إسلام وشيوعية؛ لا يلتقيان
أقرأُ بإعجابٍ الفصولَ التي ينشرها الكاتب الكبير الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي بجريدة الأهرام بعنوان: عليٌّ إمام المتقين، وقد ظللت على إعجابي بها حتى جاءني هنا في لوزان أهرام الأربعاء ٧ سبتمبر المنشور به الفصل الثامن من البحث، وجدت المقال يتعارض بعضٌ منه مع الجزء الأكبر من آخره، وعبد الرحمن الشرقاوي من الكتَّاب الذين أُكنُّ لهم كل تقدير وإكبار وتجمعني وإياه — والحمد لله — صلة من أقوى صلات الصداقة وأعمقها، ومن حقِّ هذه الصداقة عليَّ أن يكون الحق هو عمادها لا المجاملة؛ فإن الصداقة من مادة الصدق، والذي لا يصدق صديقَه عدوٌ، وحق الله أولى الحقوق بالرعاية لا يسبقه حقٌّ في الوجود.
يقول الأستاذ عبد الرحمن في منتصف المقال تقريبًا، وقال عليٌّ: إنه لا بأس بالغنَى والتمتع بزينة الحياة التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق التي أحلها الله، لا بأس بهذا كله. ومَن حرم ما أحل الله فهو آثم؛ كمَن أحلَّ ما حرمه الله، ولكن هذا المال يجب لكي يكون حلالًا أن يتوافر له أول الأمر أن يكسبه صاحبه بعمله وبلائه وجهده، لا أن يكون منحة من وليِّ الأمر لقرابة أو مودة أو نحو ذلك، أن القرآن الكريم يفسر بعضه البعض، وحين قال تعالى: وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قال في الوقت نفسه: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وقال: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى وإذن فحق الملك قائم في أصله على العمل على ما يكسبه الإنسان بعمله، ومن هنا يحفظه الله تعالى فيحميه من السرقة ويكفل الميراث.
إلى هنا ينتهي كلام الأستاذ الشرقاوي الذي لا أخالفه في مضمونه، وإن كنت أتشكك في تفسير الآية الكريمة: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ إلى آخر الآية، فما أحسب أن التفاسير ذهبت إلى أن هذا التفضيل يكون في الرزق في الحياة الدنيا، وإنما هي الدرجات التي أعدها سبحانه في الباقية الخالدة، وكذلك أخالفه في تفسير الآية: أن ليس للإنسان إلا ما سعى إلى آخر الآية. وأعتقدُ اعتقادًا راسخًا أن المقصود من الآية أن ليس للإنسان إلا ما سعى، فلا ينال عند الله أجرَ فضلٍ لم يَقُم به تمشِّيًا مع قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وقوله: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ومع كثير جدًّا من الآيات التي تُقرِّر أن الإنسان مسئول عن عمله أيًّا ما كان الأمر، فهذا هو الجزء الذي لا يمكن أن يختلف فيه مسلم مع الأستاذ الشرقاوي، وهو بهذا الجزء يقرر أن التملك حلال ما دام ليس منحه من وليِّ الأمر، وأن الله يحمي هذا التملك وينظم توريثه.
ولكن قليلًا ما نمضي في المقال فإذا نحن نجد المالكين جميعًا مصيرهم جهنم والنار والكي بالذهب والفضة، وإليك ما يقول الأستاذ الشرقاوي، وأن عليًّا ليُذكِّر عثمان بأيام عمر، وبما اتفقوا عليه جميعًا بأن يُعيد عمر توزيع الثروة حين راعهم انتشارُ الفقر على الرغم من تكدُّس ثروات الناس، ما نسيَ أحد بعدُ من الصحابة، واقتناع عمر وعثمان بقول عليٍّ: إنه ما من أحد يخزِّن فوق حاجته إلا حرَم آخرين من ذوي الحاجة. وأن عليًّا ليُذكِّر عثمان بعهد عمر: والله لئن بقيتُ إلى الحول لأُلحق أسفل الناس بأعلاهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول الأغنياء فرددتها على الفقراء.
وإني أسأل الأستاذ عبد الرحمن أي المال هذا الذي يريد أن يتصرف به عمر هذا التصرف، إن كان مال الجماعة فهذا حقه، أما إن كان مال الأفراد فهيهات أن يقول عمر هذا القول أو يقوله عليٌّ، وإلا لما احتاج ماركس أن يُنشئ نظريته الشيوعية، واكتفى برأي عمر هذا وعلي، وإن كان هذا رأي عمر وقد صحب النبي عليه الصلاة والسلام قرابة عشرين عامًا، وكان مع أبي بكر في عامَي خلافته ثم كان هو أمير المؤمنين لمدة تسع سنوات، فما له إذن لم يُشِر بهذا الرأي وهو يشير، وما له لم ينفذه وهو أمير المؤمنين.
