تتغير الدنيا ولا تتغير
ما أكثر ما نقرأ! وكم تخدعنا الكلمات المطبوعة فتجعلنا نقرأ ما كان يحسن بنا ألَّا نقرأَه، وقد ازداد الهزال وندر الكريم، واختلطت معاني الحياة فأصبحت الثقافة هي رقص العاريات، والعلم هو دعاية الفارغين، وساد تجار الشرف، وتوارَى ذو الخُلق الرفيع يُداري شرفه وسمو نفسه، وكأنه بهما من ذوي العاهات.
عصر بخيس مهين هو نتاج فترة رشا فيها القائمون على الأمر الجماعات كجماعات لا أفرادًا أو وحدانًا.
فسوَّلوا للعاملين أن يأخذوا ولا يعطوا، ورتبوا لهم حقوقًا ولم يرتبوا عليهم واجبات وانماع ميزان الحياة. فإذا العامل في المصنع لا يعمل إلا أن يلهوَ واثقًا أن العلاوة ستوافيه، وأن العقاب عنه قصيٌّ بعيد، وتنخرب مصر، ويهبط الإنتاج فيها، وتلجأ الدولة إلى الضمير فلا تجده أو إلى الأمانة فتفتقدها لتفقدها، ويعلو الضجيج مع ضجيج الآلات التي لا تجد مَن يُديرها.
ويزيد عدد المدافعين عن عدد اللائمين في زمن الخُلق الخراب والشرف المضاع، والضمير القتيل وبيد أصحابه كان القتل.
ويرشو عهد تلك الفترة التلاميذ، فيقدم لهم التعليم المجاني بغير قيد ولا شرط، وتنفق الدولة من دماء أبنائها الشرفاء، ويأبى التلاميذ أن يبذلوا بعض الجهد ليردُّوا فضل الدولة، ويرسب الطالب عامًا وعامين وثلاثة ولا يجد رادعًا ولا عقوبة فما له إذن لا يلهو ويلعب ما شاء. وما له لا ينصرف عن المذاكرة ما حلا له المنصرف ما دام واثقًا أنه في عامه القادم تلميذ وبمجانية كاملة أيضًا.
وحين يصيح شريف أوقفوا هذا العبث، تتعالى الصيحات في وجهه أن التعليم مجاني، وسيظل مجانيًّا. حتى للطلبة العابثين الماجنين اللاهين اللاعبين … نعم حتى لهم.
فإذا قال عقلاء ليكن التعليم مجانيًّا للجاد من الطلبة وليس للماجن، ارتفعت لافتة الفساد صائحة بل للجميع، وحين يقول قائل أليس هناك في مقابل كل حق واجب؛ يلفظون بما لا تفهم ويهلوسون بما لا يعقل. ونُصرُّ نحن على القول إن المجانية للشعب أن يتعلم على شرط واحد هو أن يكون راغبًا في التعليم لا راغبًا عنه، فإذا رسب الطالب مرة حُرم من المجانية، ولكن هل من مجيب؟
إن الزمانَ زمانُ لهوٍ ومجون، ونرى الفن في زماننا هذا فنجد الأشعار بلا موسيقى، ونرى الموسيقى بلا طرب، ونرى الرسوم بلا معنًى، ونرى الكلام وقد فقد مقوماته وأسسه فلا الرواية رواية، ولا القصة قصة، ولا التمثيلية تمثيلية، ولا المسرحية مسرحية.
ويدخل إلى الميدان مَن لا يدري عن أسسه شيئًا، ويسقط الذوق العام؛ فنرى التمثيلية فإذا هي مقالة، وترى المقالة فإذا هي عيٌّ وبلاهة، ونرى القصة فإذا هي حدوتة، ونرى الرواية فإذا هي ظلام وقتامة وانحطاط، وتنشأ طبقة من المغنين تضج ولا تطرب وتصوت ولا تقول، ونسمع الأصوات فإذا الحرف لا يكتمل كلمة، والكلمة لا تكتمل جملة، والجملة لا تُعطي معنًى، ويعم الخراب. فإن فن الحياة الخراب لا بد أن يكون خرابًا.
