الكاتب حق
قد يحسب بعض الشباب من الكُتَّاب أن الكاتب ثورة دائمة، ورفض مطلق وتلك نظرة سطحية فجة، أن الكاتب أولًا وأخيرًا كلمة حق، أنه صدق مع نفسه ليكون عند الناس صدقًا، وإن لم يكن الكاتب عند الناس ثقة وحقًّا فهو لا شيء وليس يُجدي أن يكون له مصفقون وهتافون ودعاة بين الصحفيِّين، فكل هؤلاء لا يستطيعون أن يجعلوا القراء يحترمون الكاتب في دخيلة أنفسهم.
ليس الكاتب مجرد ضجة في الحياة، وليس هو طلقات مدافع في الهواء فذلك شأن أصحاب السرك والبهلوانات وليس شأن الكاتب. إن الكاتب لا عمل له في الحياة إلا أن يكون موصول الوشائج بالجماهير يخاطب عقولهم، ويهز عواطفهم ويَصِل إلى الخوافي البعيدة عن نفوسهم، ولن يستطيع كاتبٌ أن يبلغ من هذا شيئًا إذا لم يصل إلى مكانة شريفة عند القارئ، فإن القارئ لن يفتح عقله وقلبه وعواطفه إلا لمن يثق به ويقدِّر مكانته. قد يختلف معه الرأي ولكنه يحترمه.
وما دام يحترمه فإنه سيناقش رأيه ويواجه كل حجة، وكل رأي برأي؛ فإما أن يقتنع بما يقول الكاتب أو يرفضه، ولكنه على الحالين يوقر الكاتب وينزله من نفسه منزلة التقدير والإكبار والإجلال.
والقارئ الذي يستحق لقب قارئ لا يأبه بحفلات الزفاف التي تقام لأي كاتب، وليس يعني بالمواكب التي يصطنعها أصدقاء كاتب ما لأعماله، ولا يأبه القارئ الجدير بهذا اللقب بطلقات النار التي يطلقها الصغار في زفة الصحافة مصوبة إلى الهواء إنما القارئ يعني فقط بما أنتجه الكاتب من عمل، مقالة كان هذا العمل أو رواية أو قصة أو كتابًا أو كان العمل قصيدة أو ديوانًا.
قد تصلح هذه المواكب أن تجعل الكاتب شهيرًا، ولكن إن كانت الشهرة وحدها هي ما يسعى إليها الكاتب فهذا أتفه من أن يكون كاتبًا وأحقر من أن يحمل قلمًا، إنما الشهرة التي يصيبها الكاتب أثرٌ جانبي يتم له دون أن يسعى إليه، فليس الكاتب مهرجًا يوزع إعلانات الحفلات ولا هو طبالًا يضرب طبوله ليعلوَ منها الصوت ثم لا تقول شيئًا.
إنما الكاتب رأيٌ، والرأي منطق والمنطق ثقافة، والثقافة جهد وبحث وعناء وإن حاول الكاتب أن يستغنيَ عن هذا جميعًا بادعاء الثورة على مجتمعه، أو بالتظاهر برفض كل ما هو مستقر من قِيَم جماعته وأمته. فإنه قد يشتهر أمره بين الناس حينًا ثم ما يلبث أن يخبوَ منه الضوء فما هي إلا عشية وضحاها حتى يصبح بين الناس أضحوكة، أو يصبح على الأقل نسيًا منسيًّا، وإن دام حوله التهليل وإن علَت باسمه الطنطنة فإنه سيظل عند الناس غير ذي مكانة ولا احترام ولا توقير.
وقد تسألني ما حديثك هذا عن القارئ الجدير بهذا اللقب، ومن حقك أن تسأل، فقد يظن بعض الناس أن كلَّ مَن يقرأ قارئ، وتلك أغلوطة ما أبعدها عن الصواب.
إن القارئ هو الذي يقرأ للكاتب وليس القارئ مَن يكتفي بأن يقرأ عن الكاتب، وإنه كثيرًا ما تكتب الصحف أخبار الكُتَّاب وأنباء ما يشهدون من ندوات أو ما يذيعون من مقابلات بالإذاعة والتليفزيون. وكثيرًا ما تتناول الصحف والمجلات أنباء طريفة عن بعض الكتَّاب قد تكون مسلاة للقرَّاء، أو قد تروي الصحف والمجلات أخبارًا عما يعد للكاتب من روايات في السينما أو الإذاعة أو التليفزيون أو المسرح، ولكن الكاتب ليس هذه الأخبار، وإنما الكاتب هو ما يكتب وما يقول لا ما يُكتب عنه من أخبار وما يقال عن أعماله من أنباء.
