لا يُصلح العلم فوضى!
قرأت في مجلة أكتوبر مقالة لأخي الكاتب الكبير أنيس منصور أجد من الأمانة أن أُشيد بها، وأن أضمَّ صوتي إلى صوته فيما ينادي به، وحسبنا نحن الكتَّاب أن نصرخ فما لنا في الحياة إلا هذا القلم نصرخ به، ونستصرخ المسئولين إلى ما نراه حقًّا فقد تصدَّى أنيس منصور إلى مشكلة التعليم، وما يواجهه أبناء مصر من كارثة بسببه.
فالدولة تقدِّم العلم مجانًا لكل أبنائها، وهذا في ذاته واجبٌ عليها ينبغي أن تتصدَّى له، ولكننا ما عرفنا واجبًا لا يلازمه حقٌّ إلا في مصر، وقديمًا قال علماء القانون والمجتمع إن الحق والواجب كوجهَي العملة؛ فإذا تصورنا انتزاع وجه من وجهَي العملة أمكننا تصور وجود واجب لا يلازمه حق.
فالدولة حين تُتيح للتلميذ أن يتعلم على نفقتها أصبح حتمًا على التلميذ أن ينجح؛ لأنه حين يرسب إنما ينتهب حق النجباء من التلاميذ الذين لا يرسبون؛ ولهذا يتعين على الدولة أن يكون التعليم في مدارسها مجانيًّا ما دام التلميذ ينجح، أما إذا رسب فعليه أن يدفع مصاريف تعليمه كاملة.
فإذا تكرَّر رسوبُه تحتَّم أن تُحولَه الدولة من التعليم العام إلى التعليم المهني.
كذلك ينبغي أن تنظر الدولة في شأن التلاميذ الضعاف في الشهادات العامة، وتحول الذين لا يحصلون على مجموع معين في الشهادة الإعدادية إلى التعليم المهني، فقد أصبحنا في حاجة شديدة إلى متخرجين في هذا النوع من التعليم. والدولة بهذا لا تُصادر مستقبل التلاميذ، وإنما هي تجعل التلميذ يسير في الطريق الأمثل له وتبعد به عن طريق أغلب الأمر أنه لن يحقق فيه نجاحًا، ومن الواجب أننا نسمع بعض الناس يقولون إن التفوق في التعليم لا يدل على النجابة، وقد يخذل المستقبل تلميذًا كان في طليعة إخوانه في فصول الدراسة، وقد تتفتح الآفاق أمام تلاميذ لم يكونوا من المتقدمين في دراستهم.
ويقول أمير الشعراء شوقي:
ويقول آخرون إن العقاد، وهو العقاد، لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية، وأن تشرشل لم يكن نابغًا في الدراسة، وكذلك شأن كثيرين من العلماء وكبار الساسة.
ولكن هؤلاء جميعًا استثناء من القاعدة العامة. وإذا كان غير الناجبين ذوي طموح فعليهم أن يدفعوا مصاريف دراستهم، وعليهم أيضًا أن يُثقفوا أنفسهم كما ثقَّف العقادُ وتشرشل وجميع النابغين الذين لم يكونوا نجباء في دراستهم أنفسَهم.
ويقول أنيس في مقالته: إن تعيين الدولة لجميع الخريجين يجعل الشباب لينَ العريكة، خائرًا في مواجهة الحياة يرضى منها بالأدنى، ولا يتطلَّع إلى الأسمى، ويكتفي بالبخس من العيش، ولا يتطلع إلى الأرفع.
والحق أن تعيين جميع الخريجين أمرٌ يُرهق الدولة إرهاقًا لا تطيقه أية دولة في العالم، وليس الإرهاق متأتيًا من مرتبات الخريجين، وإنما هو يتمثل أسوأ ما يتمثل في تراكم الأعداد الضخمة على أعمال الدولة. فالعمل الذي ينبغي أن يقوم به موظف واحد نجد الدولة ترصد له مائة موظف، وتصبح المسئولية شائعة بينهم، وحين تشيع المسئولية تضيع، ولا تجد الدولة مَن تُسائله عنها.
ولست أدري أي بأس في أن تقدم الدولة مرتبًا لكل خريج ما دام بغير عمل حتى إذا وجد عملًا في أي مرفق انقطع عنه هذا المرتب، ويكون بذلك شأننا شأن أعظم الدول الديموقراطية وأغناها أيضًا، تلك التي تعطي مرتبات في حالة البطالة، ولكن أغنى الدول هذه لا تطيق مواردها تعيين كلِّ المتخرجين في مرافق الحكومة؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها إذا فعلت ستُصاب الدولة بالشلل الكامل الذي نواجهه نحن.
وأخرى …
لماذا لا يدفع القادرون مصاريف أولادهم، وليكن ذلك باختيارهم فالله وحده هو المطلع على أحوال الناس المالية. فقد يبدو المرء ثريًّا متعففًا ورزقه مقدور عليه لا سعة فيه، أو قد يبدو آخر فقيرًا معدمًا، وهو مكتنز يجمع المال بشرِّ الوسائل، ويحميه عن الإنفاق ببذل ماء الوجه … وسفح الكرامة وإهدار الاحترام، ولعل من أجمل الأبيات التي سمعتها في هذا الشأن من الحياة قول شاعر قديم:
فلا عجب إذن أن يكون الإنسان ذا كرامة ويُخفي فقرًا، أو ذا وقاحة ويُخفي غنًى، والله وحده العليم بدخائل الناس وحقائق يسرهم وعسرهم.
فليكن إذن التعليم المجاني اختياريًّا، ولتقدر المدارس مصاريف يدفعها من يشاء ويُعفى منها من يرغب في ذلك.
والناس معادن وليس كل الناس سفلة يضنون بالمال على دولتهم وينتهبون منها مصاريف تعليم أولادهم وهم عليها قادرون، وكم رأينا أناسًا يطحنهم الفقر، ويؤدون الأمانات إلى أهلها، وأعلم أيضًا أن هناك أقوامًا يغصون بالغنى ويشرقون بالمال، ويختلسون الأموال من كل مظنة لها …
فالغنى والفقر إنما يتمثلان في نفس الإنسان، وليس في جيبه ولا في حسابات البنوك.