حياة من السير
كانت أنواع القطن التي تُزرع في مصر في ثلاثينيات هذا القرن نوعين هما — فيما أذكر — المعرض والزجورا، وكان الزارعون يختارون النوع الذي يجود محصوله في الأرض التي يقومون بزراعتها، وحدث أن جمع أحدُ أعيان الريف الظرفاء قطنه، وعرضه للبيع، وجاء إليه التاجر يريد أن يشتريَه وسأل التاجر: ما نوع قطنك؟
– أيهما الأعلى سعرًا؟
– المعرض.
– إذن فقطني معرض.
– عظيم، وأنا اشتريت.
ودفع التاجر العربون، وفي اليوم التالي أتى بالأكياس لتُعبأ، ودخل يرى القطن، ولكنه قبل أن يمدَّ إليه يده عرف القطن ونوعه، والتفت إلى الظريف البائع.
– ولكن يا بك هذا القطن زجورا وليس معرض.
– كيف؟
– أنا لا أحتاج للفحص.
– ولكن هذا الذي تقول غير صحيح.
– كيف؟ هذا أمر لا يختلف فيه اثنان.
– قُل لي أولًا؛ قطن مَن هذا؟
– قطنك أنت.
– فأنا وحدي صاحب الحق في تسميته، وقد سميته معرض وأنا حر.
وأصبح هذا الحوار نادرة يتندر بها أبناء المنطقة جميعًا على أنه نكتة يتناقلونها أو على الأقل هذا ما كنت أظنه أنا، حتى جاد علينا الزمن الأخير بجماعة من النقاد يصنفون الكتاب حسب ما يشتهون، يُثبتون مَن يشاءون في قائمة الأدب، وينفون عنها مَن لا يرضون عنهم، وإن كان الفلاح الظريف قد رأى أن محصول قطنه مِلكه هو يسميه بالاسم الذي يختاره، فقد رأى النقاد الذين أُشير إليهم أن الساحة الأدبية جميعها ملك لهم يُدخلون فيها مَن يشاءون ويمنعون عنها مَن لا يتفق معهم في المذهب، ومن لا يبذل ماء وجهه عند أقدامهم لينال منهم تذكرة الدخول إلى الساحة الأدبية التي استقر في أوهامهم أنهم يملكونها.
والإذن منهم بالدخول أو المنع يقع بأحكام نهائية لا حيثيات لها، ومن ثَم فهي أحكام غير قابلة للاستئناف أو لإعادة النظر.
فالحكم منهم يصدر بالصمت أحيانًا، أو يصدر في أحيان أخرى بمرسوم أو فرمان خديوي يرسم الأسماء التي يرضون عنها أدباء، ولا يذكر أسماء المغضوب عليهم.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يُدخل إلى جنته مَن أحسن عملًا، وإلى جحيمه مَن أساء، وإذا كان جل علاه يعرض الناس في يوم الحشر، ويحاكمهم مع أنه يعرف ما يُخفون وما يُبدون، وإذا كان تقدَّس عدله يريد لعباده أن يكونوا على بينة من أسباب الحكم لهم بجنات النعيم أو الحكم عليهم بعذاب الجحيم، فإن النقَّاد يستكثرون هذا على عباده من الكتَّاب، فيقرِّبون مَن يستلطفون ويتجاهلون مَن يستثقلون، ولا يقبلون أن يسألهم أحد من الناس لماذا، فهم يرون أنهم فوق السؤال بل المساءلة.
ولهذا لم يكن عجيبًا أن يصبح الكُتاب والقراء في وادٍ والنقاد في وادٍ آخر، صنعه لهم كِبْرهم الكاذب وخداعهم لأنفسهم واعتقادهم الموهوم أنهم من جنس غير جنس الناس، ومن طينة غير طينتهم.
ولما كان الناس الذين هم القراء لا يحبون أن يخاطبوا جنسًا غير جنسهم فقد أصبحوا بعيدين كل البعد عن النقاد لا يشعرون بهم، ولا ينتظرون رأيهم فيما يصدر من أعمال فنية. وتصدَّى القراء أنفسهم للحكم على الأعمال الفنية يُقبلون عليها بالقدر الذي يقدرونها به غير ملتفتين إلى النقاد وآرائهم.
ولكن هذا الحديث عن بعض النقاد ليس يمنعني أن أذكر أن هناك نُقَّادًا من الجيل الذي لا أستطيع أن أصفَه بالشباب، ولا أستطيع أن أتجاوز به الكهولة، ولكنه جيل يمثل عندي لطف الله الذي يرسله سبحانه عند كل خطب ليزيح بالأمل فيه قتامة اليأس.
ولكن أفراد هذا الجيل قلة لا تستطيع أن تواكب الأعمال الفنية الكثيرة التي ينتجها الكُتَّاب المنشئون.
أما النقاد الذين مارسوا النقد في الخمسينيات، والذين تجاوزوا اليوم الكهولة، والذين كنَّا نأمل عندهم أن يتصدروا حركة النقد الأدبي في مصر والعالم العربي فقد انشغلوا بغير النقد، وانصرفوا عن تقديم الأعمال الأدبية للناشئة، وعن تعميق الأعمال الفنية.
وإني أكتب هذه الكلمات في ذكرى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي ظل إلى آخر يوم من أيام حياته يشجع ناشئة الأدب، ويقدم أعمال الكبار من الكُتَّاب.
والدكتور طه حسين زعيم جيل العمالقة، وقد كان رحمه الله أديبًا شاملًا؛ لأنه أدرك أن الدور الذي ينبغي لجيله هو أن يفتح النوافذ جميعًا بين الأدب العربي والآداب العالمية جميعًا، فقد كان أستاذًا في الجامعة وكل أجيال الأساتذة في الأدب العربي اليوم هم تلامذة تلامذته، وهو أول مَن وضع النقد العربي على الأسس العالمية بعد أن كان النقد في كتب التراث لا يزيد عن أحكام جامعة أو استقصاء للألفاظ أو وضع قواعد نقدية للشعر وحده، وما كان هذا قصورًا عند هؤلاء النقاد القدامى فقد كان الشعر هو الأدب العربي كله، أو يكاد، ولم تكن الألوان الجديدة من الأدب قد ظهرت بعد في أدبنا.
فحين ظهر مسرح توفيق الحكيم بادر طه حسين يُشيد بهذه الظاهرة الجديدة في الأدب العربي، وحين ظهرت زينب لأستاذنا العظيم الدكتور محمد حسين هيكل باشا لم يكتفِ الدكتور طه حسين بالنقد، وإنما كتب في الرواية حتى لنكاد نقول إنه لم يترك لونًا من ألوان الرواية دون أن يكتب فيه، فهو يكتب صراع الإنسان مع عقبات الحياة في الأيام التي لا أحب أن أعتبرها سيرة ذاتية، وإن كانت تروي تاريخ حياته، إلا أنني أعتقد أن السيرة الذاتية لا تتحقق إلا إذا أسفر الكاتب سفورًا تامًّا عن اسمه وعن شخصيته الحقيقية، أما إذا روى عن شخص آخر حتى وإن لم يتخذ له اسمًا قائلًا عنه الفتى مثلما فعل الدكتور العميد، وإن هو اصطنع لأشخاص الرواية أسماء غير أسمائهم فإن العمل حينئذٍ يصبح عملًا روائيًّا لا يحاسب الكاتب محاسبة تاريخية، وإنما ينظر إليه على أنه إبداع فني.
وكتَب طه حسين الرواية الرمزية في شهر زاد، وكتب رواية الأسرة في شجرة البؤس، وكتب رواية الصراع في التقاليد في دعاء الكروان، وكتب صراع الإنسان بين آماله وقدراته في رواية أديب، وإنشاء الأعمال الفنية القصصية والروائية التاريخية، وعلى هامش السيرة وفي المعذبون في الأرض، ولا سبيل إلى الإحصاء الكامل. ثم ننظر إلى الدكتور العميد فتجده قد ألَّف في التاريخ أعمالًا أصبحت برائع أسلوبه وبتدفقه كالنمير حينًا وكالبحر أحيانًا، أعمالًا أدبية من سوامق الأدب العربي مثل مرآة الإسلام، والشيخان، والفتنة الكبرى.
ولا يقف الرائد العميد عند هذا بل يقدم الأعمال الفنية الكبرى في الأدب الفرنسي من مسرح وقصة.
فليس عجيبًا إذن أن يعرف العالم العربي هذا الجيل على أنه جيل الأدب الشامل الذي يُعمل قلمه في شتى مناحي الأدب وفروعه، وكان طبيعيًّا أن يكون الجيل التالي له هو جيل التخصص، فيتخصص أدباء في فنِّ الرواية والقصة، وآخرون في فنِّ المسرح، وآخرون في الأدب النقدي.
وقد ظهرت أجيال الروائيين، وتتابعت أعمالهم وملأت الساحة الأدبية في العالم العربي أجمع.
وظهر جيل المسرحيين وإن كان مقصرًا بعض الشيء، وظهر النقاد إلا أنهم قليلًا ما ثبتوا في مواقعهم ثم مالوا إلى الأدب الإنشائي أو البحث عن المال أو الصمت الكامل؛ فأصبحوا وهم لا ينتمون إلى الأدباء المنشئين ولا هم إلى النقاد ينتسبون، واكتفوا بأن يُطلقوا حكمًا عامًّا ظالمًا لا عدل فيه، ولا حق أن الحركة الأدبية قد خمدت ليعفوا أنفسهم من تأثُّر الأعمال الأدبية والكتَّاب الجدد، وتقديمها وتقديمهم، بينما الحقيقة التي لا شك فيها أن الحركة الأدبية ثرية غاية الثراء بما يكتب كبار الكتَّاب غنية كل الغناء بالأجيال الجديدة التي أصبحت اليوم مئات من القصَّاصين والروائيين والمسرحيين والشعراء.
وبعدُ فليس عجبًا أن تُثير ذكرى الدكتور العميد كل هذه الخواطر فهو مَن يصدق عليه قول أمير الشعراء:
رحم الله العميد والأمير جميعًا.