تدريس العربية بالعربية
قرأت منذ فترة مقالًا بعنوان «يجب تدريس الطب بالعربية» بتوقيع سالم نجم أستاذ بكلية الطب، جامعة الأزهر.
وأشهد أنني أحسست عند قراءة العنوان بيد عاصرة شديدة العنف تعتصر قلبي.
أو فرغنا من تدريس العربية بالعربية أولًا حتى ننصرف إلى تدريس الطب بالعربية، أم نريد أن نجعل الخربى عندنا في شتى المجالات طيورًا عجماء لا تنطق بأي لغة من لغات الكون!
إن طلبة الطب الآن يتعلمون دروسهم باللغة الإنجليزية وهذا يجعلهم على صلة يمكن أن تكون وثيقة بتخصصهم، أنريدهم أن يدرسوا الطب بالعربية حتى تنقطع الصلة بينهم وبين هذه المصادر ويزدادوا جهلًا؟!
وأين هي اللغة العربية التي نريدهم أن يدرسوا بها؟ وهل الأستاذ أو الدكتور صاحب التوقيع يظن أن هناك لغة عربية تُدَرس في أي مكان؟ وكيف؟ ومن أين؟
ومن الذي يدرسها؟ ما تعليمه؟ ما إلمامه بها؟ لقد انتهى تدريس العربية الأصيلة منذ سمحنا بكليات الأزهر المتخصصة في اللغة وفي الشريعة أن تقبل تلامذتها من حملة الثانوية العامة دون شرط حفظ القرآن الكريم، فقتلنا بذلك اللسان العربي. ومنذ سمحنا لدار العلوم أن تقبل حملة الثانوية العامة دون شرط حفظ القرآن الكريم الذي كان أساسيًّا لقبول الطلبة في هذا الحصن الحصين للغة القرآن والتراث.
وكان الطلبة في كليات الأزهر وكلية دار العلوم يدرسون الشعر في جميع عصوره ويحفظون ألفية ابن مالك فيصبحون مرجعًا في النحو، ويدرسون العروض وبحور الشعر وكل ما يدخل عليها وما يتصل بها فكان عندنا علماء في علم اللغة. إن فات بعضهم الذوق الأدبي الرفيع لم يفُته العلم اللغوي الراسخ …
ولقد صرخت على صفحات الأهرام … أعيدوا الأزهر إلى الأزهر، وتفضَّل الشيخ الأكبر الدكتور بيصار رحمه الله واتصل بي وأراد أن يزورني، فعزمت عليه أن أزوره أنا وفعلت، ووعدني بأن الذي أطالب به سيتحقق في مدى عامين، ومرت خمسة أعوام ولم يتحقق شيء، وكنت قد كففت عن مواصلة المطالبة بعودة الأزهر إلى الأزهر مكتفيًا بهذا الوعد من إمامنا الأكبر، ولكن الأزهر أفلح في إسكاتي فقط، وهذا أمر هين لم يكن يحتاج إلى كبير جهد، ولم يُفلح الأزهر أن يعود إلى الأزهر حتى اليوم.
وما النتيجة؟ النتيجة هذا الخطاب الذي قرأته في بريد الأهرام في يوم الخميس ٨ ديسمبر والذي كتبه طالب بالثانوية العامة عن جميع زملائه طلبة الصف الثالث علمي وأدبي بمدرسة لم تذكرها الأهرام، ولست أدري لماذا، أو ربما كنت أدري. وقد نشرت الأهرام الخطاب بعنوان رسالة بليغة، وعلق عليه المحرر بصرخة ألمٍ وذعر، وقد هالته الأخطاء التي جاءت في الخطاب. وقد فكرت أن أُعيد نشر الخطاب، ولكنني رددتُ نفسي أو ردَّها عن ذلك شعورٌ بالغثاء والقرف وأنا أقرأ، فكيف أتمالك أن أنقل وكيف يستطيع القلم أن يخطَّ هذه الكارثة على ورق. لا تخف لن أنقل الخطاب إليك؛ فإن كنت قرأته مرة فحسبك مرة، ولن أزيدَك ألمًا بأن أجعلك تقرؤه مرتين، وإن كنت لم تقرأه فقد أنجاك الله ولا داعي لأن أصرف إليك من البلاء ما صرفه الله عنك سبحانه وتعالى.
