لو .. حرف امتناع الوجود
أنتمي إلى ثورة ١٩ بالمولد؛ فأبي أحدُ رجالها، وما أنا بحاجة إلى ذكْر دوره فيها، فقد أغناني عن ذلك كبير مؤرخي العصر عبد الرحمن الرافعي، كما أغناني الأستاذ عبد الحميد جودة السحار بما أورده في مذكراته عن هذه الفترة، وكذلك فعل كلُّ مَن كتب عن هذه الثورة الخالدة في تاريخ مصر.
وقد عرفت من أبي تاريخَ هذه الثورة منذ بدأَت حتى انتهت بتصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ ذلك التصريح الخالد في تاريخ مصر الذي قال عنه شوقي:
وهذا الكلام كان موجهًا يومذاك إلى حزب الوفد الذي رفض التصريح، ثم انتفع بآثاره بصورة لم تتحقق للحزب الذي أتى بالتصريح، والذي اشترك في وضع الدستور، وإذا نحن في هذا الحديث لما انتهينا، وما إلى هذه الأحداث نظرت وأنا أكتب مقالي هذا، وإنما هو استطراد أغراني به الحديث عن الثورة الخالدة.
وكنت عرفت فيما عرفت من أبي أن الثورة سنة ١٩١٩ بدأت في كلية الحقوق بعد أن كان الشعب المصري كله متحفزًا لها منتظرًا لقيامها في أية لحظة، فكانت مصر يوم ذلك شعلةً معبأة تنتظر الشرارة وتتوقعها من أي مصدر حتى انقدحت الشرارة من كلية الحقوق.
وعرفت بعد ذلك الرئيس السابق المرحوم خالد الذكر إبراهيم عبد الهادي باشا، وكنت دائم الزيارة له لفترة تقارب العشرين عامًا، وعرفت منه أن طلبة الحقوق نظموا مظاهرة تجمعت في فناء الكلية تهتف هتافات معادية للاحتلال الذي نفى سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل، ووقف ناظر الحقوق الإنجليزي يخطب في الطلبة ويأمرهم بأن يعودوا للدراسة التي جاءوا ليتلقوها، رافضًا منهم أن يعملوا بالسياسة، وصَعِد إبراهيم عبد الهادي من بين الطلبة ووقف إلى جانب الناظر وقال له: «إننا جئنا هنا لنتعلم الحقوق، ولا سبيل لنا أن نتعلم الحقوق من قوم نفوا آباءَنا عن أرض الوطن، وليس من المعقول أن نعرف الحقوق من قوم اغتصبوا حقوق بلادنا.» ثم هتف «تحيا الثورة» وبدأت ثورة ١٩١٩.
وقرأت مثل هذا أيضًا دون ذكر أسماء في كتاب الرافعي، وقرأته أيضًا بلا أسماء في الروايات التي أرَّخت للثورة مثل رواية أستاذنا نجيب محفوظ «بين القصرين»، وكتبته أنا في روايتي «الضباب»، ثم كتبته بصورة أخرى في روايتي «طائر في العنق»، وأيضًا لم أذكر أسماء لأن الرواية تنقل آثار الأحداث، وليس من شأنها أن تؤرخ للأحداث، ولكنها مع ذلك إذا تعرضت للتاريخ تحتم عليها ألَّا تشوه معالمه، وألَّا تطمس سماته الكبرى.
وكم أنا سعيد أن يُنشر هذا الذي أكتبه في نفس اليوم الذي اختاره الخالدون الثلاثة: سعد، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي ليذهبوا إلى المندوب البريطاني ويطالبوا بإنهاء الاحتلال والجلاء عن بلادهم بادئين بذلك أعظم ثورة شعبية عرفها التاريخ الحديث.
وكم أنا أسيفٌ حزين أن أذكر السبب الذي جعلني أكتب هذا الذي أكتب، فقد شاء قدري أن أشاهد في التليفزيون المصري رواية عن سلطانة الطرب «منيرة المهدية» فشهدت عجبًا.