وتصبح البلد الوحيد في العالم الذي ينال الإنسان فيه حقوقًا ولا يتحمل واجبات فيسقط معنى الحياة ويسقط معها فنُّها.
وترى الرشوة وهي عماد الاقتصاد، ونرى صاحب القلم وهو يبيع قلمه، وهو يعلم أن مَن يبيع قلمه فقد باع شرفه، ونرى كُتَّابًا يتاجرون بالوطنية على شعبهم، ويزايدون بادعاء البطولة على قومهم وهم يدرون أنهم لصوص يسرقون ثقة القرَّاء بهم، وربما لا يدرون أنهم بما يفعلون شرٌّ من اللص الذي قد يسرق مالًا محدودَ القيمة بينما ثقة الشعب لا يساويها مال في العالم.
وأقرأُ بين خرف المخرفين أنه لا بأس أن تتغير بعضُ القيم؛ شاهَ من قائل وشاه قوله. كيف تتغير القيم .. هيهات. فإن القيم أصبحت قيمًا لأنها ثابتة لا تتغير.
فالقاتل منذ قتل قابيل هابيل قاتل، واللص سارق مرفوض من كل خلق ومن كل دين، والمرتشي ساقط الكرامة آكلٌ للسحت ملعون بنص كتابنا، والسحت هو الرشوة وهو ملعون من الله والناس، وملعون قبل الأديان، والخائن خائن وتاجر العرض في الحضيض الأسفل من المجتمع، وفي الدرك الأسفل من النار، والمنافق إنسان رخيص باع إنسانيته باختياره فصار شرًّا من الحيوان.
والشريف يظل شريفًا، والنبيل من الخلق يظل نبيلًا، ويظل السامق سامقًا.
ومرفوض قول القائل نترك الماضي، فإن فترة الطغيان هي التي حطمت هذه القيم، وقد نُصلح ما خرب ودُمِّر من وسائل الحياة، ولكن هيهات أن نُقيم ما تفسخ من قِيَمنا واضمحل إلا إذا أدركنا إدراك يقين لا شك فيه أن القيم ثابتة، وأنه لا يجوز لها ولا يعقل أحد أن يتغير منها شيء، ولا بد أن نعرف المائل حتى نُقيمَ مائله، وأن نستوثق من المعوج حتى نُقوِّم عِوَجه.
ولا يقولن قائل إن كل ماضٍ فات، فلا هو من الماضي ولا هو قد فات. فموسوليني ما زال يُلقي بظله على إيطاليا حتى اليوم، وهتلر ما زال تخريبه لألمانيا ماثلًا في تقسيمه لشعبها إلى دولتين تشقَى كلٌّ منهما بما جلبه عليهما، وشاه إيران هو مصدر ما تلاقيه إيران من دمار.
وقد شقينا بفاروق، ولا نستطيع أن نقول عنه إنه ماضٍ ولا من جاء بعده يعتبر ماضيًا.
فالتاريخ حلقات مترابطة متصلة لا تنفصل حلقة منه عن حلقة.
والذي نشهده اليوم من فساد ضمائر وفساد ذمم وانحطاط بشري هو بعض آثار الأيام القريبة التي رانت علينا بالطغيان.
والرئيس الحالي من أشرف من عرفت خلقًا ومقصدًا، وهو بهذا الشرف في الخلق والمقصد يريد أن يعيد إلى مصر وجهها المشرف النبيل. ومَن كان مثله شريفًا يكون ضيقه بالانحطاط مضاعفًا ألف ضعف، وهو يعلم علم يقين أنه لا بد أن تعود مصر للقيم التي نشأ في ظلها، وهو يعلم علم اليقين أن القيم ثابتة ثبوت الأزل — قط لم تتغير وأبدًا لن تتغير.
وأنه قد تتغير العوائد والتقاليد والمظاهر، أما القيم فهي أشد ثبوتًا من أعتى الجبال، تتغير الدنيا ولا تتغير.