السيف والذهب
قد يطيب للحياة بين الحين والآخر أن تؤلف قصة فنية تلتزم فيها بجميع قواعد القصة التي وضعها النقاد، وهذه القصص الفنية نادرة في مجموعات الحياة القصصية، فأغلب قصصها بعيدة عن المعقولية التي يلتزم بها القصاصون، فهي لا يعنيها في شيء إقناع المطلع على ما تكتب، ولا يعنيها أيضًا رضاؤه أو عدم رضائه. ولعل شوقي هو أعظم مَن وصف قصص الحياة الضاربة في قصيدته الخالدة مصاير الأيام. وأن الحياة حين تؤلف قصصها تبدو لبني الأرض كأنها ظالمة؛ لأن الإنسان لا يعرف إلا عدالة ضيقة الحدود ضئيلة المعالم. أما عدالة السماء فتشمل الكونَ كلَّه وهو سبحانه وحده يعلم وليس غيره يعلم ما هو خير لعبده، فهو يطبق عدالته تقدَّست أسماؤه بالصورة التي تمكِّن العدالة أن تتاح لجميع عباده وهو حين يطبقها يشفعها بكرمه ولطفه ورحمته التي كتبها على نفسه.
فشوقي حين كتب أبياته هذه الخالدة التي سأرويها لك؛ سجَّل ما تجري عليه الحياة في ظاهر أمرها؛ لأن الله وحده هو الذي يملك ما وراء أحداث الأرض من عدالة تشمل الجميع، وقد أُعجبت بإحصاء قامَت به سيدة أمريكية أثبتَت به أن الناس جميعًا يتمتعون بأنصبة متساوية من السعادة تُقابلها أنصبة متساوية من الشقاء؛ فكل إنسان حَظيَ بقدر من السعادة يعدل ما أصاب الآخرين، وناله قدرٌ من الشقاء نال مثيله الآخرون. والله وحده يعلم مداخل السعادة والشقاء في نفوس أبناء البشرية؛ فقد يقع الحدثُ الهينُ، ولكن الشقاء به في نفس مَن وقع عليه يكون فادحًا، وقد ينال إنسانٌ ما خيرًا ضئيل الشأن ولكن سعادته به تفوق كلَّ سعادات الدنيا.
يقول شوقي:
وهكذا الحياة إذن حين تؤلف. ولكن القصة التي سأرويها لك اليوم كاملة الخطوط لن ترى فيها عوجًا ولا أمتا، وإن كنت سترى فيها أموال مصر كيف امتهنت، وأقدار الناس كيف ضاعت. وسترى فيها الرعب وكيف فشا في حياتنا في عهد الطغيان الأسود والجبروت العاتي.
كان أستاذًا في الجامعة وقع عليه الاختيار ليكون وزيرًا فكان. وكان قد استطاع على مدى أيام حياته أن يبنيَ لنفسه ولبنيه عمارة يسكن بها هو وأولاده ولم يترك بالعمارة شقة خالية لابنه حين يتزوج؛ مطمئنًا إلى القانون الذي كان ساريًا في ذلك الحين أن من حق صاحب العمارة أن يُخليَ شقة في ملكه أو أكثر إذا كان الإخلاء من أجل أبنائه أو بناته عند الزواج.
ولكن هذا القانون أُلغيَ فجأة ودون مناقشة وبأمرٍ قاطعٍ باتر لا مراجعة فيه ولا تدبُّر، وبلغ ابنُه سنَّ الزواج ووجد العروس ولم يبقَ إلا أن يجد العروسان سقفًا يضمُّهما، ووقع الوزير في حيرة، ووجد بين سكان عمارته شخصًا فردًا يستأجر شقة، ولكنه لا يقيم بها، وإنما له غيرها، فظن في سذاجة أنه يستطيع أن يفاوض صاحب هذه الشقة أن يتركها لابنه، ولكن كيف؟ ومتى كانت الإنسانية عاملًا ذا قيمة في دنيا الجشع.
رفض الرجل وراح يُرسل البرقيات إلى كل ذي سلطان، أن الوزير يريد أن يُخرجَه من مسكنه وأنه يستغل منصبه، وملأ الرعب قلب الوزير المسكين وانطوى قطًّا هالعًا. وذهب إلى صاحب الشقة يُعلنه أنه تنازل عن رجائه وأنه لا يريد الشقة، وأنه ليس من الضروري أن يتزوج ابنه على الإطلاق، فلا بأس أن يظلَّ الابن بلا زواج إذا كان في زواجه سجن الأب وسَحْقه؛ فقد كان الوزراء من أساتذة الجامعة أكثرَ الناس قُربًا إلى الهوان والتدمير إذا ما غضب عليهم السلطان أو أحد الأمراء المقربين للذات العلية.
