معذرة … شكسبير
فالأمر الذي لا شك فيه أنك علمت ما صنعناه بك. فأنت الآن روح بلا جسد، وأغلب الأمر أن روحك تتابع مسرحياتك حينما تمثل هذه المسرحيات، يعينك على ذلك أنك تخلصت من قواعد الجسوم، وابتعدت عن دنيا الناس، وأنت رأيت ما صنعه بك التليفزيون المصري منذ بضعة أيام، ولكن دعْني أروي للناس ما صنعه عباقرة المسرح بنا نحن المشاهدين العُزَّل الذين لا نملك لسيطرتهم التليفزيونية دفعًا أو دفاعًا، وإنما ينفردون بنا ويصبُّون علينا جام عبقريتهم في ظلم لا يعرف الرحمة وفي قسوة لا هوادة فيها ولا شفقة.
أعلنوا يا شكسبير أنهم سيمثلون رواية من خوالدك في التليفزيون فانتعشت بنا الآمال وأعددنا أنفسنا لمشاهدة شكسبير.
وجاء الموعد، وبدأ عرض المسرحية ويل للخالدين. ما هذا الذي يصنعونه بشكسبير، ولأي فئة من الناس يقدمون أعماله، ومَن هؤلاء الذين سيشاهدون شكسبير باللغة العامية ويحمدون ما يشاهدون، أيُّ استخفاف هذا الذي يأخذون به الأعمال الجادة الرفيعة؟ إذا كنا لا نريد أن نحترم شكسبير أفلا نحترم لغتنا العربية على الأقل. ولكن لا، ما إلى إهانة شكسبير قصدوا، وإنما المقصود بالإهانة هي اللغة العربية ذاتها، فهكذا استقر بهم الرأي، أن التقدمية والحضارة والسمو ومواكبة الزمن لا تكون إلا بتحطيم اللغة العربية، واصطناع العامية، وقد استطاعوا بصوتهم الجهير النكير أن يجذبوا إلى ميدانهم العامي كاتبًا أكنُّ له كلَّ احترام وتقدير وهو الدكتور سمير سرحان الذي اختار العامية ليترجم بها شكسبير وهو شكسبير.
والدكتور سمير سرحان من القلة النادرين الذين يعرفون قدر شكسبير كل المعرفة، والذين يُجيدون لغتهم العربية كل الإجادة، ولست أدري ما الذي حدَا به أن يختار العامية ليترجم بها شكسبير، ولست أدري أيضًا لماذا قَبِل التليفزيون إذاعتَها. أغلب الظن أن الدكتور سمير أراد أن يجدد شكسبير، وأن التليفزيون المصري أراد أن يُكرم العامية ويبالغ في تكريمها؛ لأنه يرى العربية غير جديرة بالتكريم؛ لأنها أصبحت شيئًا قديمًا باليًا لا يصلح لغة للحديث.
وربما خشيَ التليفزيون المصري أن يرميَه الجمهور بالثقافة فينصرف عنه ويبتعد عن مشاهدته، كأن التليفزيون قد أصبح فجأة شركة إنتاج سينمائية تخشى ألَّا يشتريَ المشاهدون التذاكر، وتصبح الخسارة خسارة مادية، وكأني بالتليفزيون قد ضحَّى بالمكسب الثقافي ليضمن الربح المالي. وتلك إذن عجيبة، فالذي أعرفه أن هذه المسرحيات تُباع إلى الدول العربية، والذي لا شك فيه أن اللغة العربية أيسر عند هذه الدول من اللغة المحلية المصرية. والذي لا شك فيه أيضًا أن الشعب المصري يفهم العربية ويقرأ بها صحفه، ويسمع بها نشرات أخباره في التليفزيون والإذاعة على السواء.
ولكن اللغة العربية مع ذلك أصبحت غريبة في مصر منذ هجر الأزهر الشريف بناء الأزهر الشريف، ومنذ أصبحت دار العلوم وقد انهار الأساس الأعظم الذي كانت تقوم عليه من شرط حفظ القرآن الكريم للانتساب إليها.
منذ هذا اليوم الأغبر الكئيب في حياة مصر أصبحت اللغة العربية بلا دار تحتمي بها وبغير موئل تأوي إليه. وجاء التليفزيون بمذيعاته اللكناوات فازدادت اللغة العربية تشردًا ثم أمعن التليفزيون فعرض الروايات المترجمة من اللغات الأجنبية باللغة العامية ثم ازداد اليوم إمعانًا فعرض شكسبير وهو شكسبير باللغة العامية.
أتعجبُ بعد ذلك أن نجد شبابًا لا يقوم لسانه، ولا يعرف لغته. ولغته هذه هي قوام دينه وأساس إيمانه وعلى صرحها الشامخ وفي قمته يقف القرآن الكريم محفوظًا مقدسًا بأمر من العلي القدير، مجهول الأصول تختلط معانيه وأوامره ونواهيه عند الشباب.
