها لفترة طويلة أعمدة الاقتصاد المصري. وإن كان في بعض من أفرادها عيوب فقد كان ينبغي على الكاتبة أن ترى إلى الشخصيات الأخرى التي تُمحَى عندها هذه المثالب، وكان عليها في رسمها للنموذج الواحد أن ترى فيه الجانبَين، وترى في سماته كل معالم هذا النموذج، وهي سمات كثيرة، فيه الرفيع السامق وفيه أيضًا المادي الذي لا رفعة فيه ولا سموق. وحان لي الآن أن أنتقل إلى رواية الأستاذ حسين محسب «الاختطاف» وهي رواية تدل على براعة الكاتب وفطنته وقدرته على رسم المجتمع الذي اختاره في تفوق وعمق؛ فشخصية الزوجة مرسومة بريشة قادرة صناع، وشخصية الزوج الذي عاش فترة من أبشع فترات مصر وهو المصري الصميم الذي تجري دماء مصر في أعراقه منذ آلاف السنين، وأحسب أن هذه الشخصية التي رسمها الأستاذ حسن محسب تعتبر نموذجًا رائعًا لعصره جمعَت جوانب من الحياة شقيت بها الحياة وشقيَ بها بخاصة هذا الجيل الذي يمثِّله بطلُ الرواية. وكان الأستاذ حسن محسب عظيمًا حين نفذ إلى الرواية في سرعة السهم، فإذا نحن منذ اللحظة الأولى في أعماق المشكلة التي اختارها لروايته، وإذا هو يجسِّد الفجيعة في سرد روائي بارع ثم هو يلاحق هذه الفجيعة في نفس البطل، ويُظهرنا على آثارها، ثم ينتقل في براعة إلى ما كان في حياة البطل من إحباط بسبب القوة الغاشمة والسلاح الظالم، والرواية كلها صراع بين حق الإنسان في الشرف والحياة وبين السلاح الذي لا يعرف حقًّا.
وحسن محسب كان موفقًا كلَّ التوفيق في رسم هذا الصراع بقلم يجمع إلى الفنية القادرة الإنسانية البلُّورية الشفيفة، وإن كان لا بد لي أن آخذ على الكاتب شيئًا، فهو أنه افتعل التشويق في نهايات بعض الفصول، بينما الرواية بطبيعة موضوعها وبقدرة مؤلفها كان فيها من التشويق ما يكفيها ويزيد.
أما المجموعة القصصية التي قرأتُها للأستاذ أحمد الشيخ فقد وجدت في قصصها أديبًا متمكنًا قادرًا، يعرف كيف يضع كلمته ويصونها عن أن تكون لهوًا؛ فالكلمة معنى يختارها الكاتب في قدرة حتى لا تحتاج إلى مرادف لها، فهي حادة قاطعة قوية شاعرة. إنها في مكانها الطبيعي، غير قلقة ولا هي متوفزة.
وموضوعات القصص بالغة الذكاء تموج بالإنسانية والشفافية، وطريقة العرض تجمع إلى الحداثة والتجديد، المنطقَ والمعقولية، فهو كاتب عصره ويعبر عنه لأبناء الجيل وبلغتهم وبأسلوبهم، فهو يفهم معاناتهم لأنه منهم وهم يفهمون عنه ويحسون أنهم هم أبطال قصصه، وأن عناء المؤلف هو عناؤهم، والذي يشغله في الحياة هو الذي يشغلهم.
أترك الكتاب بعض الشيء وأنتقل معك إلى مسلسل الرسول ﷺ. وأبدأ بأن أهنئ نور الدمرداش عميد مخرجي التليفزيون بهذا العمل العملاق الذي قدَّمه إخراجًا، أما النص فلي عنه بعد ذلك حديث. أما نور الدمرداش كمخرج فقد بلغ قمة التوفيق؛ فقد استطاع أن يقدم إلينا المسلمين أعزة شامخين لا أذلة ضعافًا خانعين، يلبسون أكرم ملبس متفرحين بما أتاهم الله من فضله في الدنيا، مقبلين على أعتاب الآخرة إقبال المشوق المعدم الذي لا يشعر بأن له في هذه الدنيا ما يبقى عليه، وهذا هو قمة الإيمان؛ فالذي يُقبل على الموت وهو ضيق بالدنيا رجلٌ ضعيف الإيمان، أما الرجل الذي تطالعه الدنيا بوجهها الباسم المشرق فيُقبِل عليها في غير معصية ولا جنوح عن سنن الله ونبيه ﷺ، حتى إذا دعا داعي الجهاد أقبل على العليا إقبالَه المتعجل الهانئ السعيد بكل ما يتكشف عنه مصير المعركة: فإما نصر فحياة في الدنيا، وإما نصر فحياة أكرم وأعظم في العليا خالدًا هناك عند ملك الملوك رب العرش سبحانه وتعالى.
واستطاع نور الدمرداش أن يقدِّم إلينا الشخصيات المؤمنة سعيدة باسمة؛ فحطم بذلك الطقوس البغيضة التي ترسم المسلم حزينًا دائمًا كسيرًا مكشرًا غاضبًا. وتلك عجيبة من عجائب الزمان. ما الذي يُحزنه وهو الذي عرف الطريق واتصل ما بينه وبين الإيمان، وأي شيء يملأ النفس سعادة وهناء وحبورًا وطمأنينة ورضًا وفرحًا وإشراقًا مثل الإيمان؟! وكلما كان الإيمان عميقًا ازدادت السعادة والهناءة والحبور والطمأنينة.
إن نور الدمرداش ما زال يقتعد قمته التي عرفها له العالم العربي، لم يتركها؛ بل أحسب أنه يصنع لنفسه قممًا جديدة، أما النص فلي عليه قول آخر، فالأستاذ صبري سلامة خيرُ مَن يتكلم العربية في الإذاعة، وأنا لا أقول من خير، ولكن هو خيرُ مَن يتكلمها، ولكن الحوار التليفزيوني أمرٌ آخر والحوار في عصر النبي ﷺ أمرٌ آخر هو أيضًا. فالصياغة التي نسمعها في الحوار وإن كانت مطعَّمة بالكثير من الأساليب العربية، إلا أنها هي نفسها حديثة، وليست هي الصياغة العربية التي تواكب ذلك الزمان. وقد سمعنا النغمة الصحيحة في أسمى مراتبها من الكاتب الكبير عبد الفتاح مصطفى، فإن لغة هذا العصر كانت تجري على ألسنة الأبطال وكأنهم هم الذين يتحدثون من وراء التاريخ، ولكن هذا لا يمنعني أن أرحب بأخي الصديق صبري سلامة في ميدان التمثيلية، وأحسب أنه سيبلغ المكانة الجديرة به إذا هو قدَّم إلينا أعمالًا في عصور أكثر حداثة عن عصر النبي عليه الصلاة والسلام.