رأيت تاريخ مصر تصنعه المغنيات والراقصات، ورأيت السينما المصرية تسجل كفاح مصر بزعامة أولئك المغنيات والراقصات، فقد شهدنا ألمظ وكأنها مصطفى كامل، وعبده الحامولي وكأنه محمد فريد، وشفيقة القبطية وكأنها سينوت حنا، وها نحن أولاء نشاهد منيرة المهدية وكأنها سعد زغلول، وزوج ابنتها إبراهيم عبد العال وكأنه إبراهيم عبد الهادي.
وتلك كارثة ولكن انتظر فإن الداهية الكبرى لم أذكرها بعد، لقد فوجئت أن كل الذي عرفته من أبي ومن إبراهيم عبد الهادي ومن عبد الرحمن الرافعي، ومن السحار ومن نجيب محفوظ، ومن كل الذين كتبوا عن ثورة ١٩١٩ وكل الذين عرفتهم من رجالات هذه الثورة مثل النقراشي باشا، وأحمد ماهر باشا، لم يكن تاريخًا وإنما كان تأليفًا.
فالثورة لم تنقدح شرارتها من كلية الحقوق كما روى أعلامها، وكما ذكر التاريخ وكما قالت الحِقَب.
وإنما الحقيقة كما جاءت في الفيلم أن الثورة بدأت من كباريه منيرة المهدية بين كاسات الخمر، وضرب الدفوف، وعزف الأوتار، و«هز الوسط»، ودق الصاجات.
وحسب تاريخ مصر الله؛ إنه سبحانه وتعالى نعم الوكيل.
ولكن يبقى شيء في هذا الفيلم التاريخي الجليل، فهو مثل كل المصائب ليس يخلو من ظاهرة تستحق التسجيل، فقد صور الفيلم عودة منيرة المهدية إلى الغناء في أخريات حياتها بعد أن يَبِس صوتُها، وجفَّ ماؤها وتقلَّصت عن نغماتها الطلاوة، وانحسر انطلاقها إلى خفوت ووهن.
والجمهور وحشٌ كاسر حين يتصدَّى للحكم على فنٍّ من الفنون، فهو لا يذكر للفنان الذي يعرض عليه فنَّه ماضيه ولا سابقته في الميدان، وليس يرعى له تقدُّم سن، وليس ينظر إلى السنوات الثقال التي يحملها المشتغل في الميدان العام مهما يكن نوع هذا الميدان؛ فنًّا كان أو سياسة أو ثقافة.
وإنما هو يُعنَى فقط بما يُعرض عليه.
وقد وقعت منيرة المهدية في خطأ فادح حين حاولت أن ترغم الأيام على الشباب، في حين الأيام عجوز مثقلة بالشيخوخة.
ولكن العجيب أن منيرة المهدية لم تكن أول مَن حاول هذه المحاولة مع الأيام، وهكذا لم يكن عجبًا أن تكون الأخيرة فما زلنا نشهد مَن يحاول أن يضفيَ الشباب على الشيخوخة.
ويعيد التاريخ نفسه، ويرغم الواقع الواهمين أن يفيقوا إلى الحقيقة ويفيئوا إلى الرشد، ولكنهم مساكين فإنهم لا يفيئون إلا بعد أن يكونوا قد أهدروا كرامة الكبر فيهم، وسحقوا جلال السنين.
وتلك سنة الحياة في أبنائها؛ فكل إنسان يظن أن ما يقع للآخرين لا يمكن أن يقع له، وكل إنسان يظن أنه استثناء من البشر لا يجري عليه ما يجري على سائر أبناء البشر.
ولو أن البشر اتخذ من تاريخ البشر عبرة لحفظ الكبيرُ كرامتَه، ولامتنعَ القاتل عن القتل، وارتدع السارق عن السرقة.
و«لو» حرف امتناع لوجود، فكيف تكون دنيا إذن إذا هي لم تمتلئ بالمضيعين لكرامتهم، الممتهنين لحياة الإنسان، المعتدين على حقوق الآخرين.