وإن خالها تخفى
وقف القلم طويلًا قبل أن أبدأ هذا المقال، فأنا أبحث عن تعريف يحدد الزمان الذي أريد أن أرويَ منه هذه القصة إليك؛ فهو في زمان كان فيه الآدميون سلعة تُباع وتشترى، وكانت السلعة تسمَّى العبيد، فماذا تراني أقول لأمير هذا الزمان عن غيره، هل يصلح لي أن أقول زمن العبيد والسادة هيهات، فإن هذا التعريف يجعل الزمان يختلط بكل الأزمنة، ويقع القارئ في متاهة من التاريخ، ولا يستطيع أن يتعرف على الزمان الذي أقصد إليه.
فكل الأزمنة كان فيها عبيدًا وكان فيها عبودية، وإن كان العبيد في الزمان الماضي يُباعون ويشترون بالمال الصريح. فكم شهدنا من عهود كان الإنسان فيها يُباع بالوظيفة أو بالجنس أو بالمال، وإن كان الزمان الماضي يقرُّ البيع بين المتعاقدَين بإيجاب من البائع، وقبول من المشتري، فلكم شهدنا البائع هو البضاعة ذاتها، فباع الناس أنفسهم للسلطان أو للشيطان أو للمرأة أو للرغبة أو لهوان نفس أو لضعة قصد أو لسقوط مروءة، وكان بائعو أنفسهم ولا يزالون يجدون المشتري حاضرًا من قريب.
وما أحسبك تلحُّ عليَّ أقدِّم إليك الأمثلة؛ فالأمثلة تُطالعك كل يوم في كُتَّاب يبيعون أنفسهم وأوطانهم إلى مَن يشتري في سوق النخاسة الأدبية التي اتسع واستفحل أمره، وأصبح المشترون فيها دولًا يمثلها رؤساء مخاريق وجدوا مَن يقول لهم إن مَن يبيع نفسه يبيع وطنه، فألقَوا بأموال شعوبهم في السوق، واشتروا الأقلام، وأصبحت سوق العبيد حقيقة قائمة لا يحكمها قانون إلا الخيانة، ولا تضبطها قاعدة إلا الوضاعة من بائع نفسه والمشتري جميعًا.
وكان العبيد في ظلمة الحياة يباعون ويشترون بقوانين معلنة وضوابط واضحة، فهل تحضَّر الزمان أم تأخر، وهل ارتفعت قيمة الإنسان أم تدهورت.
وبعد فما زلتُ حائرًا كيف أبدأ رواية قصتي إليك، فلأقل إذن في ذلك الزمان الذي كانت فيه تجارة العبيد معلنة غير مستترة مشهرة غير مخبوءة، كان هناك عبدٌ يتوق إلى الحرية، وكان يعرف أن سيده رجل صالح يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وكان هذا السيد معجبًا بخطيب يخطب الجمعة فكان حريصًا كلَّ الحرص على أن يصلي كل أسبوع في المسجد الذي يخطب فيه هذا الخطيب، فقصد العبد إلى الخطيب يرجوه أن يجعل خطبة الجمعة عن وجوب إعتاق العبيد، وأن يذكِّر الناس بقوله تعالى في سورة البلد: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ووعد الخطيب أن يستجيب لرجاء العبد المشُوق إلى الحرية.
وانتظر العبد ومرَّت الأسابيع والخطيب يخطب في كل جمعة، ولكنه لا يفي بوعده ويعجب العبد، فهو يعرف هذا الرجل، ويعلم عنه أنه لا يَعِد إلا أنجز فما له في هذه المرة يخلف وعده وينكص عنه.
وفي أحد الجُمَع خطب الخطيب، فإذا خطبتُه كلُّها عن كرامة الإنسان، وعن كراهية الله للاستعباد وراح يقرأ بين المصلين كلَّ ما جاء في القرآن الكريم من حثٍّ للمؤمنين أن يعتقوا عبيدهم، وأن يتقربوا إلى الذات العليَّة بفك الرقاب.