ولكن هل سَلِم الوزير؟ هيهات؛ كان كلما لقيَ وزيرًا من أمراء الزمان طالعه في جهامة — ما حكاية الشقة! ويقول الوزير المغلوب على أمره — لا، لا شيء؛ لقد صرفت النظر عنها.
كان الوزير أستاذ الجامعة السابق يدري كل الدراية أن العلم الذي يحمله يجعله عرضةً للتمزيق والتحقير؛ ففي عصر الجهلاء يصبح العلم تهمة، وتصبح الثقافة جريمة لا تُغتفر. فأبشع أنواع الجهل العلم الناقص، ورحم الله شوقي أيضًا حين قال:
وفي يوم اجتمع مجلس الوزارة برئاسة القطب الأعظم وجرى الحديث من فرد واحد يُلقي الأوامر لتصبح نفاذًا! ولاحظ الدكتور الوزير أن الذات العلية مشيحة عنه، فأوجس كلَّ شرور الدنيا وانتهى الاجتماع ونظر السلطان إلى الوزير المذعور.
– لا تنصرف قبل أن أراك.
– أمرُك.
ستعرف متى ألقاك حين أُرسل إليك.
– أمرُك.
ودلفت الذات العلية إلى حجرتها الخاصة، وظل الوزير مرتجفًا في انتظار طال ثم جاء له السادن حامل الأختام وقال له: ما هذا يا دكتور الذي صنعتَه؟!
– ابني لعنة الله عليه أراد أن يتزوج، وهل تأتي المصائب إلا من الأبناء، هل كان لا بد له أن يتزوج، وهل ستخرب الدنيا إذا لم يتزوج؟ سخف وحماقة انصبت على دماغي، وعلى كل حال أنا اعتذرت لصاحب الشقة وسحبت رجائي الذي توجهت به إليه ولا داعي أبدًا أن يتزوج ابني.
– اسمع أنت ستدخل الآن إلى السلطان، قبل أن تدخل حجرته ستجد كوب ماء وأقراص فليوم للتهدئة، خُذ قرصًا، أو لعل من الأحسن أن تأخذ قرصين، وادخل ولا تناقش واسمع فقط.
– أمرُك.
وتوجَّه الوزير مرتعش الأطراف وفتح بابًا فوجد الأقراص والماء فتناول ثلاثة أقراص، وانتظر لحظات يقرأ الآيات القرآنية لعلها تُثبت بعض قلبه الذي أصبح وكأنه بين مخالب طائر يهوم في السماء صعدًا، ثم قرأ الفاتحة وبسملَ وبيدٍ توشك على الشلل فتح الباب وطالعه الهول الآخذ والرعب المبين.
– ما هذا يا دكتور؟
وصمت الدكتور وقد أصبح فقدانُ الوزارة أملًا له في تلك اللحظة، فهو إنما كان يخشى ما يلي هذا الفقدان من سجن وعذاب وتمزيق أعراض وأجساد، أو كان يخشى التشريد في أقطار مصر بلا مأوى ولا ملجأ ولا أمان.
صمت وظل البركان ثائرًا حتى إذا استوقفت الثورة وبلغَت قمتها قال السلطان: مُرَّ على السادن حامل الأختام قبل أن تغادر إلى بيتك. واستطاع الوزير أن يستجمع لسانه ليقول: أمرُك …
وخرج وذهب إلى السادن حامل الأختام منتظرًا أن يصدر إليه الأمر بأن يلزم البيت ويترك الوزارة، ولكنَّ أمرًا عجيبًا حدث! قال السادن حامل الأختام: مثل هذه الأمور لا تكون هكذا، كان عليك أن تُخبرنا ونحن نتصرف.
– لم أكن أعرف.
– على كل حال خُذ هذَين. مفتاحان لشقتَين مفتوحتَين على بعضهما البعض من شقق الحراسات في أفخم عمارة في القاهرة، وأخذ الوزير المفتاحَين وهو لا يصدِّق نفسه.
ولم يجرؤ الوزير وهو يركب سيارة الوزارة في طريقه إلى البيت أن يفكر ولو لحظة واحدة أكانت الحراسات قد وضعت على الناس لتصبح أموالهم ملكًا خاصًّا للذات العلية، والأمراء، والسدنة، وحملة الأختام، والقماقم.
لقد كان التفكير جناية عقوبتها في تلك الأيام لها من الشراسة والفجور ما يجعل الإعدام معها رحمة وشفقة ولطفًا.
ومع ذلك ما زالت هناك ألسنة تلهج بمديح تلك السنين السفاكة التي أنقذنا منها الله بواسع فضله، وغامر نعمته جل جلاله وسبحانه وتعالى عما يشرك به الطغاة المشركين له الحمد وله الشكر فإنه لا موئل للإنسان إلا كريم وجهه.