لغة العرب لغة الثراء
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش متوائمًا مع نفسه إلا إذا أحسَّ أن له في مقومات كيانه ما يعتزُّ به، وهو قادر على أن يختلق هذا الاعتزاز إن لم يجده؛ فإذا كان الأمر كذلك مع الفرد، فهو مع الأمم أكثر وضوحًا، فكل أمة في العالم تعتزُّ بأمجادها وتتغنَّى بها، وإنني أُعارض ما قرأتُه لأخي الأستاذ أنيس منصور في أحد مواقفه من رفضٍ لتغنِّي أبناء مصر بأمجاد مصر متصورًا أن هذا التغني يجعلهم في غناء عن العمل، وأنهم يكتفون بالصوت عن العمل، وهذا ليس صحيحًا في الشعب المصري، فنحن شعب يغنِّي وهو يعمل، والغناء يحث العامل على النشاط. وقديمًا كان حداء الإبل في الصحراء يخفف أعباء الطريق على المسافرين ويحث الجمال أن تحتمل المشقة، ومن هذا الحداء نبت الشعر العربي كله، وكل شعب له خصائصه التي لا يشاركه فيها أحد، والأمر المؤكد أن كسل المصريين ليس راجعًا إلى أنهم يتغنون بأمجاد مصر، وإنما هم كسالى رغم أنهم يتغنون بأمجاد مصر، فقد كان هذا التغني خليقًا بأن يدفعهم إلى العمل لا إلى النكوص عنه، فالشعب كسول رغم أنه يعرف أمجاده ويتغنَّى بها، وليس لأنه يُشيد بهذه الأمجاد.
واللغة من أهم المقومات التي تعتز بها الأمم العريقة، فأنت تجد الفرنسي وهو ينطق لغته فخورًا بهذه اللغة سعيدًا أنه ينطقها النطق الصحيح، ويكتب بها في أُلفة معها وفي حبٍّ لها. يجدد فيها دون أن يعدوَ على موسيقاها أو على جرس الجملة ووقْعها في نفس المتلقِّي لها، مستمعًا كان هذا المتلقِّي أو قارئًا.
وكذلك يفعل الإنجليز الأصلاء فهم حريصون أن ينطقوا حروف لغتهم النطقَ السليم القوي الواضح، وتلمح في وجوههم الاعتزاز بأنفسهم أنهم يحسنون نطْقَ لغتهم وهم يجددون في أساليبهم، ولكنهم لا يعتدون عليها فعل الأب الثري يقدم لابنه أحدث ما ابتكرَته بيوت الأزياء ليراه دائمًا مشرقًا متجددًا أنيقًا، ولكنه لا يحاول بأية حال من الأحوال أن يغيِّر من معالم ولده فهو دائمًا يراه أجمل مخلوق في العالم.
ولقد قرأت منذ قريب كتابًا عن بعض رواد مؤلف الرواية الأمريكية بقلم نُقادٍ مختلفين، ويوشك النقاد أن يُجمعوا أن الكاتب الذي اختاروه لبحثهم كان يحاول أن يجد لغة أمريكية جديدة؛ لأن الشعب الأمريكي حديث التكوين ولم تتأصل له لغة خاصة به أو هو على الأقل كان كذلك حين بدأ هؤلاء الرواد ممارسة أعمالهم الفنية.
واللغة العربية لغة أمة بأكملها، وهي لغة فرضت نفسها على التاريخ لآلاف السنين، والناطقون بهذه اللغة لهم ذوقهم الخاص وهو ذوق رفيع، وليس فيه جمود فهو يحب التجديد في اللغة، ولكن لا يحب الاعتداء عليها.
واللغة العربية لها خصائصها شأن كل اللغات، وقد أحب أبناؤها هذه الخصائص حبًّا نابعًا من المشاعر قبل أن ينبع من العقل.
فلغتنا — فيما أعتقد — أعظم اللغات ثراء. وقد رأيت من الإنجليز والفرنسيين مَن بهره هذا الثراء، فاللغة الوحيدة في العالم التي يستطيع الشاعر بها أن ينظم خمسمائة بيت على وزن واحد وقافية لا تتغير هي اللغة العربية، ولو كانت اللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية بهذا الثراء ما لجأ الشعراء فيهما إلى شعر المقاطع أو الشعر الحديث.
وإذا تركنا الشعر وانتقلنا إلى النثر نجد أن الأسلوب العربي يحب المترادفات؛ فهي تؤكد المعنى وتُكسب الأسلوب جمالًا ورواء وتُضفي على الأثر الأدبي أصالةً ومُكْنة وأبعادًا لا تطيق الكلمة الواحدة أن تحملها إلى نفس القارئ.
