خواطر ونقد
كم من خاطرة راودَتني في هذا الأسبوع وكم أردت أن أصيح بأقوام أن اسكتوا عن باطلكم حتى يُتاح لنا أن نسكت عن حقنا، فويل لزمان يعلو فيه صراخُ الباطل ويتخافت فيه صوت الحق، وويل لزمان يجعل المشرق غربًا والغرب مشرقًا، ويجعل الهُون مجدًا والمجد هوانًا على أعمدة السموق، وكم قاسيتُ من نفسي، وكم قسوتُ عليها أن تكفَّ عن المضيِّ في هذا السبيل الذي أصبحتُ أَضيقُ بالكتابة فيه زهدًا وإجلالًا للقرَّاء أن أجعلَهم يقرءون عن أمرٍ هم به محيطون، وبعضهم اصطلَى أواره وبعضهم به من آثاره جروحٌ دامية لم تزَل وما أحسب أن دماءَها ستنضب. وكم كففتُ نفسي حتى لا أقولَ ما يعرفه جميع بني آدم أن كرامة الإنسان وعِرْضه هما أثمن ما في الإنسان، وأن الإنسان هو سيد المخلوقات، ولا شيء في العالم يعوِّض الإنسان عن سحق الآدمية فيه، ولا شيء في العالم يعوِّض الشعب عن إذلال وطنه في ساحات الشرف وامتهان عقيدته وهي طريقه إلى السماء.
أيها القلم فلتكفَّ فورًا عن الاسترسال فإني أعلم أنني إذا لم أقمعك بعزم ستمضي لا تقف.
هل بنا إلى ديوانِ شعرٍ جديد ظهر لصديقٍ قريبٍ إلى نفسي قرابةَ أخٍ وحْي ديوانِه معي؛ فإن هذا لا شك أحب إليك من حديث تمقته، وأين حلاوة الشعر من مرارة الأسى.
أما الديوان فهو «لا تسأليني»، وأما الشاعر فهو العالم الأديب الأستاذ الدكتور عبد العزيز شرف، وما عبد العزيز بغريب عن قرَّاء العربية عامة ولا عن قرَّاء هذه الصفحة خاصة فهو من عُمُدها.
هذا الديوان فيض شعور، فهو أشبه ما يكون بلحن جميل متناغم المقاطع عذب، إذا قرأته انتشيت وإذا أعدتَ قراءَته أعجبتَ — اقرأ معي:
كم هو جميل قوله مثل أعراض التحية، ولا أحسب أن الدكتور عبد العزيز قد ذكر الأبيات الجميلة عن التحية حين ألهمَته شاعريتُه هذا التعبير الشعري المشرق، أما أنا فتذكرت تلك الأبيات القديمة:
وما أجمل الشعر الذي يذكِّرك بالشعر الجميل. وهكذا استطاع عبد العزيز أن يجعل هذه الأبيات الرائعة تثب إلى خاطري، ونعود إلى الديوان ونمضي بين بساتينه الفواحة العبير، ونقف عند نفثه:
إن أجمل ما في هذه الأبيات أنها تجمع بين البساطة الحديثة وبين الأصالة العربية. وأعجب معي لأقوام يُقيمون موازين للجمال من صنعهم ما أنزل الله بها من سلطان. إن الشعر الجميل جميل في كل عصر، وإن أثره هو أثره منذ الجاهلية الأولى وحتى اليوم، وإنه ليتسرب إلى النفس فيشيع فيها أسمى معاني الإنسانية وأشرفها حتى كان الإنسان يدفُّ بجناحَين ملكًا في السماء بعيدًا عن الأرضية وكل ما في البشر من شرور.
وقد أحسن الدكتور «شرف» صنعًا بذلك الفصل الذي أضافه إلى الكتاب بعنوان «مع النصوص الشعرية» بقلم الدكتور كمال إسماعيل، والفصل من أعمق البحوث التي قرأتها عن الشعر. وحين يتكلم الدكتور كمال عن عبد العزيز شرف يقول في أول حديثه: زعم أحد المثقفين أن الدكتور عبد العزيز شرف رومانسي وتساءل هل نحن بحاجة إلى مزيد من الرومانسيين. وأترك الدكتور كمال إسماعيل يجيب إجابة مفصحة، وأتناول هذه القضية التي يُثيرها بعض النقاد حين يصنفون الشعراء والكُتَّاب عامة إلى رومانسيين ورمزيين وواقعيين فتلك من المضحكات المبكيات؛ فالشاعر أو الكاتب لا يُعير هذه التصنيفات أيَّ التفات، وإنما هو يلتقي مع نفسه ويكتب فنه، وليس يعنيه في قليل أو كثير هذا التصنيف بل إنني أحسب أنه لا يعني أحدًا.
واسمحوا لي الآن أن أقدم رواية قرأتها، فما دمت قد أمسكت قلم الناقد، وطفت به في بحور الشعر فمن حق الرواية عليَّ أن أتناول ربوعها بالحديث، وأنا منها وهي مني على وشيجة من القربى، وعلى آصِرة من الحب لا تجيزان لي أن أنساها إذا أنا ولجتُ من باب الناقدين. الرواية من أعظم ما قرأت في السنوات الأخيرة، وكاتبها الناقد العالم المتمكن العميق الدكتور نبيل راغب، وليس نبيل غريبًا على الرواية؛ فقد مارسها سنوات ناقدًا وأستاذًا دارسًا ثم كتب بعد ذلك عدة روايات فاستطاع أن يفلت من أسوار النظريات إلى ساحات الفن المترامية الأطراف.
وروايته هذه التي قرأتُها أخيرًا هي «درب الشوك»، وقد استطاع نبيل فيها أن يمزج في براعة فائقة بين التاريخ القريب وبين الإبداع الفني حتى لقد ظنَّ كثيرون ممن قرءوها أنها وقعَت، وأنه إنما يروي وقائعَ ولا يُبدع فنًّا. ويوشك كثير من القرَّاء أن يروا كل اسم من أسماء الرواية إلى اسم إنسان عرفه الشعب المصري وذاع أمرُه فيه.
وأشهد أنني لم أقرأ عملًا مشابهًا لرواية الدكتور نبيل راغب قبل هذا، وأشهد أنه وُفِّق غاية التوفيق في هذا المزج الرائع بين التاريخ القريب وبين الفن الروائي.
وأما الرواية من الناحية الفنية فهي شائقة السرد، ولا يزال التشويق من أهم مقومات الرواية وإن رغمت أنوف.
وإنني أهنئ الأستاذ الدكتور نبيل بروايته هذه وأهنئه بلغته العربية الجميلة المتدفقة في طبيعة وفي غير قسر ولا اصطناع، وأرجو أن يضيف إلى مكتبة الرواية كثيرًا من هذه الأعمال الرائعة.