ماذا فعلتم بأبيكم؟
أُشاهد في هذه الأيام روايةَ زينب التي ألَّفها في أوائل هذا القرن أبو الرواية المصرية الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وهكذا تعتبر هذه الرواية تراثًا أدبيًّا بدأت به الرواية المصرية مسيرتها حتى بلغت اليوم ما بلغته.
وقد قُدِّمت هذه الرواية في السينما المصرية وهي صامتة، ثم قُدِّمت في أول الخمسينيات ناطقة، ولا أعرف شخصًا ذا اهتمام بالأدب عامة وبالقصة خاصة لم يقرأ الرواية ويستمتع بها.
وحين ألَّف الدكتور هيكل باشا هذه الرواية كان المذهب السائد في الأدب الغربي هو المذهب الرومانسي؛ فالرواية رومانسية ناعمة تُصوِّر الريف المصري الطيب وترسم الحب الصادق الذي يصطدم مع الظروف والتقاليد الريفية التي لم تكن حتى ذلك الحين تعترف بالحب.
وجمال هذه الرواية أن تبقى كما هي تُمثِّل بدايةَ الرواية المصرية، وتمثِّل الريفَ المصري الناعم الهنيءَ السلس المجرى الصافي النمير الطيب القلب، وقد كان من المستحيل في تلك الأيام أن يحاول أيُّ فرد أو أيُّ حبٍّ مصارعةَ التقاليد الريفية أو الوقوف في تيارها الذي ينزل في نفوس الفلاحين منزلةَ العقيدة أو قريبًا من منزلها قُرْبًا يجعلها تختلط بالإيمان وبالدين.
فرواية زينب إذن لم تكن صراعًا طبقيًّا، ولا كانت هناك طبقات في ذلك الحين، بل كان الجميع في بوتقة واحدة يأخذ القويُّ منهم بيدِ الضعيف والصحيح منهم بيد المريض، وكانت أجواءُ القرية كلها حبًّا خالصًا وأخوة وتكافلًا، ولم يكن قد ظهر في أفقها مَن يُثير قومًا على قوم ولا طبقة على طبقة، ما زال الريف حتى يومنا هذا، وبعد كل المحاولات العنيفة التي بُذلت للتفرقة بين أبنائه ما زال حتى اليوم لا يعرف الطبقات ولا يطبق الشيوعية ولا يقبل الكراهية حياةً له وديدنًا أو شعورًا.
وربما عرف الصعيد الثأر وهذا جانبٌ بعيدٌ كلَّ البعد عن سائر ما يعرفه الريف من أخوة وصداقة وحب؛ فالمكان يجمعهم، وما يصيب الفرد منهم يصيب الجميع.
وفي هذه الأجواء الصافية الشقيقة كتب هيكل باشا زينب. فبالله عليكم يا مَن كتبتم زينب الجديدة ماذا فعلتم بأبيكم؟
ما هذا الحقد وتلك الكراهية وذلك السواد القائم وهذه السخيمة المقيتة التي طمستم بها معالم الرواية، ومن أين أتيتم بهذه الشخصيات الحقيرة النفس الوضيعة الأهداف الرخيصة التصرف؟
هل تتصورون أنكم ما دمتم قد أنعمتم برتبة البشوية على شخصية روائية لا بد أن تنعموا عليها مع الرتبة بالسفالة والانحطاط والجشع والتآمر والسعار وجمود الحس وانعدام المشاعر هيهات … قد جهلتم وإني سأذكر هنا أسماء باشاوات وأرجو أن أعرف رأيكم فيهم. ما رأيكم في أحمد عرابي باشا، وشريف باشا، ومحمود باشا سليمان الذي رفض الملك قبل تولية السلطان حسين الذي جمع الأحزاب في داره وأزال ما بينهم من خلافات، ود. محمد حسين هيكل باشا، ود. مشرفة باشا، ود. شوشة باشا، وعشماوي باشا، ود. علي إبراهيم باشا عميد الجراحة، ود. المنياوي باشا الجراح، ود. إبراهيم شوقي عميد طب الأطفال، ود. عبد الوهاب مورو باشا الجراح الشهير، ولطفي السيد باشا، ود. عبد الحميد بدوي باشا، وعبد الخالق حسونة باشا أمين عام الجامعة العربية، وسابا حبشي باشا، وأحمد مصطفى باشا المستشار، ومحمد صفوت باشا المستشار، هذه الأسماء أوردتُها من الذاكرة، وقصدتُ أن أتجنب ذكْرَ جميع الباشوات الذين لم يكن لهم شهرة إلا في العمل السياسي؛ ففي ميدان السياسة يختلف الرأي حول رجالاتها، وأنا إنما أريد أن أقدِّم أسماء لم يختلف حولها رأيان، ولو أنك أنعمت النظر في شأن هؤلاء لتبيَّنتَ حقيقة يريد المؤلفون أن يُخفوها عن عمد مزيف مزور سيِّئ القصد، فهم حين يكتبون عن الباشوات لا بد أن يجعلوهم جميعًا أثرياء ثراء فاحشًا، ويستخدمون ثراءهم في غرض واحد هو الإساءة إلى خلق الله لوجه الشيطان وحده. ما أجهلكم بعظمائكم!