وكيف يقصد عمر مالَ الناس بهذا الرأي، كما يوحي بذلك أخي الأستاذ الشرقاوي، وهو مَن شهد خطبة الوداع والنبي ﷺ يقول: «إن دماءَكم وأموالكم حرامٌ بينكم»، وكيف يلقَى عمرُ ربَّه وما عرف التاريخُ بعدَ النبيِّ خائفًا من ربه كما كان يخاف عمر، والله سبحانه هو القائل: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وماذا هو قائل في الآيات تترى جميعًا بمعنى «يبسط الله الرزق لمن يشاء ويقدر»، أي يجعله مقدورًا قليلًا.
ويوغل الأستاذ عبد الرحمن حين يقترب من النهاية في هذا الفصل فيذكر ما يُلغى به كل ما جاء من قبل في هذه الحلقة من شرعية التملك والميراث، يقول على لسان عليٍّ فيما أظن، ثم أن الاقتناء مباح وهو غير مذموم إن لم تكن هناك حاجات تسدُّ أما إن كانت هناك حاجة لأحد فما يحق لمسلم أن يقتنيَ فوق حاجته ولو دينارًا، ولقد مات رجل في زمن الرسول، حيث كان في الأمة كثيرون من أصحاب الحاجات والجياع، فوجد في مئزر الرجل دينارًا، فقال رسول الله عنه إنه كانز وسيُكوَى بهذا الدينار كيةً واحدة، ووجد في مئزر آخر دينارين فقال ﷺ: هما كيتان.
وذكر قبل ذلك حديثًا للنبي على رواية عليٍّ أيضًا؛ مَن ترك صفراء أو بيضاء كُويَ بها. وكان يعني من كنز، وترك مالًا وفي الأمة أصحاب حاجة، مسلمين كانوا أم ذميين.
ويذكر قبل ذلك أن النبي سُئل: «أي مال نتخذ يا رسول الله؟ قال لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تُعين أحدَكم على دينه.»
وإلى هنا وتقف. ما هذا يا أخانا، هل ألغى النبيُّ عليه الصلاة والسلام الميراث دون أن ندريَ ودون أن يتنبهَ إلى ذلك كلُّ المسلمين حتى الأئمة الذين ألَّفت عنهم كتابًا من أحسن كتبك، وفيمَ أتعب إذن ماركس نفسَه، وما كان عليه إلا أن يُعلن إسلامه، ويرفع هذه الأحاديث شعارًا دون أن يقتل ما قتل من مئات الملايين في سبيل مذهبه.
إذن يا أستاذ عبد الرحمن فآيات المواريث جميعها المقصود بها أن تُقسم بين الورثة لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وزوجة تُعين أحدَنا على دينه، وكيف يُقسم هؤلاء؟ وبعد هذا فمَن ترك صفراء أو بيضاء كُويَ بها؛ فإن كان فدانًا قُوِّم بمائة دينار ذهبًا أُيكوَى به، وكانز الدينار له كية، وكانز الدينارين له كيتان، فما هو مصير عبد الرحمن بن عوف الذي ترك جبالًا من الذهب قُطعت بالفئوس، ووزِّعت على أبنائه وهم أحد عشر ابنًا، فأصبح كلٌّ منهم أغنى أغنياء العرب، وقد بَشَّر النبي عليه الصلاة والسلام عبد الرحمن بن عوف بالجنة، والنبي كما جاء في القرآن ليس إلا بشرًا رسولًا فهو لم يُبشر ابن عوف إلا بما أَوحى به الله، والله كان يعلم اللحظة التي سيموت فيها عبد الرحمن ويعلم أنه سيترك هذا الذهب، وبشره بالجنة أفيُكوى عبد الرحمن بن عوف بكل هذا؟ فما الجنة إذن؟ إنه لن يراها ولن يعرفها.
إذن فلا ميراث أو يكون المسلمون جميعًا والذميون أيضًا في اكتفاء وفي غير حاجة، إذن يُعطي الإنسانُ كلَّ مالِه للدولة، ويترك أبناءَه جياعًا يتكففون الناس، وكان بيده أن يحميَ ماء وجوههم، في أي شرع هذا، وفي أي دين، وفي أي ملة، ولماذا إذن رفض ماركس الأديان وسماها أفيون الشعوب، وما أحسب أنه فعل ذلك إلا ناظرًا أكبر النظر إلى الدين الإسلامي، فهو أعظم الأديان عناية بالميراث وبحق الإنسان في ماله.