ويريد الشباب أن يكون مؤمنًا، ولكنه يجهل الطريق إلى الإيمان؛ لأن صلته باللغة التي يفهم بها قرآنه مقطعة الأسباب، ممزقة الروابط، منفصلة الأوشاج، وتُبلى مصر بالطامعين في الدنيا البائعين لآخرتهم بثمن بخس من رغبة في سلطان فيحرفون كلام الله عن مواضعه، ويتخذون منه وسيلة إلى عقول الشباب البريء الساذج، ويُشعلون الحريق، ويؤججون النار، ويعينهم جهل الشباب بلغتهم وقرآنهم ودينهم، فإذا مصر المسلمة المؤمنة حصن الأزهر وسماء الآلاف من المآذن تصطلي من اجتماع الأغراض الدنيوية الرخيصة بجهل الشباب الفادح.
وإذا كنا نبكي دمًا في مصر، فإننا نبكي دمًا وروحًا وقلبًا لتفشِّي الأمية الدينية عند الشباب، وتفشي الضمير الميت وبيع الآخرة بالدنيا عن المغرضين من مثيري الفتن ومشعلي الحرائق.
والإيمان أعز ما يملك الإنسان في حياته على شاطئ منه كريم يرسو المضطرب من حياتنا، وعند مرفأ منه مضيء يُشرق ما اعتراه اليأس من مالنا، وعند حصن منه منيع تلوذ نفوسنا من نزعات الشيطان، ومن إغراءات الحياة، ومن اللذة الهدامة، ومن المال الحرام، ومن الكذب والنفاق والسحت والرشوة وبيع الضمير.
ولكن المغرضين ممن يدعون بالدين علمًا وما هم بذاك جعلوا من دينهم ساحة يصحبون فيها الشيطان، ويُقبلون فيها على إغراءات الحياة من لذة ومن كذب ومن نفاق ومن سحت ومن رِشًا ومن ضمير مباع، ولكن الله أكبر، والعزة له وحده ولا غالب إلا هو سبحانه.
إن في مصر مشايخَ أجلاء قادرين دائمًا أن يجعلوا الصحيح وأن ينفخوا في الباطل فإذا هو زبد جفاء، ويظل الباطل كما كان وكما سيبقى زهوقًا هشيمًا محطمًا، وقد قال المصابيح الهداة كلمتهم وهم العلماء الأئمة ارتضيناهم للفُتيا في شئون ديننا وأخذنا عنهم علمنا بكريم كتابنا وبالصحيح الثابت من سنة رسولنا ﷺ.
وما دعَا كتابنا يومًا إلى الفتنة؛ بل جعلها أشد من القتل، وعلى هَدْي هذه السنن سار سيد البشرية وخاتم الأنبياء ﷺ، أم جعل المغرضون من أنفسهم أنبياء جددًا. إذن فقد باءوا بسخط من الله وبغضب من رسوله وممن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين. إن الأمر جدٌّ لا هزلَ فيه، فما لي إذن أرى وفي التليفزيون أيضًا شيخًا يختلق قوانين ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعل من اللمم كفرًا، أي ردة؛ أي أنه يريد أن يقيمَ حدَّ المرتد على مخطئ أو مخطئة في رأيه دون أن يثبت خطؤها في عرف جمهور الفقهاء ولا كبار أئمتهم.
إن إنشاء الجريمة لا يكون إلا بنصٍّ صريح من القرآن ذاته، ولا يجوز فيها قياس ولا استصحاب ولا استحسان، ولا اجتهاد، فإنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
إذن فهم لم يكتفوا أن يجعلوا من أنفسهم أنبياء جددًا، ويريدون أن يصبحوا آلهة أيضًا، أم تراهم لم يقرءوا ما جاء في معنى الحديث النبوي الشريف: مَن حلَّل حرامًا أو حرَّم حلالًا فليتبوأ مكانه من النار. أو كما قال. فإن لم يكونوا قرءوه أو عرفوه ففيم تصدِّيهم للفتيا، وفيم جرأتهم على حدود الله، وكيف تبلغ بهم القحة أن يُنشئوا جرائم تترتب عليها حدود منها إعدام النفس التي حرَّم الله إيذاءَها إلا بالحق.
اللهم يا ذا الجلال نشهد أنه لا إله إلا أنت، ونشهد أنك قلت تعاليت وتعالى قولك: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا من الآية ٣ سورة المائدة.
اللهم يا ذا العزة أنت وحدك القهار فوق عبادك، وأنت القادر على الفاسقين من عبادك، وأنت وحدك تعلم ما لا نعلم وما لا أحد يعلم، سبحانك إنك أنت العزيز القدير.