وإذا كانت اللغة العلمية لا تميل إلى هذه المترادفات فإنها حبيبة في اللغة الأدبية، وتلون الأسلوب بتلون الموضوع ثراء وقدرة من اللغة على مواجهة شتى مجالات ومختلف ميادين.
وأنا مع هذا لا أميل إلى الرأي القائل بتعريب اللغة العلمية، فإن العلم العالمي عالميٌّ بطبعه، وينبغي على المشتغلين به عندنا أن يُتقنوا اللغات الأجنبية غاية الإتقان حتى لا ينفصلوا عن العالم المتحضر في أبحاثه التي تُكلِّفهم من الأموال والآلات ما لا طاقة لنا به، والأمر الذي لا شك فيه أن العالم المتحضر ينتفع بجهود علمائنا بما يقدِّمون من بحوث في ميادين العلم، وما هذا الذي أقول من قبيل التفاخر، وإنما هو واقعٌ تؤيده الحقائق التي لا سبيل إلى نكرانها والعلم تبادل معرفة، وأن هذا الثراء الذي تتمتع به لغتُنا يُرسي في نفوسنا ثقةً مطمئنة بلغتنا، فنحن لا نخشى أن تعدوَ عليها لغة في العالم مهما يكن شأنها، وقديمًا أخذت العربية من الفارسية والتركية ومن الفرنسية والإيطالية والإنجليزية فازدادت ثراء كما أخذت كل هذه اللغات العربية ولم تشعر بهوان فقر أو ذلة حاجة.
والأذن العربية ما زالت على رغم تطاول السنين تحب اللغة الأصيلة وتُحسن وقْعَ الكلمة المختارة الجميلة؛ ولهذا لم ينجح في أدبنا الأسلوب التلغرافي، فهو لا يصل إلى نفس القارئ في العمل الأدبي، وإنما يجعله يحس أنه يقرأ كشف حساب لا أدبًا فنيًّا ولا أسلوبًا عربيًّا.
وقد حاول بعض النقاد ممن ذهبوا إلى الغرب والْتوَى منهم اللسان وفقدوا هناك الذوق العربي أن يضعوا في الأدب العربي قاعدةً تقول إن جمال اللغة في العمل الفني يقف حائلًا بين العمل وبين مستقبلِيه وخاصة إذا كان هذا العمل قصة أو رواية.
والحقيقة التي لا شك فيها أنهم هم أنفسهم وجدوا أنهم عاجزون عن كتابة اللغة الفنية الجميلة فأنشئوا من القبح قاعدة.
ولما كان الجمهور حين يقرأ يترك نفسه على سجيته ويضرب صفْحًا عن القواعد المفتعلة التي يريد أن يزيفها عليه النقاد، فإنه رفض هذه القاعدة وأصرَّ أن يقرأ أسلوبًا جميلًا، وأقبل على هذا الأسلوب ورفض غيره، ولعل الرواية الشاهقة الباذخة التي كتبها أخيرًا أستاذنا نجيب محفوظ في الأهرام تؤكد هذا المعنى؛ فإن نجيب محفوظ من أكثر الناس إحساسًا بجمهور القرَّاء وإدراكًا لذوقه، وأنت ترى أنه بلغ في هذه الرواية قمة فائقة من جمال الأسلوب.
ولقد قرأت منذ قريب بحثًا لغويًّا في بعض التركيبات اللغوية في القرآن الكريم، وقد حاول العالم الجليل أن يُبرر بعض أساليب القرآن ويتقصَّى الأسباب التي من أجلها أنزل سبحانه الآية في نظامها هذا الذي نحفظه به، وضرب مثلًا بقوله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وبقوله: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وبآيات أخرى كثيرة، وراح يستعرض آراء النحاة في هذا الشأن ثم يُدلي برأيه، وعندي أنه لم يكن محتاجًا إلى كل هذا الجهد؛ فإن جمال هذه الآيات مستمد من نظامها هذا والله سبحانه وتعالى الذي خلق النفوس هو الأعلم بما يصل إلى بعيد أعماقها ويبلغ منها ما لا يبلغه بيانُ بشر.
وليس أدل على أن الذوق العربي يحب لغته بكل ما فيها من جمال أسلوبي ومترادفات وتقديم وتأخير، من هذا الشعور بالسمو النوراني الذي نقرأ به القرآن الكريم أو نستمع إليه، وهو شعور يفقد جماله إذا حاولنا أن نُحلله أو نُرجعه إلى منطق، إنه الحب ولقاء النفس بما تهواه.
ومهما يحاول أعداء اللغة والعاجزون أن يهوِّنوا من شأن الجمال اللغوي ويدفعوا الناشئة إلى لغة التقارير فإن الأديب سيظل محبًّا للتعبير الموسيقي الثري الرهيف، وسيظل القارئ حريصًا أن يقرأ أدبًا فنيًّا لا نشرة أرصاد جوية.