ولا بأس بالقارئ أن يطالع هذه الأنباء، ولكنه إن لم يقرأ ما كتبه لكاتب من إنتاج أدبي فهو ليس قارئًا، وإنما هو واحد من الناس الذين يريدون أن يتسلَّوا بالحديث عن أنباء الكُتَّاب.
القارئ الجدير بلقبه هو هذا الذي يتابع الكاتب فيما يكتب، وليس فيما يحيَا من حياته الخاصة، وهؤلاء القراء نادرون.
أذكر أنني كتبت بجريدة الأخبار مقالةً نقدية عن عمل لأستاذنا نجيب محفوظ، وفي يوم ظهور المقالة وكان ذلك منذ عشرين عامًا ونيف — ظهر بالصفحة الأخيرة من الأهرام خبرٌ عني أنني دعوت ممثلة كانت مرشحة لدور في فيلم عن إحدى رواياتي إلى بلدتي بالشرقية، وأنني قدمت لها الفطير المشلتت. وأذكر في ذلك أنني لم ألقَ أحدًا من الناس إلا حدثني عن خبر دعوتي للممثلة إلى بلدتي غزالة، ولم ألقَ أحدًا حدثني عن المقالة التي نشرتها بصحيفة الأخبار. كل هؤلاء الذين لقيتهم في هذا اليوم لا أعتبرهم قرَّاء، إنما هم مطالعون يبحثون عن الأنباء المسلية ليملئوا فراغ يومهم فهم يتسلَّون بنا ولا يقرءوننا.
وأذكر أنني دُعيت إلى ندوة عن رواية لي بقصر الثقافة بالإسكندرية لمناقشة رواية لي كانت قد عُرضت بالتليفزيون. ولكن الندوة كانت لمناقشة الكتاب طبعًا لا العرض التليفزيوني، فأنا مسئول عن كتابي الذي أوقع عليه ولست مسئولًا عن أي عمل ينتج عن رواية لي سواء كان ذلك في السينما أو التليفزيون أو المسرح أو الإذاعة.
وقبل الندوة جلست بحجرة رئيس قصر الثقافة ليقدم لي فنجان قهوة، وبينما أنا في هذه الحجرة قَدِمَ إليَّ أستاذ ذو وقار ووجاهة وقدَّم نفسه لي، فإذا هو أستاذ أدب عربي بإحدى الجامعات فرحبت به واستقبلته بما يخلق بأستاذ جامعي، وجلس الدكتور إلى جانبي وراح يمتدح روايتي موضوع الندوة، ويبدي إعجابه الشديد بها. وفي سؤال عابر لم أكن أشك في إجابته بل ربما دعاني إلى طرحه ذلك الارتباك الذي أشعر به دائمًا إذا طالعني المديح مواجهة. فأنا حينئذٍ لا أجد شيئًا أقوله إلا غمغمة ليس لها معنى وهمهمة لا تكاد تبين، وجمعت كلمات سؤالي بصعوبة بالغة وقلت للدكتور: طبعًا حضرتك تتحدث عن الكتاب، وصعقت وأنا أسمعه يقول في بساطة بلهاء.
– لا والله؛ فأنا لم أقرأ الكتاب، وإنما شاهدته بالتليفزيون، وطبعًا لم أُكمل الحديث معه والتفت إلى الآخرين الجالسين معنا، ورُحت أتحدث إليهم وكأن الدكتور غير موجود. إنه ليس بقارئ فكيف يكون أستاذًا.
والكاتب لا يعني بهؤلاء الذين يقرءون عنه، وإنما يهتم اهتمامًا بالغًا بمن يقرءون له.
والكاتب أيضًا ليس يعني بمن يسبُّه لمجرد السباب أو يمتدحه لمجرد المديح، وإنما يعني كلَّ العناية بمن يعارضه رأيًا برأي وحجة بحجة، ويعني كل العناية ويحمد غاية الحمد أولئك الذين يمتدحونه عن بينة ووعي مقدِّرين فنِّية العرض عنده، وعُمْق المعاني التي يعبر عنها، والأبعاد التي تنبعث من أعماله.
ولا يستطيع كاتب أن يُرضيَ الناس جميعًا. وأذكر في عام ١٩٥٨ أن ناقدًا تناول عملًا لي بنقدٍ قاسٍ عنيف في إحدى المجلات العربية، ووجدت نفسي وأنا أقرأ المقال أثور ثورة عارمة وأُعدُّ نفسي للرد عليه. وفي غضبتي طلبت أستاذنا نجيب محفوظ لأُشهدَه على هذا النقد الجائر الذي كتبه ذلك الناقد، فإذا نجيب يشعر بالثورة التي تعتمل بنفسي ويقول في هدوء رزين: الله … ماذا جرى يا فلان. وهل تنتظر أن يرضى عنك كل الناس، إننا إذا أرضينا نصف قُرَّائنا نكون قد حققنا نجاحًا ساحقًا.