وفي أي عصر وفي أي زمن اكتفى الناس جميعًا، وفي أي دولة ما أحسب أن هذا حدث قط، وما أحسب أنه سيحدث أبدًا، إذن فلا ميراث إلا أن يكون الميراث لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وزوجة تُعين أحدَنا على دينه، ومع ذلك فأنت تعلم أن فاطمة البتول ابنة سيدنا النبي طالبت أبا بكر بقطعة أرض كان النبي قد أمر لها بربعها، وهي زوجة عليٍّ وبنت خير المرسلين.
أكانت الأمة في ذلك الحين جميعها مكتفية، ولم يكن مسلم ولا ذمي فيها محتاجًا.
بعض هذا يا أخي بعض هذا فإنني والله أعرف عنك أنك مسلم صادق الإسلام، وأنت تحاول بإخلاص أن تقرِّب المذهب الشيوعي إلى الإسلام، هيهات يا صاحبي لا يلتقيان، وأن إمام المتقين لو شهد ما تقوله على لسانه اليوم لسألك في بساطة ويسر، ولماذا لم أصنع أنا هذا حين وُليت الخلافة؟ أما كان أيسر عليه أن يلغيَ الميراث بموجب هذه الأحاديث النبوية ولا يكلفك مشقة هذا الاجتهاد؟
وبعد فقد رجعت إلى تفسير الكشاف للزمخشري لأستبين الرأي في الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
فوجدت الأستاذ عبد الرحمن نقل عن الزمخشري، ولكنه نقل ما يؤيد رأيه وألغى تمامًا ما ينسف رأيه نسفًا كاملًا، ولا أكتمك؛ لقد عجبت؛ ولهذا فإنني سأنقل إليك مادة الزمخشري كاملة وإن فيها غناء كل الغناء عن أيِّ رأي. يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة:
«قيل نسخت الزكاة آية الكنز، وقيل هي ثابتة، وإنما عنَى بترك الإنفاق في سبيل الله منْعَ الزكاة، وعن النبي ﷺ «ما أُدِّيَ زكاته فليس بكنز، وإن كان باطنًا، وما بلغ أن يُزكَّى ولم يُزكَّ فهو كنز وإن كان ظاهرًا.» وعن ابن عمر رضي الله عنه: «كل ما أُدِّيَت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدَّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض.» فإن قلت ما نصنع بما روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله ﷺ «تبًّا للذهب تبًّا للفضة؛ قالها ثلاثًا، فقالوا أي مال نتخذ قال لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تُعين أحدكم على دينه.» وبقوله عليه الصلاة والسلام: «مَن ترك صفراء أو بيضاء كُويَ بها.» «وتوفي رجل فوُجد في مئزره دينار، فقال رسول الله ﷺ كية، وتوفي آخر فوُجد في مئزره ديناران فقال كيتان.» قلت كان هذا قبل أن تُفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالًا من حيث أَذِن له فيه ويؤدي عليه ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه، ولقد كان كثير من الصحابة؛ كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله (وكلاهما من المبشرين بالجنة)، وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض القنية؛ لأن الإعراض اختيار للأفضل، وإلا دخل في الورع والزهد عن الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يُذمُّ صاحبه، ولكل حد، وما رويَ عن عليٍّ: «أربعة آلاف فما دونه نفقة، فما زاد فهو كنز.» كلامٌ في الأفضل.»
وإلى هنا ينتهي كلام الزمخشري، وبهذا يستقيم في العقل كلُّ الذي استشهد به الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، ولو أنه نقل الرأيَ جميعًا دون أن يحجب أهم ما فيه وهو ما يصل بين هذا الرأي وبين الدين جميعًا لما استولت الدهشة على أذهان الناس، فإنَّ رأْيَ الأستاذ الشرقاوي يجعل كلَّ صاحب دينار كافرًا، ورأْيَ الزمخشري الذي نقل عنه الأستاذ الشرقاوي أن كل اكتناز مهما بلغ حلالٌ ما دامت الزكاة قد أُديت عنه، وهو الفرق نفسه بين الإسلام والشيوعية؛ فالطريقان شتى متباعدان متنافران لا يلتقيان أبدَ الدهر.
وبعد يا أخي الأعز، فأنا أعرف قوة إيمانك وأنك مستمسك بدينك، فبربِّك يا أخي الأعز، ألَا أعدتَ النظر في رأيك الآخر فهيهات لرأيك هذا أن يستقرَّ أمنًا أو قلقًا في نفس مسلم أبدًا، وفقك الله.