تعقيب على رد
توقعتُ أن يردَّ الأستاذ الأخ عبد الرحمن الشرقاوي على المقال الذي نشرتُه الأسبوع الماضي معلِّقًا على أحد فصوله، عن عليٍّ إمام المتقين، وتوقعتُ أيضًا أن يكون ردُّه بهذا الأدب الرفيع وهذا الخلق الأسمى الذي له أعرف؟ غير.
وبقيَ أن أعقِّب على ردِّه وأبدأ بأني ما إلى السخرية قصدتُ وحاشاي أن أفعل، وإنما هدفت إلى أن أُبيِّن انتقاء ما استشهد به مع ما أنزله الله على رسول فيما يتصل بالمال بعد الأحاديث التي ساقها الأستاذ عبد الرحمن مؤيدًا بها وجهةَ نظره، وما أحسب الأستاذ الشرقاوي ألَّا يعلم أنني حريص على العدل الاجتماعي حين يتمثل في أن تضيق الفوارق بين الطبقات، وفي أن يتصدق الغنيُّ على الفقير بوازع من نفسه، وأرفض في الوقت ذاته أن تستوليَ الدولة على كل مال يغلُّ ريعًا للناس فيتأدَّى بنا الأمر إلى ما نتأدَّى إليه في البلاد الشيوعية، وفارقٌ كبير بين أن تندبَ الناس للصدقة وتحثَّهم عليها ليُقدموها بمحض اختيارهم وبين أن تفرض عليهم الفقر فينكشف غبارُ المعركة عن مجتمع كله فقير معدم بدلًا من مجتمع يسوده المرحمة والتوادُّ والتعاطف والحب، فإن الناس إذا أصبحوا جميعًا فقراء سادَت بينهم شريعة الغاب التي نراها سائدة في البلاد الشيوعية.
وأنا أيها الصديق الأعز والذي سيظل دائمًا صديقي الأعز معجبًا بنظام الضرائب التصاعدية، وأحبذها وأراها من أصلح الأنظمة الاقتصادية لمواجهة عصرنا هذا، فلا خلاف بيننا في هذا الشأن.
أما الآيات التي استشهدت بها فهي هي ما قصدتُ أنا إليه، ولا أتصور الحياة بغيرها، وهل يمكن أن يدعوَ الرحمن لغير هذا، وكيف نتوهم أن يوصيَ الله عباده بوصاة خيرًا من أن يكون في أموال الأغنياء حقٌّ معلوم للسائل والمحروم، وهو الذي بسط الرزق لهم وقدَّره على غيرهم.
وما استشهدت به من أحاديث أيضًا لا خلاف عليه، وهل يمكن أن يكون هناك خلاف بيني وأنا مَن تعرف من دخائله ما لعله يجهله عن نفسه، وبينك في أنه لا يجوز أن يبيت إنسان على شبع وهو يعلم أن جاره جائع، أما ما سُقْتُه عن رأي عثمان من أن الزكاة تكفي فإنني أرى أنها من ناحية الوجوب كافية، ولكنها من الناحية الإنسانية أقل من الكفاية، وما أحسب أن هناك خلافًا على هذا.
أما أن الحاجة فينبغي ألَّا تزيد عما يكفي الأهل والأولاد في حياة عائلهم فقط، فهنا أختلف معك خلافًا لا محيد عنه، فإنه إذا استقر الأمر على ذلك انتفى الميراث وعُدْنا إلى التناقض مرة أخرى، فإنه إذا صح أنه لا ينبغي للإنسان أن يدخر لأبنائه ما يقيهم شرَّ الحاجة من بعده، ويجعلهم في غنًى عن الاستجداء ينتفي الميراث انتفاءً تامًّا، وأنت يا سيدي تقول في صدر مقالك؛ أنا لا خلاف حول الميراث فكيف يكون هذا إذا كنت لن أُبْقيَ لهم من باقية إلا ما أُنفقه عليهم في حياتي؟ وماذا سيرثون إذن؟
أما استشهادك بأبي بكر فاستشهاد بشخصية من قمم التاريخ والإنسانية، وما أظن أن مثله يمكن أن يكون كسائر البشر، وأن ما صنعه خاصٌّ به وحده، وهو صديقُ النبي وصفيُّه وثاني اثنين إذ هما في الغار، أما يا سيدي ما ذكرته عن بكاء عبد الرحمن بن عوف حين اقترب الموت فاسمح لي أن أعجب منه، فقد كان يستطيع بكل بساطة أن يمنح مالَه كلَّه لبيت المال ويكف عن البكاء، أما أن يبكيَ ويُبقيَ على ماله لأبنائه فتصرُّفٌ يدعو إلى الدهشة.
أما ما ذكرته عن مجتمع التراحم فإني واثق أنك لا يمكن أن تتصوره بقهر الناس وإرغامهم على ما لم يشرعه الله، وإن كان هذا رأي بعض الفقهاء فلا شك أن هناك آراء أخرى أكثر قوة تجعل الصدقة بعد الزكاة مندوبة مستحبة وليست حتمية مفروضة كما تريد أن تؤكد، وأن ما سار عليه المسلمون لألف وأربعمائة عام لدليل على صدْق ما أذهب إليه.
أما ما تقوله عن الدول الغنية والدول الفقيرة فإنني لا أتصور الحياة حياة شريفة إلا بما ترى أنت في هذا المضمار.
وأما ما ذكرته عن عمر بن عبد العزيز فهو دليل لي وليس عليَّ، فقد أخذ عمر المال ممن كانوا قد انتهبوه ولم يكن لهم بحق، وردَّه إلى أصحابه الشرعيين، وردَّ إلى بيت المال ما لم يجد له صاحبًا على قيد الحياة، وهذا أمر يتحتم على وليِّ الأمر وجوبًا، وليس مجرد حق له، وإذا هو لم يفعله ونكص عنه وقع عليه التقصير.
وبعد يا أخي فإن ما ذكرته عن حسن ظنك بي هو وأكثر منه علمي بك، ولولا خشيتي أن يقال إننا انتهزنا الفرصة لنتقارض الثناء لذكرتُ كلَّ ما أُكنُّه لك من حب وتقدير وإعجاب.
على أن رأيك هذا إذا أخذَت به دولة إسلامية ما فإنها لن تطبقَه إلا مرة واحدة في عام واحد، أما العام التالي فإنها بإذن واحد أحد لن تجد عند أي فرد من رعاياها ما يستحق أن يُدفع عنه الزكاة، وما دامت الزكاة قد سقطت فإن الصدقة أيضًا تسقط من باب أولى، وإنك يا أخي لو أعملت الرأي فيما تقول لوجدت أنك به لا تلغي الميراث وحده وإنما تلغي الزكاة أيضًا، وإلَّا فعلى أيِّ مال سيُزكِّي المواطن في عامه التالي ما دام قد دفع بماله الفائض جميعًا إلى الدولة في عامة الفائت، إنه سيكون مستحقًّا لمال الزكاة، ولن يجده أو لمَن يتصدق عليه، وهيهات أن يعثر على متصدق أو صدقة.