سر الكلمة
يلحُّ عليَّ في هذه الأيام شاعر المهجر العظيم إيليا أبو ماضي. وقد جعل هذه الأبيات مقدمة لديوانه الخالد «الجداول». وإني سأروي لك الأبيات من الذاكرة فلا تعنف بي إذا أبدلت لفظًا، يقول أبو ماضي:
والقصيدة طويلة، وهي تدور كلها حول هذا المعنى في هذه العذوبة الشفافة، وهذه الروح النورانية التي يتسم بها إيليا أبو ماضي الذي يجري شعرُه في ألفاظ غاية في السهولة واليسر حتى ليحسب القارئ أنه يستطيع في غير عناء أن يصنع صنيعه، وينظم مثل شعره حتى إذا حاول وقفَت دونه أهوال وأهوال ثم انثنى عما يحاول وهو عاجز مذهول.
فإيليا أبو ماضي لم يتبوأ مكانه في الشعر العربي عن صدفة؛ فالفن لا يعرف الصدفة، وإنما يعرف الموهبة، ويعرف العبقرية والشهرة لا تأتي للأدباء بالسعي إليها منهم، وإنما هي التي تسعى إليهم صاغرة طائعة أو مرغمة؛ لأنهم يفرضون أنفسهم على زمانهم وعلى ما يليهم من أزمان ما أبدعوا من فن رفيع لا يتأتى لغيرهم أن يجاريَهم فيه.
ويمتاز إيليا أبو ماضي بطعمته الخاصة به، فتجد لشعره عبيرَه الذي لا يشاركه فيه أحد. وإنك إذا استعرضت عظماء الشعر العربي منذ الجاهلية حتى عصرنا الحديث تجد أن التاريخ لم يُبقِ منهم إلا على هؤلاء الذين تفردوا بين جيلهم، لا يماثل شعرَهم شعرٌ آخر والاستقصاء صعب، ولكن ما لنا لا نحاول عرض أمثلة نصطنع منها نماذجَ سريعة لا تُشكل دراسة مستوفية قدر ما تُشكل شواهد على ما نذهب إليه، ولننظر إلى المتنبي مثلًا فنجد فنًّا رائعًا فيه فحولة إذا احتاج موضوعه إلى فحولة، أو نجد عذوبة إذا تغيَّا العذوبة، فيقول والرواية من الذاكرة أيضًا:
ويعذب حين يصف شعب بوان ويقول:
ويصف خمائل العنب فيقول:
ويتفلسف في منطق رائع صالح لكل زمان حتى اليوم، حتى إننا إذا قلناه اليوم، ونحن نرى الحروب الدائرة من حولنا لكان سخرية أي سخرية من بني آدم:
ونترك المتنبي عملاق العصور إلى قمة مثل أبي تمام فنجد اللغة الفصيحة العنيفة أحيانًا والألفاظ الصعبة والسبك الوعر المضني، ولكن يتخلى عن هذا أحيانًا، ويميل عن هذه الألفاظ ليقول أبياته الشهيرة:
ويتلقف البحتري هذه الفحولة ويصوغها فإذا هي شعر رفيع الصياغة لا يلحق به لاحق من أبناء جيله، ونسمعه يَصِف أسرة وقع الخلاف بين أبنائها بهذه الأبيات الرائعة:
وفي نفس الصياغة وفي ذكاء لماح وظرف نادر يبلغ المتوكل أن الفرس الذي أهداه إليه مات في اليوم التالي فيقول:
وتمر السنون وتتعاقب الأيام، ويمر الشعر بيوم نحس ويوم سعود حتى يظهر البارودي وإسماعيل صبري بشارات لمولد شوقي، وتبزغ إلى سماء الشعر شمسٌ جديدة تُلقي نورَها بكل أنحاء العالم العربي حتى اليوم ونرى الشعراء الأفذاذ في إثارة، وفي إثار حافظ وخليل ومطران ومحرم ونسيم، وفي معيَّتهم بشارةُ الخوري وصحابته في لبنان، وبعدهم الجوهري، ومصطفى جمال الدين، وبهجة الأثري، وصحبهم في العراق، وعزيز أباظة، ورامي، وناجي، وعلي محمود طه، وكل شعراء أبولو في مصر، لكلِّ شاعر منهم رحيقُه الخاص لا يُخطئه ذوق، ولا تغيب نكهتُه على هواة الشعر ومرتادي خمائله وأفوافه.
هؤلاء الشعراء جميعًا مَن ذكرتهم ومن لا تتسع لذكرهم مئات الصحائف فرضوا أنفسهم على العالم الأدبي بما أبدعوا، ولكن من هذا الذي فرضهم أنهم أولئك الذي أحبوا شعرهم، واستعذبوه وتغنَّوا به وأسمعوه أبناءَهم وجيلهم والأجيال التي جاءت بعدهم. فالقرَّاء إذن هم الذين يفرضون الكاتب على التاريخ.
وتسألني لمن أسوقُ هذا الحديث وكأنك لا تدري؛ فإني إنما أسوقه إلى أبنائنا المتلهفين إلى الشهرة دون أن يُعملوا في يدهم القلمَ الذي يُرغم الشهرة أن تسعى إليهم، ماذا قرأ الشبَّان حتى يكتبوا، إن الكتابة لا يمكن أن تبدأ إلا بعد قراءة طويلة متأنية ودراسة وتذوُّق حتى يذوب الأديب في الأدب، ويصبح جزءًا منه لا يتصور الحياة بغيره، فإن الكلمة لا تجري على قلم إنسان يريد أن يتخذ منها حلبة في حجرة أو تحفة يتباهى باقتنائها.
لن يكون كاتبًا مَن لا يصل إلى سرِّ الكلمة، وسرُّ الكلمة لا يتأتَّى إلا لمن يصادقها في إخلاص يبلغ مرتبة التفاني؛ فإن الكلمة لا تُلقي سرَّها لعابري السبيل أو لمن يريدونها أن تكون مجردَ زهرة في أصيص تذبل بعد حين وتُلقَى في الطريق، إنما الكلمة دوحة غناء باقية على الزمان أصولها في أعماق أرض الفن وذؤابتها في سمائه؟