ولكن حسبك أن تعلم أن الخطاب يكاد يخلو تمامًا من كلمة صحيحة في الإملاء، ولا أقول النحو وحسبك وحسبنا الله إنه نعم الوكيل. والذي كتب الخطاب هو الفصيح بين إخوانه، وأخواته هم طلبة الثانوية العامة الذين يختمون اليوم دراساتهم العامة؛ أي أنهم انتهوا فعلًا أو ينتهون هذا العام من دراسة اللغة العربية جميعًا، والذي لا شك فيه أنهم أتموا دراسة الإملاء والنحو.
هؤلاء هم المدرسون في غد والمحامون والأطباء والمهندسون ولسان مصر في المجتمعات العربية والدولية. وإذا كان هذا لساننا فنحن إذن بكم لا نبين ولا أمل لنا أن نقول. وويل لغدنا من غدنا وويل للغتنا من الناطقين بها.
فأي لغة عربية تلك التي نريد أن يدرس بها طلبة الطب؟ وأين هي؟ وعلى أي لسان تقال وبأي قلم تُكتب؟
كان الأزهر ودار العلوم هما حصن هذه اللغة، ورئيس جامعة الأزهر شيخ جليل عالم باللغة علمًا أصيلًا، وعميد دار العلوم واحد من أدباء عصره شاعرًا وأستاذًا وعالمًا بأسرار اللغة وخوافيها …
ولكن ماذا يستطيع الرجلان أن يصنعا؟
إني واثق أن الدكتور أحمد هيكل عميد دار العلوم يبذل من الجهد أقصاه ليقوم اللسان العربي على شفاه طلبته، ولكن كلنا يعلم أن الاتصال باللغة يكون في السنوات الخضر من حياتنا، تلك السنوات التي تعلم فيها الدكتور هيكل القرآن الكريم في الكُتَّاب، فاستقام لسانه واستقامت له اللغة وأحبها وأحبته فماذا هو صانع مع طلبة يلتحقون بكليته المسئولة عن تخريج أساتذة اللغة، واللغة عليهم غريبة، ولولا المجموع — لعن الله اليوم الذي عرفناه فيه — ما التحق هؤلاء بكلية دار العلوم، فهم يدرسون اللغة العربية لأنهم لا يملكون أن يدرسوا شيئًا آخر.
واللغة العربية — شأن كل لغة — كائنٌ حي ذو مشاعر وإحساس؛ فهي لا تحب مَن لا يعشقها ولا تفتح نوافذها وتكشف أسرارها إلا لمن تعلَّم أنه سادنٌ في محرابها متعلق بأستارها واهب نفسه لها ولجمالها وإبداعها وفنون سحرها. أما الشيخ الدكتور فرهود فالأمر بالنسبة إليه أكثر صعوبة، وكيف له أن يواجه هذه الكليات التي تدرس الشريعة واللغة والطلبة قادمون إليه لا يكادون يعرفون أن اللغة العربية اسمها العربية. كان الله في عونه وعون الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في هذه الكليات.
ولقد نسمع قائلًا يقول إن الصحابة لم يكونوا كلهم حافظين للقرآن الكريم.
ولكن لغة الصحابة كانت هي العربية، ولم تكن قد عدت عليها تلك العجمة التي تراكمت على اللسان العربي نتيجة اتصاله بالفرس والروم والترك ونتيجة مرور ألف وأربعمائة عام على نزول القرآن الكريم.
وحين ننادي اليوم بحفظ القرآن الكريم وعودة الأزهر إلى الأزهر لا نطالب بذلك خوفًا على القرآن الكريم، جل أن يخاف عليه أحد، وقد جاء فيه وعدُ قيومِ السموات والأرض: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وقد فعل والمطابع اليوم تطبع أعدادًا من المصاحف لا تطبعها من أي كتاب آخر، ولكننا نطالب بحفظ القرآن الكريم لنحافظ على لغته ولغتنا التي بغيرها لن يستطيع عربيٌّ أن يكلِّم عربيًّا.
ونطالب بحفظه لنجد في غد هداة ودعاة يعرفون كيف يعلِّمون الأجيال دينهم ولغتهم.
وما أجهل أجيال اليوم بدينهم؛ هذا الجهل الذي نشهده من المتطرفين وهم يُعرضون على الرأي العام في شاشات التليفزيون، وما أجهل أجيال اليوم بلغتهم هذا الجهل الذي لا يحتاج إلى دليل أقوى من ذلك الخطاب الذي نشرته الأهرام يوم الخميس ٨ ديسمبر فملأت به نفوسنا حسرة وألمًا … ومرة ثانية وثالثة وألفًا … حسبنا الله ونعم الوكيل.