أكان عرابي ثريًّا؟ أم مصطفى كامل، أم هيكل، أم طه حسين، أم منصور فهمي، أم مشرفة، أم كل هؤلاء، هذا إذا كان الثراء جريمة، وإنما لا غفران له، هذا هذرٌ قابلناه في فترة سوداء من تاريخ أدبنا، ولكن أعتقد أن هذه النغمة أصبحت نكراء كاذبة تُشوه وجهَ مصر وعظماءَها بغير كسب أدبي أو وطني أو سياسي.
وبعد فماذا صنعتم بأبيكم ومَن أذن لكم أن تشوهوا الرواية الأم في الأدب العربي هذا التشويه المريع؟ لقد مزقتم رواية زينب شرَّ تمزيق، ولقد ضحكنا منكم ضحكات مريرة وأنتم تدخلون شخصية لطفي السيد والمؤلف بريء من ذلك كل البراءة؛ فلطفي السيد باشا كان بمثابة خاله وأستاذه وما يتصور الدكتور هيكل باشا أن يجعل منه شخصية روائية، ولقد ضحكنا ضحكنا على شرِّ البلية، وأنتم تحاولون أن تجعلوا من ابن الباشا شخصية موازية للدكتور هيكل، مَن قال لكم إن هيكل باشا كان شيوعيًّا مثل هذا الفتى الذي رسمتوه، والذي مثَّله بكل أسف ممثلٌ أحبَّه وأُعجبَ به، وأشعر أنه قادر على تقريب الناس إليه، ومَن هذه الفتاة في الخمار الأسود الحزينة المكشرة عن أنيابها المتحفزة كنمرة شرسة، كذئبة، أهذه زينب شخصية هيكل باشا، أم هي زينب بتروفيسكي، أم ساشا المصرية؟ ومَن هؤلاء الشخوص جميعًا؟ مَن هذا الفتى الحاقد المليء بالشر؛ أهذا إبراهيم الذي رسمه هيكل نسمة من هوى وخلجة من فؤاد محب وأنشودة من الصفاء؟ ومَن هؤلاء ومَن أولئك الأمهات، ومَن هذا العمدة، وما هذا الهراء؟
في هذه الرواية التي تدَّعون أنها زينب كل الشخصيات المفتعلة متهرئة منهارة غير متكاملة.
ولكَم كتبتُ أن كاتب السيناريو له رؤيته الخاصة، وكم غيَّر كتَّاب سيناريو من روايات لي فما غضبت؛ لأنهم أبقَوا الفكر الأساسي الذي كُتبت له الرواية.
أما هذا الذي صنعتم بزينب فعجيبة من عجائب الدهر. هو تمزيق استحياء، وهو اعتداء لا تطور وقتل لا إحياء، ولكن زينب هيكل ستخلد إلى الأبد في كتاب.
وإنني أحذر المشاهدين أن يظنوا أن الذي شاهدوه له صلة بزينب هيكل أول رواية في تاريخ الأدب العربي، وإذا كانوا يريدون أن يعرفوا زينب فيقرءوها في كتاب أو يشاهدوا أحد الفيلمَين السينمائيَّين اللذَين ظهرَا عنها.
أما هذا الذي يصنعه التليفزيون فليس زينب من قريب أو بعيد.
يا كاتب السيناريو إن كنت أنت الكاتب الذي أعرفه فقد أذهلتَني فأنا أعرفك كاتبًا قديرًا وأعرفك مخرجًا مجيدًا، فما هذا الذي تصنع؟
سيدي الأستاذ رواية زينب ظهرت في مصر ولم تظهر في الاتحاد السوفيتي، ورواية زينب رومانسية وليست بأي حال من الأحوال ولن تكون رواية شيوعية كما صنعتَها، والعجب أنني أعرف عنك أنك أبعد ما تكون عن الشيوعية، والمخرج زميل العمر الذي أخرج المسلسل أبعد ما يكون عن الشيوعية فما هذا الذي تصنعان؟!
أحسب أنكما معذوران؛ لقد تمكَّن الشيوعيون أن يجعلوا كاتبًا حرًّا ومخرجًا عميق الديمقراطية يقلبان زينب التي ألَّفها الدكتور محمد حسين هيكل باشا رواية شيوعية، والأمر من قبل ومن بعد للواحد القهار.