ونزلت كلماتُه على ثورتي ماءً قراحًا، ووجدتُ نفسي سعيدًا بعد غضب، هادئًا بعد فورة. إذا كان نجيب محفوظ يقول هذا فإنه يصبح حتمًا عليَّ من الحتم ألَّا أغضبَ لنقد أبدًا.
ومنذ ذلك الحين لم أردَّ على ناقد لعمل لي قط، وما أحسب أنني سأرد على ناقد لي أبدًا، وفلسفت هذا الموقف لنفسي بأنني إذا كنت اليوم حيًّا وأستطيع أن أناقش ناقدًا فماذا أنا صانع في غد حين أكون بجوار رب كريم وينقد ناقد كتابًا لي. واقتنعت أيضًا أنه ما دام الناقد قد كوَّن رأيه عن كتابي على النحو الذي نشر به نقده فذلك شأنه، فإنه إذا كان صادقًا مع نفسه فهو يعبِّر عن موقع عملي في نفسه تعبيرًا أمينًا. أما إذا لم يكن صادقًا مع نفسه فما حاجتي إليه وما حيلتي فيه.
أما الذي يسبُّني دون نقد فإنني أجد نفسي كإنسان مسوقًا إلى الرد عليه لأبيِّن له على الأقل أن السباب أيسر الأمور، وإنه إذا كان يُبيح هذا لنفسه فعليه أن يتحمل ما أبيحه أنا أيضًا لنفسي.
أما إذا كان السباب من نكرات يحاولون به أن يتواثبوا على أكتافي فإنني أحرمهم من تحقيق أملهم ولا أذكرهم وكأنهم ما قالوا وما كانوا.
والكاتب صاحب رأي ولكل صاحب رأي معارض. وكم اختلفت مع أبي الروحي وزعيم كُتَّاب العرب توفيق الحكيم، وكم احتدم بيننا النقاش، ولكن هذا الخلاف لم يستطع يومًا أن يمسَّ شعوري نحوه بالبنوة وشعوره نحوي بالأبوة؛ وهي بنوة وأبوة لا تقف عند المشاعر بل وتعدوها إلى أنه يعتبرني المسئول الأول عن كل ما يمكن أن يطلبه أب من ابنه في مألوف حياة الأبناء والآباء.
وكم اختلفت مع أخي الأعز الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، وقد كتب كلٌّ منَّا رأيه المعارض للآخر فما ندَّت مني كلمة تمس احترامي له وإكباري، وما خط قلمه في معارضتي إلا كل حب وعفة.
وأذكر أنني عارضتُ رأيًا له في مجلس الشورى معارضةً عنيفة ثم خرجنا معًا من الجلسة بعد انتهائها وجلسنا في استراحة الأعضاء نتبادل الحديث ونرتشف القهوة، ويمر بنا إخواننا الكرام أعضاء المجلس فيُصيبهم الدهشة والعجب، كيف عارض كلٌّ منا الآخر داخل الجلسة ثم خرجنا وكان كلٌّ منا يؤيد الآخر. ولم يدهش الأعضاء بعد ذلك حين رأوه ورأوني يؤيد كلٌّ منا الآخر داخل الجلسة في كثير من الآراء. فإن المعارضة بيننا هي في ذاتها عارضة وليست أصيلة، وهي أيضًا لا تجرؤ أن تمسَّ تلك الصلة الحميمة الحبيبة العميقة التي تربط الصديقَين الأخوَين منه ومني.
الوحيد الذي لم أختلف معه قط هو أستاذنا نجيب محفوظ على طول سنوات الصداقة الحميمة بيننا، وهي صداقة تزيد عن صلات كثير من الأخوة وقد زادت — أدامها الله — عن أربعين عامًا. والعجيب أن توافقنا في أعمال أدبية كثيرة صدرت له ولي في أوقات متزامنة.
وبعد فأنا لا أعرف أنني — والحمد لله — لا أحمل عداوة لأحد من الكُتَّاب، ومهما تختلف بنا الآراء، فإنني أكِنُّ له الاحترام ما دام كاتبًا حقًّا وليس مزيفًا، وأعتقد أو ربما يحلو لي أن أعتقد أنه هو الآخر يحتفظ لي بنفس هذه المشاعر.