وفي نفس اليوم أطلق السيدُ العبدَ وفكَّ عنه إسار العبودية، وقصد العبد إلى الشيخ.
– شكرَ الله لك أيها الرجل الصالح.
– إنما أديتُ واجبي يا بني.
– وأوفيت بعهدك أيضًا.
– إن العهد كان مسئولًا يا بني.
– ولكنك يا مولاي تراخيت في إنجاز وعدك وما عهدتُك كذلك.
– يعلم الله وحده سبب هذا التراخي.
– ألَا يجوز لي أن أعلمه أنا أيضًا.
– لا بأس يا بني، إنك حين طلبتَ إليَّ ذلك لم أكن أملك شيئًا من المال فانتظرتُ حتى جمعت من المال ما يكفي لشراء عبد فاشتريته ثم أطلقته، وحين فعلت وجدت من حقي أن أعظَ الناس بفكِّ رقاب الناس؛ لأن الواعظ لا يُسمع قوله إذا لم يُعطِ المثل من نفسه، ولو كنتُ ألقيتُ خطبتي هذه دون أن أصنع ما صنعت ما استجاب لي سيدُك السابق، ولا استجاب لي غيره؛ فالكلمة تحمل قيمتها إذا صدرت عن شخص يعمل بها قبل الآخرين ويجعل من نفسه المثل الذي به يتأسَّى السامعون، وحينئذٍ … وحينئذٍ فقط تقع الكلمة في موقعها وتبلغ من السامع حيث يريد لها أن تبلغ.
وكانت الحجة قاطعة، وكرَّر الحُرُّ الشكرَ وانصرف عن الخطيب هانئًا سعيدًا.
وأنا اليوم أذكر هذه القصة وقد طالعتها منذ قريب في أحد الكتب لأُنعمَ النظر في مضطرب الحياة، فأجد الداعين إلى الشرف هم أكثر الناس فجورًا، والمتشدقين بالأمانة هم أعظم الناس خيانة، والمتربعين على دست النصيحة هم أكثر الناس حاجة للنصيحة، فلا عجب إذن أن يذهب كلامهم هباء من الهباء، وكيف يسوغ عند الناس أن يروا المتحدث عن التقشف هو أكثر الناس ثراء، جمع أمواله من الدول التي استأجرته ليهاجم مصر وحكام مصر، حتى إذا نال من المال ما يكفي أحفاد أحفاد أحفاده قَدِمَ إلى مصر يصيح في الناس أن اكتفوا بالقليل، واقفلوا الانفتاح وعودوا إلى الانغلاق.
وكيف يسوغ عند الناس أن يروا المسئول يخطب في كل يوم عن الأمانة والشرف والاستقامة، وهم يعلمون عنه أنه لصٌّ خائن للأمانة مضيِّعٌ للشرف لا استقامة له إلا إذا قصد إلى السرقة والاغتصاب والنهب، فإنه حينئذٍ يعرف الطريق إليها حقَّ المعرفة.
وكيف يسوغ عند الناس أن يتكلم قوم عن حقِّ الله وهم ملحدون لا يعترفون بالله ولا بالأديان ولا بالروح؛ فالعالم كلُّه مادة والمادة هي أصل الكون.
وكيف يسوغ عند الناس أن يدَّعيَ قوم الجرأة والبطولة اليوم والحرية متاحة والدار أمان، والحكم شعاره القانون، وقد رأيناهم يعفرون رءوسهم على أعتاب الطغيان، ويمتدحون بالظلم ويشيدون بالجبروت ثم هم اليوم يهاجمون الحرية، وينتهزون منها فرصة ليُظهروا أنفسهم في صورة الأبطال، ويبيعون هجومهم إلى الجرائد التي تُطبع خارج مصر، والتي تريد أن يزداد توزيعها بالهجوم على كبرى الدول العربية.
وما زيادة التوزيع لشراء من الجمهور وإنما لشراء من الدول.
إن جميع هؤلاء وأمثالهم يحسبون أنهم قادرون أن يُخفوا حقائقهم على الشعب، وليس يعنيهم قول زهير بن أبي سلمى: