لمحة عن ابن الرومي
كتَب العرب في جميع أغراض الشعر، وكان شعر الهجاء من أهم الأغراض التي نظم فيها الشعراء المتقدمون، وهذا أمر طبيعي لا غرابة فيه فما داموا قد كتبوا في المديح وبالغوا، فما بعجيب أن يكتبوا في الهجاء ويبالغوا أيضًا.
وقد كان العرب يخشَون الهجاء حرصهم على المديح، وبين الهجاء والمديح كان الشعراء يجدون قوتهم أو يجدون ثراءَهم في بعض الأحيان.
وقد جرى علماء التربية أن يهاجموا شعر الهجاء ويُبغِّضوه للناشئة، أرى أن علماء التربية في هذا مخطئون، فبقدر ما يمجد المديح الكرم والخلق الرفيع يبغض الهجاء الخلق الدنيء، ويجعل منه متجهًا مقيتًا وشيئًا لا يجوز للشريف أن ينحوَ إليه، وكما يمثل الوصف والغزل فنًّا رفيعًا تجد الصور فيه تدعو إلى الإبهار والإعجاب.
وأعتقد أن تمجيد الفضل لا بد أن يسير معه في نفس الطريق مهاجمة الشر والنَّيل منه، وكما يبلور المديح الشيم الرفيعة ويُعلي من شأنها يقدِّم الهجاء صورًا فنية رائعة للخُلق الذميم والتصرف المقبوح.
والإنسان لا يستطيع أن يحترم الفضل إلا إذا احتقر الخُلُق الزري والفعل الذميم.
والقرآن الكريم فتح للناس أبواب الأمل في الجنة، إذا هم اتقوا وآمنوا وعملوا عملًا صالحًا، وهدد بالويلات وبالنار تكوي الجُنوب والجِباه فهم فيها لا أحياء ولا أموات إذا كانوا من المفسدين الضالين الآثمين المعتدين.
وكما حبَّب القرآن الكريم إلينا الخير وحضَّ عليه، بغَّضَ إلينا العصيان والفسوق والنكول عن الطريق الأقوم وهدَّدنا بالعذاب الذي لم يعرف البشر له مثيلًا إذا نحن أطعنا أهواءنا ونكصنا عن الهدى والتوبة والإنابة.
ولو شئت أن آتيَ بأمثلة من القرآن لأوشكتُ أن أذكر القرآن كله، لا تكاد تجد سورة واحدة تخلو من آيات كريمة عديدة تهاجم الكفار والمعتدين والظالمين فهم قوم بور، وهم مسرفون، وهم قوم عُمْي عن الحق، وهم لا يفقهون، وهم لا يذكرون، وهم صمٌّ عن النصح بُكْم لا ينطقون بما يعلمون أنه الحق. وهم غير ذلك وغير ذلك كثير.
فالله سبحانه من فوق سبع سماوات لعن المائلين عن الجادة السافلين عملًا، الضالين صراطًا، فمن حق الشعراء بل من واجبهم أن يرسموا للناس الجمال والقبح والخير والشر، ومن حقنا نحن البشر أن نعجب بشعر الهجاء إعجابنا بأي لون آخر من ألوان الشعر.
وربما كان ابن الرومي أروع مَن قال شعرًا في الهجاء في العربية وقد أبدع فيه إبداعًا لا أحسب أن أحدًا ضارعه فيه.
أذكر قوله:
وأذكر بيته الرائع ولا أذكر معه بقية أبيات القصيدة، فهذا البيت في نظري كفءٌ لديوان بأكمله يقول:
وأذكر تلك الصورة السينمائية العجيبة التي يقول فيها:
كم يخسر الشعر العربي إذا نفينا عنه الهجاء، إن هذا النفي يحرمنا من لمحات فنية لو تُرجمت إلى الغرب لسارت كلَّ مسار، اسمع ابن الرومي أيضًا يقول:
كيف استطاعت هذه الخاطرة أن تثبَ إلى ذهن ذلك الشاعر العملاق إلا أن تكون العبقرية المتفردة.
ثم اسمع معي ما يقول لباني الدرج:
هذا الاكتمال الرائع في الصورة لا يتأتى إلا لابن الرومي. كيف استطاع أن يصفَ أسرةَ باني الدرج بالقذارة وبأنهم أصحاب قرون، ثم يجمع بين الصفتين في حركة درامية واحدة … عجيبة.
ولم يكن عجيبًا أن يموت ابن الرومي حتْفَ هجائه؛ فقد هجا أحدهم وربما يكون واحد من هؤلاء الذين ذكرت شعره فيهم. وأرسل المهجو إليه يسترضيه ويدعوه إلى وليمة، وفي سذاجة الشعراء وجهلهم بالحياة يذهب ابن الرومي إلى الوليمة ويأكل وبعد أن يأكل يحس السمَّ يسري في جسمه، ويدرك أن الداعي دسَّ له السم في فطيرة دسمة.
ويقوم ابن الرومي يبغي الانصراف دون أن يقول شيئًا ولكن القدر يأبى له إلا أن يجعله هاجيًا حيًّا وميتًا. فيسأله صاحب الدار.
– إلى أين؟
ويجيب ابن الرومي في استسلام: إلى حيث أرسلتَني.
ويقول الداعي في شماتة: سلِّم لي على أبي.
ويقول ابن الرومي آخر جملة عُرفت عنه في حياته.
– آسف ليس طريقي إلى جهنم.
وبعد فإني أهدي هذه المقالة إلى الأدباء ليستمتعوا بما فيها من فنِّ ابن الرومي وأهديها أيضًا إلى من يلزم من غير الأدباء؟