يُفتقَد البدر
إننا في هذه الأيام نحتفل بذكرى الشاعر الأول في الأدب العربي أحمد شوقي، وقد لقيَ شوقي من الهجوم في حياته وبعد وفاته ما يضيق به أولو الصبر والأناة. وكان رحمه الله فيما سمعت يضيق بالنقد، ولكن شيئًا لم يستطع أن يردَّه عن الإبداع الشعري الذي جلس به منفردًا على إمارة الشعر في عصره، وفيما سبقه من عصور، وأحسب أنه سيظل متسنمًا هذه القمة إلى أجيال كثيرة قادمة، ولا شك أنه سيتعرض في قابل الأيام لما تعرض في ماضيها من تطاول.
ولعل أصدق دليل على توقُّعي ما حدث في التليفزيون المصري منذ قريب حين تصدَّر التليفزيون ناقدٌ مصري الجنسية والمولد ولا أقول الاسم، أجنبي الثقافة والانتماء، ولا أقول الهوى، وحذَّر أن نعود إلى عصر شوقي وعزيز أباظة في المسرحية الشعرية، وكأني به وجد مَن يستطيع البلوغ إلى هذه القمة، ولم يبقَ إلا أن يحذرَه من بلوغها.
ولكن ما شأن الأجانب الغربيِّين بالشعر العربي، إن هذا الناقد يحرص على هدم الأدب العربي الخالص، منذ أول حياته يتسلَّق ما يجد ليبلغ الشهرة، ولكنه أخطأ السُّلَّم فتسلَّق سُلَّمًا إنجليزيًّا تارة وفرنسيًّا تارة، وشيوعيًّا دائمًا، فلا هو أصبح أديبًا عربيًّا في المكانة الجديرة بسنِّه ولا هو أصبح أديبًا فرنسيًّا، ولا هو أصبح أديبًا إنجليزيًّا، وإن ظل على الدوام شيوعيًّا وحربًا على اللغة العربية، وهو بحربه لها يحارب معنى أكبر لن أُصرِّح به ما دام هو مُصرًّا أن يتكتمه تكتمًا فاشلًا، فما من أحد يعرفه أو يقرأ له إلا وهو يعرف ما يضمر وما يحاول أن يستره، والله من فوق عباده غالبٌ على أمره.
وقالوا عن شوقي شاعر الأمير وقال هو عن نفسه:
ولكن شاعر الأمير هذا لم يسكت يومًا على باطل، ولا بارك يومًا رأيًا لا يدين به، بل هو يصرخ في قصيدته الرائعة «الهلال»:
فهو إذن يهاجم الأمير ويرميه بأنه لا يقدِّر شاعرَه حقَّ قدره، وهذا الشاعر الذي أطلقوا عليه شاعر الأمير، ثم نصَّبه شعراء العروبة جميعًا أمير الشعراء، نال هذين اللقبَين تمجيدًا وفخرًا، وكلَا اللقبَين كان يتمنَّى شعراء جيله أن يفوزوا بواحد منهما، ولكن سعيهم أكدى، وصدق عليهم قول شوقي:
ذكرتُ شوقي اليوم وإسرائيل تُعربد في العالم العربي كعاهرة ساقطة النقاب معدومة الحياء، وذكرتُ شوقي وأنا أرى أمريكا أكبر دولة في العالم تُبارك فجورَ إسرائيل وتحطيمها لكل سلام مرتقب مع العرب. وتولَّت القلبَ حسرةٌ لاعجةٌ بل حسرات. إسرائيل تهزأ بكل الأعراف الدولية والخلقية وتصنع ما لا تصنعه دولة بل وما لا يجوز أن تصنعه الجماعات الفلسطينية، ولكن إذا غفرنا للمظلوم المشرَّد أن يضرب ضربات رعناء غير واعية فكيف نسيغ أن تصنع دولة لها وزارة وكنيست ورأيٌ عام أن تفعل فعلَ الجماعات التي شردتها هي.
ونرى أمريكا التي ينبغي أن تكون في مكان الدولة الكبرى التي تردع مخلوقتها إسرائيل إذا هي سكرت وتخدرت وعربدت، تُبارك ذلك الهوس الدموي الآثم المجرم الذي تقوم به إسرائيل، وأرى هذا وأنظر إلى العرب.
فأرى سوريا تصنع في شقيقتها لبنان ما تصنعه إسرائيل في أعدائها من الفدائيِّين، وأرى سوريا أيضًا تنقضُّ انقضاضَ الوحوش المسعورة على الفدائيِّين أيضًا، وكأنهم ما كفاهم أن استلبَت منهم إسرائيل أرضَهم وأمنَهم ومأواهم، وكأنهم ما كفاهم تلك الأعمال الإجرامية التي تصبُّها عليهم إسرائيل في غير خجل أو تفكير في الرأي العام العالمي. كأن سوريا ما كفاها هذا جميعًا فهي تطحن الفدائيين طحنًا أخرقَ مأفونًا حتى لا يسعَنا إلا أن نقطع بأنها على اتفاقٍ تامٍّ مع إسرائيل، وما لنا ألَّا نظنَّ هذا والعالم كله يتكلم عن بيع سوريا أرضها في الجولان لدولة إسرائيل التي ضمَّتها إلى أقاليمها.
أرى هذا وأرى العرب وما زال كلٌّ منهم في شأنٍ يُغنيه. الدول صاحبة الثراء والقدرة المالية الباذخة صامتة ساكنة مكتفية أنها قطعَت علاقتها بمصر، وكأن مصر هي التي تُعربد في تونس ولبنان، ولا تقطع الدول العربية علاقتَها بسوريا التي حاربَت الفدائيِّين بأشد مما تحاربهم إسرائيل، ولكنها دول تخشى التخريب السوري وتعلم أن مصر محكومة اليوم حكمًا ديمقراطيًّا، وأنها سلام حيث حلَّت، أمنٌ حيث ذهبَت، وأنها من قبل ومن بعد تنظر إلى كل الدول العربية الأخرى نظرتَها إلى الإخوة الصغار، وشأن الكبير أن يعفوَ ويتسامح ويعفَّ ويتعالى في كبرياء. ويصدق علينا قولُ الشاعر العربي القديم:
أذكر هذا جميعه في ذكرى مولد شوقي وفي ذكرى وفاته؛ فاليومان متوافقان، وأتساءَل هل كان شِعر شوقي يستطيع اليوم أن يُوقظَ في العرب عروبتَهم ويردَّهم إلى ضمائرهم ويُعيدَهم إلى الطريق؟ فيقول لهم ما قاله في رثاء الخلافة؟ لأحسب أنه كان سيسمي القصيدة في رثاء العروبة، فهي اليوم هي القتيل:
وطبعًا أبدلت كلمة الخلافة بكلمة العروبة وأمضى في قصيدة شوقي:
كان شوقي خليقًا أن يقول مثل هذا وأكثر حين يرى حال العرب اليوم ولكن … كم تخادع نفسها النفس، أو سيلبُّون دعوة شوقي، هيهات إن كانوا عرفوا عن دعوة الله لهم بالوحدة، أيلبُّون دعوة إنسان مهما يكن أمير الشعراء.
اللهم إنك قد فرضتَ علينا الحج ليكون للمسلمين وحدةً ورباطًا واجتماعًا، فاللهم فشأنك اليوم مع عبادك الذين صاروا فِرَقًا وشِيَعًا وأحزابًا وليس لهم من دينك عاصم، ولا من نفوسهم عصام، وحسبنا أنت فأنت أنت وحدك نعم الوكيل.