الفصل الثالث
(الغابة تحت ضوء القمر في شطره الأخير، وقد جلس في
بَهْو الدار نرسيس وهو مُطرِقٌ مهموم، وأمامه إيسمين … وهما غير
حافلَين بجَوقَة الراقصات التسع وهنَّ يتضاحكْنَ ويلغطْنَ … وقد طفِقَ
بعضُهن يتأرجح على الأغصان المدلَّاة … والبعض يرقص رقصًا سريع
الإيقاع مَرِح النغم.)
***
إيسمين
:
الأمر لا يحتاج إلى كل هذا الإطراق والتفكير؟
نرسيس
(يرفع رأسه، ويَحْدِجُها بنَظَره)
:
إيسمين!
إيسمين
:
أجل … حادِثْني! … إنَّ الحديث قد يُسرِّي عنك!
نرسيس
(يلتفت إلى النافذة)
:
ما كل هذا الصياح، والضحك، والضجيج؟!
إيسمين
(تتجه إلى النافذة)
:
لو نأيتُنَّ قليلًا … إنَّ الغابة متَّسعة الأرجاء!
الجَوقَة
:
نحن نحتفل بهناءِ بجماليون!
إيسمين
:
إنه ليس هنا الآن.
الجَوقَة
:
إنه لا بُدَّ عائدٌ معها الآن!
إيسمين
:
لا يدري أحدٌ متى يعودان! … إنهما منذ ليالٍ في الكوخ بغابة
السَّرْو عند الغدير!
الجَوقَة
:
في الكوخ عند الغدير! … فَلْنذهب إليهما!
إيسمين
:
نعم … احملْنَ أجمل أغانيكن، وأبدع رقصاتكن إلى هذين
السعيدَين!
الجَوقَة
:
وخير ما جمعنا لهما من زهورٍ برِّية؛ ننثره على جسديهما
المتعانقَين!
(ينصرفْنَ راكضاتٍ كركْض الغزلان
النافرات.)
إيسمين
:
أيها العزيز نرسيس … إني مُصغِيةٌ إليك!
نرسيس
:
أتَرَينَه غاضبًا عليَّ كثيرًا يا إيسمين؟
إيسمين
:
لماذا يغضب عليك، مَن ذا يُحمِّلك تَبِعة ما حدث؟!
نرسيس
:
أقسم لكِ إنها هي التي …
إيسمين
:
اختطفتْك … أعلم ذلك … ولا يمكن أن يكون الأمر غير
ذلك!
نرسيس
:
أجل! … لقد قالتْ لي في غيبة بجماليون: «هلُمَّ بنا نخرج
إلى الغابة! … نلعب ونقفز ونجري ونتسابق كما تفعل أيائل
الغاب!» فقلت لها: «لا أستطيع حتى يأذن لي بجماليون.» فجذبتْني
من ذراعي جذبًا … وجعلنا نجري.
إيسمين
:
حتى بلغتُما غابة السَّرْو!
نرسيس
:
نعم! … عند الكوخ الذي علَّمتِني موضعه!
إيسمين
:
وطفِقتما تلعبان كطفلين أمام الغدير الذي طالما كنتَ تنحني
متأملًا صورتَك في صفحة مائه الرائق!
نرسيس
:
نعم … لعبنا حتى غَلَبنا النعاس!
إيسمين
:
ولمَّا استيقظتَ لم تجِدْها إلى جانبك!
نرسيس
:
لقد قلت في نفسي لعلَّها ضلَّت في الغابة، أو لعلَّها عادت
إلى الدار! … وفي الحالين لم أجرؤ على لقاء بجماليون!
إيسمين
:
ولكنك جَرُؤتَ على لقائي فبحثتَ عني كل مكان …
لماذا؟
نرسيس
:
نعم يا إيسمين … لأنكِ تستطيعين أن … أن تُشيري عليَّ بما
ينبغي أن أفعل.
إيسمين
:
أخبرني يا نرسيس، ولا تكتمني أمرًا: كيف شعورك نحوها؟
نرسيس
:
لست أفهم ما تقصدين؟!
إيسمين
:
لقد عادت إلى بجماليون وكلها حُبٌّ له، وكلها إعجاب …
لكأنَّ الآلهة قد صبَّتها في خَلْقٍ جديد … إنهما الآن
متحابَّان متفاهمان … لكأنَّ فينوس وأبولون يتنافسان في إغداق
كنوزهما على هذين الزوجين السعيدَين! … ما وقْعُ كلِّ هذا في
نفسك الآن؟
نرسيس
:
لا شيء! … إني ما كنت أودُّ أن نترك الدار لحظة … وما كنت
أنا في حاجة إلى اللعب معها في الغابة!
إيسمين
:
أهي عندك امرأةٌ مثل كل النساء؟
نرسيس
:
امرأة! … ما أعجبَ قولَكِ هذا عن جالاتيا! … امرأة … تلك
التي طالما جلستُ أحرسها وهي تمثال من عاج فوق هذه القاعدة من
الرخام! … امرأة! … تلك التي طالما نفضتُ عن صدرها وكتفيها
ذرَّات التراب!
إيسمين
:
ولكنها الآن …
نرسيس
:
إنها دائمًا تلك اللعبة التي شاهدتُ بعيني صنعها … إني
لأُدهش كيف يستطيع بجماليون أن يحبَّ هذا الشيء الذي صنعه
بيده! … لا تضحكي منِّي يا إيسمين إذا قلتُ ذلك: إني وأنا
طفلٌ كنتُ أقف على حانوتِ رجلٍ يصنع عجلاتِ سباقٍ خشبيةً
صغيرةً للأطفال … لها خيول تجرُّها من الخشب … ولقد صَنَع
ذات مرة حصانًا يهزُّ رأسه كأنه حي … فعجبتُ له يومئذٍ عجبًا
مماثلًا لعجبي يومَ رأيتُ جالاتيا تتكلم وتمشي لأول مرة … لقد
جرينا نتسابق في الغابة، وأنا أنظر إليها ضاحكًا ذاكرًا ذلك
الحصان الخشبي!
إيسمين
:
يا لك من طفل … دائمًا!
نرسيس
:
أخبريني يا إيسمين لماذا أحسُّ الآن أني في حاجة إليكِ
دائمًا؟!
إيسمين
:
لأُشير عليك بما ينبغي أن تفعل!
نرسيس
:
نعم … بل ليس من أجل هذا وحده … أودُّ أن أقول لكِ شيئًا
آخر!
إيسمين
(في بعض اضطراب)
:
لا تقُل الآن! … لا تقُل الآن!
نرسيس
:
إنكِ تخشين ألَّا أُحسِنَ الكلام!
إيسمين
:
ليس هنالك ما يدعو إلى العجلة!
نرسيس
:
إنكِ سيئة الظنِّ بي!
إيسين
:
فَلْنتحدث فيما جئنا له … فَلْنتحدث عن بجماليون!
نرسيس
:
إنكِ مضطربة يا إيسمين!
إيسمين
:
لا … مطلقًا … إنما أريد أن أشير بما يجب عليك!
إني أعلمُ مكانَ بجماليون من نفسك؛ فهو الذي وجَدَك طفلًا
رضيعًا عند جدولٍ من جداول هذه الغابة، فآواك وأرضعك من ألبان
الماعز وربَّاك … على أني أرى: خير ما تفعل هو أن تلزم الصمت؛
فهو يعرفك كما أعرفك! … ولم يخطر قَط بباله أنك أتيتَ أمرًا
يدعو إلى اللوم والتأنيب … ثم إنه مشغول عن كل هذا الآن …
إنه في حاجة إلى النسيان!
فَلْندعه ينسى مَن كان، وما كان … حتى لا يعيش إلا لها
وبها، هذه اللحظات التي طالما تمنَّاها … ولنحذر من أن نفسد
عليهما هذا الهناء، أو نُلقي — بمجرد حضورنا — غمامًا على وجه
هذا الصفاء!
نرسيس
:
أصبتِ! … لا ينبغي أن أراه الآن.
إيسمين
:
وإذا رأيتَه فلا تذكِّره بشيء؛ فهو لا بدَّ قارئٌ في عينيك
براءة الطفل الوادع الجميل!
نرسيس
:
حَسْبكِ يا إيسمين! … كفي! … أنتِ تعلمين أني لم أعُد
طفلًا!
إيسمين
:
منذ متى!
نرسيس
:
منذ … منذ … ولكنكِ تُحرِّمين عليَّ أن أتكلم.
إيسمين
(تسدُّ فمه بيدها في لُطف)
:
نعم … أَغلقْ هذا الآن يا نرسيس!
نرسيس
(يسحب يدها من فمه بلطفٍ، ويلثمها)
:
هذه اليد تخشى أن تفتح الصَّدَفة البرَّاقة لئلَّا تجِدها
خالية من اللؤلؤة!
إيسمين
:
عجبًا! … مَن علَّمك هذا؟
نرسيس
:
أتحسَبين أني نسيتُ كلماتكِ؟ … لم أنسَ قَط كلمة من كلماتكِ
… أتعلمين يا إيسمين لماذا ذهبتُ أبحث عنكِ في كل
مكان؟!
إيسمين
:
صه! … لا تقُل شيئًا بعدُ … يكفيني ما سمعتُ! … لا
تَزِدْ! … لا تَزِدْ!
نرسيس
:
بحثتُ عنكِ؛ لأني … وجدتُ أني لم أعُد دميةً تلعب مع
الدمى!
إيسمين
:
حقًّا؟!
نرسيس
:
وعنكِ أنتِ وحدكِ بحثتُ … لأني أحسستُ أني أحمل جزءًا
كبيرًا منكِ هنا.
(يُشير إلى صدره وقلبه.)
إيسمين
:
أنت تحسُّ هذا وتقوله؟ … وا فرحتاه!
نرسيس
:
تلك الزهرة المقفلة التي كان لا بدَّ لها من قطرات الندى
لتتفتح!
إيسمين
:
أوَتساقطتْ هذه القطرات؟
نرسيس
:
من عينيكِ … يوم فاجأتُكِ ذلك المساء تبكين … فسألتُكِ عن
بكائكِ فقلتِ: لفراق جزء من نفسكِ هو خيرها عندكِ، حَمَلها أحد
الناس وذهبَ … فسألتُكِ عن هذا الرجل أهُوَ يعرف ما حَمَل؟ …
فقلتِ: «ليس من الهيِّن أن يعرف.» ولكنكِ لن تقنطي منه … فهو
لا بدَّ شاعر يومًا بما يحمل … لأن الإنسان لا يستطيع أن يجهل
طويلًا أنه يحمل شيئًا ثمينًا.
إيسمين
:
أأنا قلتُ لكَ هذا كله؟
نرسيس
:
لقد كنتِ تتكلمين في همسٍ؛ كأنما الألفاظ تخرج من قلبكِ، عن
غير طريق شفتيكِ!
إيسمين
:
كيف رأيتَ هذا؟
نرسيس
:
لستُ أدري … لقد شعرتُ عندئذٍ بذلك الحِمْلِ الثمين!
إيسمين
:
وكيف كتمتَ عني كلَّ هذا؟
نرسيس
:
عجبًا لكِ يا إيسمين؟ … كيف أتكلم وأنتِ دائمًا تضعين يدكِ
على فمي!
إيسمين
:
كنتُ أصدِّق!
نرسيس
:
أنا أيضًا … ما صدَّقتُ بادئ الأمر كلَّ ما بي، ولكنه شيءٌ
أقوى منِّي!
إيسمين
:
نعم … إنه دائمًا … شيءٌ أقوى منَّا كثيرًا!
نرسيس
:
أتدرين لماذا؟
إيسمين
:
تكلَّمْ أنتَ يا نرسيس! … تكلَّمْ.
نرسيس
:
لأنه يجعلني أرى ما لم أرَ من قبل!
إيسمين
:
ماذا ترى الآن يا نرسيس؟
نرسيس
:
أخبريني يا إيسمين … هل كنتِ دائمًا كذلك؟
إيسمين
:
وما قيمة ما كنتُ؟ … إني أكون عندما يتفتَّح قلبك
ليراني.
نرسيس
:
هَلُمِّي بنا يا إيسمين!
إيسمين
:
إلى أين؟
نرسيس
:
إلى أيِّ مكان … أنا أيضًا ينبغي لي أن أنسى مَن كان، وما
كان … حتى لا أعيش إلا لكِ وبكِ!
إيسمين
:
هلُمَّ بنا يا نرسيس العزيز!
(يَمضيان نحو الباب وهما شِبه متعانقَين …
يظهر أبولون وفينوس في النافذة.)
أبولون
(همسًا لفينوس مشيرًا إلى إيسمين
الخارجة)
:
انظري! … مَن هذه المرأة؟
فينوس
:
امرأةٌ قد استطاعت أن تَخْلُق بالحُب!
أبولون
:
عجبًا … كما استطاع بجماليون أن يَخْلُق بالفَنِّ!
فينوس
:
كما ترى …
أبولون
:
امرأةٌ فانية!
فينوس
(باسمةً)
:
هنا السرُّ!
أبولون
:
ما قوة الحُب التي يستطيع بها هو أيضًا أن يخلُق؟
فينوس
(في زهوٍ وخُيَلاء)
:
هنا سرُّنا!
أبولون
(بعد لحظة)
:
ما أجدرَ أحدَهما بالآخر! … إنهما من طرازٍ واحد!
فينوس
:
طراز الخالقين!
أبولون
:
أتساءل لماذا لم يحبَّ أحدُهما الآخر؟
فينوس
:
ولماذا نحن لم يحبَّ أحدُنا الآخر؟ … يا أبولون لقد شُغفتَ
أنت بكليمين، وهي من فصيلة المخلوقين!
أبولون
:
وشُغفتِ أنتِ بأدونيس، وهو بَشَرٌ فانٍ؟
فينوس
:
لا تَعجب إذن أن يحبَّ إله مخلوقَه … إني لأراه طبيعيًّا
هذا الحُب بين نوعين مختلفين! … بل لعلَّ هذا هو الوضع
المعقول، مخلوقاتنا هي صنعتْنا … إنما نَعجب بصنعتنا في هذه
المخلوقات … بل هي شيءٌ منا … إنما نولَعُ بصورتنا، ونهيم
بأنفسنا في هذه الكائنات!
أبولون
:
يا للخجل! … لا تقولي ذلك يا فينوس بهذه الصراحة! … إنها
الأثرة إذن وحُبُّ الذات!
فينوس
:
ما نحن إلا سجناء هذه الذات! … وأنت الذي قالها قبلي يا
أبولون … ألا تذكُر؟ … ألستَ أنت القائل: إن بجماليون استطاع
ما لم نستطع؛ فسما على ذاته، وحطَّم أسوارها يوم أبدع — وهو
الهالك — ذلك الخلود!
أبولون
:
لست أدري هل يتاح لي أن أقول ذلك عنه اليوم؟! … إنه يفعل
الآن مثلنا! … يسجن ذاته في حُب مخلوقٍ من صُنع يده … لقد
نجحنا في قصِّ أجنحة سُموِّه … لقد هبطنا به إلى مستوانا …
لقد حبسنا تحليقه غير المحدود في كيانٍ محدود … نعم … إني
أستطيع اليوم أن أقول: إنَّا انتصرنا عليه!
فينوس
:
وأي انتصار؟!
أبولون
:
ولكن … يجب أن تعترفي أنَّ الفضل لي!
فينوس
:
عفوًا يا أبولون … عفوًا … بل الفضل لي أنا!
أبولون
:
يا لنكران الجميل! … قلتُ لكِ: إنه طبعُ المرأة؛ يجثم أبدًا
في أعماق نفسك!
فينوس
:
نكران الجميل؟ … أي جميل؟
أبولون
:
ألم تطلبي المعونة … وتسألي المَدد، وتُلحِّي عليَّ في
التدخل لإنقاذكِ مما وقعتِ فيه؟!
فينوس
:
لم أطلب إليك إنقاذًا، وإنما دعوتُك إلى إظهار براعتك … هذا
كل ما في الأمر!
أبولون
:
براعتي! … فليكن الأمل كما تقولين … ها هي ذي النتيجة …
نجاحٌ ليس بعده نجاح!
فينوس
:
عفوًا يا أبولون عفوًا! … ليس كل هذا النجاح لك! … لا
تتجاهل ما صنعتُ أنا أيضًا بعد ذلك!
أبولون
:
بعد ذلك؟!
فينوس
:
أوَكنتُ من الحُمْق بحيث أتركك وحدك كما تركتَني أول الأمر
… إنك حقًّا جعلتَ جالاتيا تفهم بجماليون، وتُعجب به … هذا
كل ما تستطيع أنت … هل تستطيع أنت أكثر من هذا؟
أبولون
:
وماذا صنعتِ أنتِ إذن بعد ذلك؟
فينوس
:
كل هذا الحُب المُلتهِب الذي يغمرهما الآن بلذَّاته،
ومُتَعه، ومسرَّاته … كل ما عندي من حيلة بذلتُها … وكل ما
عند كيوبيد من سهامٍ أمرتُه فرشق بها جسديهما!
أبولون
:
عجبًا! … إذن كنا نتبارى في حشد ما لدينا من سلاح!
فينوس
:
إنها كما تعلم كانت الموقعة الأخيرة!
أبولون
:
أجل! … لم يبقَ إلا أن يُقرَّ لنا بالفضل وهو جاثٍ على
ركبتيه!
فينوس
:
بي شوق أن أرى وجهه المشرق بالسعادة!
أبولون
:
ستَرَينَه بعد لحظة … إنهما الآن في طريق العودة؟
فينوس
:
سعادته هي من صنعي … لقد استحققتُ بخوره وقرابينه!
أبولون
:
لو كانت لديكِ ذرَّة من العدالة والإنصاف! … ولكنهما ليسا
في طبيعتكِ!
فينوس
:
مِن صُنعنا … أنا وأنت … ما دام هذا يُرضيك!
أبولون
:
أوَلم نقُل إننا تعاونَّا …؟
فينوس
:
طبعًا! … طبعًا! … طبعًا! … صه! … إنهما قادمان.
أبولون
:
لا تدفعيني هكذا بمَنْكِبك … في المكان متَّسعٌ!
فينوس
:
صه! … أريد أن أرى بسمة الهناء تملأ فمه!
(يُفتح الباب، ويدخل بجماليون وخلفه جالاتيا
وهما صامتان فاتران.)
(بجماليون يتثاءب تثاؤبًا طويلًا.)
أبولون
(همسًا لفينوس)
:
هذه علامة لا تسرُّ؟
جالاتيا
(في عتاب)
:
ما هذا يا بجماليون؟
بجماليون
(وهو يجلس على مقعد في تراخٍ وكسل)
:
المعذرة!
جالاتيا
(تفحص بيدها الرياش والأثاث)
:
ما أقذر الدار! … منذ غادرناها وهي مهمَلة! … انظر لقد
تراكم الغبار على الفراش!
(بجماليون لا يبدو عليه أنه معنِيٌّ
بكلامها.)
جالاتيا
(تتجه إلى أحد أركان الدار وهي تقول
كالمخاطِبة نفسَها)
:
أين المكنسة؟
بجماليون
(يُفيق، ويلتفت إليها)
:
ماذا تقولين؟
جالاتيا
:
لا شيء … لستُ أخاطبك أنت.
بجماليون
:
حسنًا فعلتِ!
جالاتيا
(تلتفت إليه دَهِشةً)
:
بماذا؟ … بعدم مخاطبتي إياك؟
بجماليون
:
لستُ أقصد ذلك … تكلَّمي إذا شئتِ.
جالاتيا
(وهي تكنس)
:
لا يبدو عليك قَط أنك في اشتياق إلى حديثي!
بجماليون
:
أتكنسين الآن؟!
جالاتيا
:
أتظنُّ في الإمكان أن نعيش هكذا بين هذا الغبار؟
بجماليون
(يتأمَّلها مليًّا، ويقول كالمخاطِب
لنفسه)
:
آه … وفي يدها مكنسة!
جالاتيا
(تلتفت إليه)
:
ماذا تقول؟
بجماليون
:
لا شيء! … لا شيء!
جالاتيا
:
ألَكَ في أن تصنع الآن شيئًا مفيدًا؟
بجماليون
:
ما هو؟
جالاتيا
:
انتقلْ بمقعدك إلى هذا الركن النظيف الذي فرغتُ من
كنسه!
بجماليون
:
أُف!
(ينهض بمقعده جهةً أخرى.)
جالاتيا
:
عفوًا إذا كنتُ قد كلَّفتُك كلَّ هذا الجهد!
بجماليون
:
لماذا هذا التهكُّم؟
جالاتيا
:
أنا تهكَّمتُ؟! … أرجو منك أن تعلم أن كلامي لك ينطوي
دائمًا على أجمل معاني التقدير!
بجماليون
:
معاني التقدير لمحتُها في عينيكِ هذا الصباح، وأنتِ تنظرين
إلى أولئك الحطَّابين في الغابة، والعَرَق يتصبَّب من
جباههم!
جالاتيا
:
كل كدٍّ جديرٌ بالتقدير!
بجماليون
:
كل زوجة لا تستريح حتى ترى جبين زوجها يتعفَّر بتراب العمل
والشقاء … إنكِ تعرفين أني لستُ في حاجة إلى أن أعمل
وأشقى.
جالاتيا
:
ومن ذا يطلب إليك ذلك؟
بجماليون
:
نظراتكِ، وإشاراتكِ.
جالاتيا
:
إنك صرتَ مَلولًا شديد السَّأم يا بجماليون!
بجماليون
:
بل إني لشديد الصبر أكثر مما ينبغي.
جالاتيا
:
ولماذا أكثر مما ينبغي؟ … ما يُرغمك على الصبر
إرغامًا؟!
بجماليون
(في حِدَّة)
:
ماذا تريدين أن أصنع؟
جالاتيا
:
بجماليون العزير! … أَخرج كل ما في صدرك من أشياء … إني
أحسُّ أنك في ضِيق … وأنك تحاول أن تُخفي عني ضجرك … لا
تكتُمْني شيئًا من أمرك يا بجماليون! … ثِقْ أني لن أغضب عليك
… فأنا لا شيء يُغضبني عليك، وثِقْ أني سأفعل المستحيل لأردَّ
الراحة إليك؛ فأنا لا عمل لي في الحياة إلا أن أُعطيك الراحة
والطمأنينة والهناء … ألحياتي غرضٌ آخر غير هذا؟!
بجماليون
(يهدأ قليلًا)
:
شكرًا لكِ يا «جالاتيا» العزيزة!
جالاتيا
(تدنو منه)
:
إنك في حاجة إلى الراحة … الإقامة في الكوخ لا تلائمك …
هنا يا بجماليون أعرف كيف أُحيطك بكل عنايتي! … مَن يدري لعل
شمس الغابة التي كنا نتعرض لها طول النهار! …
بجماليون
:
كلا … ليست الشمس!
جالاتيا
(تضع خدَّها على جبينه)
:
جبينك حارٌّ بعض الشيء!
بجماليون
:
أتَرَين ذلك؟
جالاتيا
(تجسُّ يديه)
:
ويداك أيضًا … يجب أن أعدَّ لك فراشك لتأوي إليه!
بجماليون
:
الآن … لا … لا أريد النوم الآن!
جالاتيا
:
لا تَنَمْ إذن … استلقِ بجسدك على الفراش … وأنا أحضر إليك
شرابًا من عصير الفاكهة … وأجلس عند قدمَيك هكذا … أحادثك
حتى تنام!
بجماليون
(يعبث بشعرها وهي جاثيةٌ عند
قدمَيه)
:
ما أطيبَكِ يا جالاتيا! … إني أحبكِ … نعم … أحبك على
الرغم من كل شيء!
جالاتيا
(ترفع عينيها)
:
على الرغم من كل شيء … ماذا تعني؟!
بجماليون
:
لستُ أعني شيئًا … إنما هي كلمات نلفظها دون أن ندري لماذا
لفظناها.
جالاتيا
:
أنا أدري لماذا لفظتَها!
بجماليون
:
لا أظنُّ أنكِ تدرين بما لا أدري به أنا نفسي … لا تشغلي
بالكِ أيتها العزيزة بما تلفظ الأفواه من كلمات … إنما جُعلتْ
لنا هذه الفوَّهة لنُخرج منها دخانًا من الحماقات!
جالاتيا
:
دخان يُنذرنا أحيانًا بما في جوف البركان! … ومع ذلك …
سأفعل ما تريد … لن أشغل بالي بغيرك أنت!
بجماليون
:
وحتى هذا … لا تُغالي فيه!
جالاتيا
:
آه يا عزيزي بجماليون! … ألم أقُلْ لك إنك تتبرَّم بكل شيء
الآن! … حتى بحبي لك.
بجماليون
:
هذا غير صحيح! … إني أمنعكِ عن التحدُّث هكذا … إنكِ
لتزيدين في ألمي بمثل هذا الكلام.
جالاتيا
:
أزيد في ألمك لو أني كنتُ جديرة أن تخبرني بهذا الألم؟! …
متى تأذن، على الأقل، في أن أضمِّد جراح نفسك؟
بجماليون
:
جراح نفسي؟ … مَن الذي أخبركِ أني جريح … وأني متألم؟ …
هل شكوتُ؟ … هل توجَّعتُ؟ … من أين تأتين بهذه الهواجس
والأوهام؟!
جالاتيا
(تنهض، وتعود إلى مكنستها)
:
سأفعل ما تريد … سألزم الصمت … إني ولا ريب أسأتُ
الفهم!
بجماليون
:
إنَّا دائمًا نُسيء فهْمَ أنفسنا … خير الأمور — فيما أرى —
ألَّا نطلب هذا الفهم أو نحاوله إذا أردنا لأنفسنا
السلام!
جالاتيا
:
لن أحاول … إذا جُعتَ فأخبرني لأهيِّئ لك الطعام … يُخيَّل
إليَّ أن في مقدوري أن أبتدع لك لونًا منه لم تَذُقْ مثله …
إنه من مختلف الخُضَر، منسَّقةً تنسيقًا تُسرُّ له العين قبل
أن يستسيغه الفم!
(لحظة صمت.)
بجماليون
(وهو في إطراقه)
:
ما رأيكِ في أن أعود إلى العمل؟!
جالاتيا
(تلتفت سريعًا)
:
العمل؟!
بجماليون
(كالمخاطِب لنفسه)
:
هو الذي يُشعر الإنسان بأنه لم يُلقِ السلاح بعدُ.
جالاتيا
(تتنهَّد)
:
آه … يا بجماليون!
بجماليون
(يرفع رأسه)
:
ماذا تقولين أنتِ في ذلك؟
جالاتيا
:
لقد حسِبتُ أنه خير علاجٍ لمَا أنت فيه … لكن افعل ما يروق
لك!
بجماليون
:
ماذا أعمل؟ … إني لن أصلح بالطبع حطَّابًا في
الغابة!
جالاتيا
:
إنَّك خالق!
بجماليون
:
نعم! … وأين هي الآن أدوات الخَلْق؟
جالاتيا
:
ماذا ينقصك؟ … ها هي ذي القاعدة! … ضَعْ عليها كتلةً من
الرخام … أو من العاج!
بجماليون
:
صَه أيتها المرأة!
(يضع رأسه بين كفَّيه.)
جالاتيا
:
أتراني أسأتُ القول يا بجماليون العزيز؟
بجماليون
:
آه … ليت هذا وحده يكفي لأن نُسوِّي مخلوقًا فنيًّا!
جالاتيا
:
لديك العبقرية دائمًا.
بجماليون
:
العبقرية؟ … نعم … بجوادها الطائر، قويِّ الجناح، المحلِّق
في سماءٍ غير متناهية الأطراف!
جالاتيا
:
لديك هذا الطائر يا بجماليون!
بجماليون
:
ربما … ولكن أين هي السماء؟
جالاتيا
:
ماذا تقول؟
بجماليون
:
ما فائدة الطائر بغير سماء!
جالاتيا
:
فهمتُ ما تعني … يا للكارثة!
بجماليون
:
نعم … إنها لكارثة!
جالاتيا
:
أخشى أن أكون أنا السبب يا بجماليون!
بجماليون
:
لا … بل … بل …
جالاتيا
:
بل … مَن؟
بجماليون
(كالمخاطِب لنفسه)
:
أولئك الذين استطاعوا الإتيان بهذه المعجزة: أن يحوِّلوا
السماء إلى سقف، وأن يجعلوا الجواد الطائر يصفق بجناحيه داخل
حجرة! … هذا هو كل انتصارهم!
جالاتيا
:
عمَّن تتكلم يا بجماليون؟
بجماليون
(صائحًا ثائرًا)
:
أولئك الذين سلبوني فنِّي.
جالاتيا
:
ولكنَّ فنَّك باقٍ!
بجماليون
:
أين هو؟ … أين هو؟
جالاتيا
:
لقد صنعتَ في الفن أثرًا.
بجماليون
:
أين هو؟ … أين هو هذا الأثر؟ … أين هو؟
جالاتيا
:
آه … ليس من السهل عليَّ أنا أن …
بجماليون
:
هذا الأثر هو … أنتِ … أليس هذا ما تقصدين؟
جالاتيا
:
ذلك ما كنتُ أظنُّ.
بجماليون
:
لا!
جالاتيا
:
لا؟! … لستُ أنا جالاتيا؟!
بجماليون
:
لستِ أنتِ أثري الفني … إني لم أصنع امرأة في يدها
مكنسة!
جالاتيا
(تنظر إلى المكنسة في يدها، وتداريها في
خجلٍ وألم)
:
آه!
بجماليون
(يهدأ قليلًا)
:
معذرةً يا جالاتيا … إني آسفٌ كل الأسف … إني لم أُرِدْ
إيلامكِ، ولا إيذاءكِ … ولم يخطر على بالي الانتقاص من تقديري
لكِ واحترامي إيَّاكِ … إنما … إنما …
جالاتيا
:
لا تهتمَّ لأمري يا بجماليون … إني أفهم مرادك، وأدرك ما
يجول في خاطرك!
بجماليون
:
يا زوجتي المحبوبة … إنكِ خير زوج، وأصلَحُ رفيق، وأصدَقُ
صديق!
جالاتيا
:
نعم … ولكني لستُ عملك الفني … إنك لَعلَى صواب يا
بجماليون!
بجماليون
:
ليس الذنب ذنبكِ يا جالاتيا … إنها الحياة … جعلتكِ كما
أنتِ الآن!
جالاتيا
:
أقلَّ جمالًا من أثرك الرائع!
بجماليون
:
إني أحبُّك على الرغم من ذلك.
جالاتيا
:
نعم … ولكن … حُبٌّ فقيرٌ بخسٌ … حُبٌّ خليقٌ بالحجرة
المغلقة، والسماء التي يحدُّها سقف … حُبٌّ لن يغنيك عن … عن
… جالاتيا الأخرى!
(بجماليون يضع رأسه بين كفَّيه.)
جالاتيا
(تمرُّ بأناملها على شعره في حنانٍ
ومودة)
:
يؤلمني أن أراك حزينًا يا بجماليون.
بجماليون
(كالمخاطِب لنفسه)
:
نعم، أنتِ زوجتي المحبوبة … ولكنكِ لستِ … أثري
الخالد!
جالاتيا
:
يسرُّني أيها العزيز أن تعلن إليَّ هكذا كل خلجات
قلبك!
بجماليون
:
وفيمَ المكابرة ما دمتِ قد شعرتِ بما يكاد يمزِّق نفسي
قطعتين … ويشطرها شطرين … نعم … أنتما الاثنان تتجاذبان
قلبي … أنتما الاثنان تتصارعان … هي بارتفاعها وجمالها
الباقي … وأنت بطيبتك وجمالك الفاني … هي الفن، وأنتِ
الزوجة!
أيتها الآلهة … لقد أخذتم منِّي فنِّي، وأعطيتموني
زوجة.
(يأخذ رأسها في كفَّيه، ويتأمَّلها وهي
جاثية عند قدمَيه.)
إني صنعتُكِ هكذا حقًّا يا جالاتيا … هذا الجسم … وهذا
الرأس … وهذا الوجه؛ لكن … ما الذي تغيَّر فيكِ مع ذلك؟ …
أتدرين كيف صنعتُ جالاتيا العاجية؟ … لقد حملني ذلك الجواد
المجنَّح في سماء المُثُل العليا … حلَّقتُ، حلقت حتى تعبت
الأجنحة، وكلَّتْ عن متابعة التصعيد … هناك بين أمثلة الجمال
المختلفة تخيَّرتُ وانتقيتُ وعُدْتُ لجالاتيا بأكمل الصور
وأجمل النظرات، وأحلى البسمات، وأروع اللفتات … ثم نبذتُ
ونحَّيتُ … فجعلتُ جالاتيا منزَّهة عن كل نقصٍ وكل سهوٍ وكل
سخفٍ … إنها الجمال مُقطَّرًا من خلال ألف مِصْفاة من الصبر
الطويل، والعمل المُضنِي، والتجربة المتصلة … ولقد ثبَّتُّ
ذلك كله في العاج وخلَّدتُه … لا تتألمي يا زوجي العزيزة …
لم يذهب كل هذا الجمال عنكِ … لا … لكن ما الذي تغيَّر فيكِ
مع ذلك؟ … نظراتكِ جميلةٌ … نعم … ولكنَّ فيها شيئًا محدود
المعنى … أما نظراتها فكانت كأنها تشرف على عوالم غير محدودة
الآفاق … لَفتاتكِ رائعةٌ، ولكن تفسدها أحيانًا حركةٌ طائشة،
أما لَفتاتها فكانت دائمةَ الروعة والجلال … بسماتكِ حلوة،
ولكن … أعرف ما تنطوي عليه! … وشفتاكِ رقيقتان، ولكن أعرف ما
ينفرج عنهما من حديث، وما يمكن أن ينطبع عليهما من قبلات! …
أما شفتاها فكانتا تنفرجان عن كلماتٍ لم تقُلها قَط. ولن
تقولها أبدًا، ولكنَّ لها صدًى بعيدًا، يتغلغل في كل قلب إلى
الأغوار التي لا يُدرَك لها قاع … وفمها يوحي بقُبلات لم
تُمنح قَط، ولن تُمنح أبدًا؛ ولكنها تتراءى للأعين دائمًا،
وتثير النفوس دائمًا على مدى الأزمان … هذا هو الفرق بينكِ
وبينها: كل ما فيكِ محدود، وكل ما فيها غير محدود!
جالاتيا
(في صوتٍ خافتٍ، وإطراقِ ذليل)
:
صدَقتَ يا بجماليون!
بجماليون
:
إياكِ أن تدَعي هذا الكلام يجرح نفسكِ … إني لا أريد
إذلالكِ أنتِ يا زوجتي العزيزة! … إنما أسوق الكلام إليهم هم
… في عليائهم! … سكان أولمب … هه! … سكان أولمب الجبابرة!
… أولئك الخالدون الذين لم يستطيعوا أن يصنعوا غير الهالك
المحدود … أمَّا أنا الهالك المحدود فقد استطعتُ أن أصنع
الخلود!
يا سكان أولمب، في إمكانكم أن تعجنوا ذلك المزيج من الجمال
والقبح والنبل والسخف والارتفاع والابتذال، وتُسمُّوا ذلك
الحياة! … ولكنكم لن تستطيعوا أبدًا أن تصنعوا مثلي ذلك الشيء
المقطَّر المصفَّى الذي يُسمَّى الفن … نعم … الفن هو قوَّتي
أنا البشر الفاني … هو جبروتي … هو معجزتي، هو سلاحي … في
إمكاني أن أقيس قامتي إلى قامتكم، وأن أنتَضِي سلاحي لأقرع به
سلاحكم … سلاحكم الحياة، وسلاحي الفن!
(تبدو من فينوس في النافذة حركة؛ فيبادر أبولون
بوضع إصبَعه على فمه مُسكِتًا إيَّاها.)
جالاتيا
(الدموع في عينيها)
:
إني فخورة بك يا بجماليون؛ فإن خير ما فيَّ هو من صُنعك …
ولكن …
بجماليون
:
أتبكين؟!
جالاتيا
:
لا أريد أن تبغضني … لستُ أحتمل فكرة بغضك لي … إني أفهم
الآن كل ما قلتَ … إنَّ مقامي هنا على هذه الصورة مستحيل …
إني لستُ من عملك الخالص كما ذكرت … إنك تنظر إليَّ، وفمك
يكاد يرميني في كل لحظة بهذه العبارة القاسية: يا للبشاعة! …
يا للجريمة! … لقد تشوَّه عملي! … أتحسَبني أطيق قولك هذا
طويلًا؟!
بجماليون
:
لا تبكي يا جالاتيا … ألم أقُل لكِ إني لستُ ناقمًا عليكِ
أنتِ!
جالاتيا
:
بل إنك لناقمٌ عليَّ … بل إن كل يوم يمضي تتسع معه الهوَّة
بينك وبيني … إنَّ وجودي معك لن يَفتُر يذكِّرك بأثرك الضائع
وفنِّك المفقود … بجماليون! … يجب أن نفترق!
بجماليون
:
نفترق؟!
جالاتيا
:
منذ الآن! … هذا خير لي ولك … إني لن أحتفظ حتى بهذه
الصورة طويلًا … إني في كل يوم أسير خطوةً نحو الهَرَم … إني
لن أتحمَّل عينيك، وهما تنظران إلى جسمي ووجهي بعد سنوات! …
جنِّبْني هذا الإذلال، ووفِّر عليَّ هذه الصدمات.
بجماليون
:
تهرَمين؟!
جالاتيا
:
ألم تفكر في ذلك يا بجماليون؟ … أليس شَعري مُعرَّضًا
للشيب، ووجهي للتجاعيد، وجسدي …؟
بجماليون
:
كفى … يا جالاتيا!
جالاتيا
:
أرأيت؟ … إنك لا تستطيع أن تتخيل ذلك!
بجماليون
(في همسٍ)
:
لا أستطيع!
جالاتيا
:
لقد لفظتَ الحقيقة الساعة يا بجماليون! … إني لستُ عملك
الفني! … ولا أستطيع أن أكون كذلك … ينبغي أن تفكر في شيء
آخر أيضًا … هو احتمال موتي!
بجماليون
:
موتكِ!
جالاتيا
:
وبه يُمحى كل أثرٍ لعبقريتك!
بجماليون
(كالمخاطِب لنفسه)
:
موتكِ! … لا … لا يمكن أن أطيق ذلك!
جالاتيا
:
أعرف هذا … لا لأنك تحبني … بل لأنها صدمة لكبريائك
الفني!
بجماليون
(كالمخاطِب لنفسه)
:
عملي الجميل يتحول إلى تراب!
جالاتيا
:
أرأيت؟
بجماليون
:
وجهادي الطويل؟!
جالاتيا
:
وما اختلستَه من قبسات النور في سماء المُثُل العليا، وأنت
على جناحَي الجواد الطائر؟! … وما تخيَّرته وانتقيته من خير
نماذج الجمال وأروع أشكال الكمال … كل ذلك يُقدَّم وليمةً
فاخرة لدود المقبرة!
بجماليون
:
ويلٌ لسكان أولمب! … حَسْبكِ يا جالاتيا! … كفى … كفى …
لماذا تعذبينني بكل هذا الآن؟
جالاتيا
:
لستُ أدري يا بجماليون … مغفرةً! … إنها حماقات تخرج من
فمي دون أن أعني بها شيئًا … إنما أشعر مع ذلك شعورًا خفيًّا
أننا سنفترق … لستُ أدري كيف؟ … فأنا لا أستطيع أن أغادرك
راضية أو كارهة … وإذا افترقنا فإلى أين أمضي بعيدةً عنك؟! …
كلَّا … أرجو أن يكون شعوري كاذبًا … وأغلب الظن أنه كذلك …
هلُمَّ فَلْنتحدث في شيءٍ آخر أيها العزيز بجماليون! … لقد
أطلنا الكلام في أشياء قاتمة سوداء … قبِّلني يا بجماليون
أيها الحبيب! … قُبُلات كثيرة كثيرة … فإني أخشى أن …
بجماليون
(شارِد الذهن)
:
نعم!
جالاتيا
:
بجماليون! … ماذا بك؟ … ماذا دهاك؟
بجماليون
(ينهض بقوة)
:
إني أعرف الآن ما ينبغي أن أسلك من طريق!
جالاتيا
(في قلق)
:
إلى أين تمضي؟ … إلى أين تمضي؟
بجماليون
(شارِد الذهن يتجه إلى الباب)
:
إلى المعبد!
جالاتيا
(هامسةً خائفةً)
:
المعبد؟!
بجماليون
(يعود إلى جالاتيا، ويمسك بها)
:
جالاتيا! … جالاتيا! … قبِّليني كثيرًا … ولأقبِّلكِ
قُبلاتٍ كثيرة … كثيرة … وداعًا.
(يتعانقان طويلًا.)
(يخرج سريعًا … وتبقى جالاتيا جامدةً
شاحبةً.)
جالاتيا
(تقع منهوكةً على قاعدة التمثال بقربها،
وهي تهمس)
:
وداعًا!
(تضع رأسها بين كفَّيها.)
بجماليون
(في الخارج صائحًا)
:
أيتها الآلهة! … يا فينوس! … يا أبولون! … رُدُّوا إليَّ
عملي، وخُذوا عملكم! … رُدُّوا عليَّ فنِّي … أريدها تمثالًا
من العاج كما كانت!
(فينوس تلتفت إلى أبولون.)
فينوس
:
أَسامِع؟
أبولون
:
نعم.
فينوس
:
والآن؟
أبولون
:
ليس هناك غير أمرٍ واحد: نسحب ما لنا، ونُعطيه ما له!
فينوس
:
ونسلِّم بهزيمتنا!
أبولون
:
أوَنستطيع أن نفعل غير ذلك؟ … إنه يطلب ردَّ تمثاله كما كان
… فَلْنردَّ عليه تمثاله كما كان!
فينوس
(تمدُّ يديها نحو جالاتيا
المُطرِقة)
:
ارتفعي عن جالاتيا أيتها الحياة! … واتركيها تمثالًا من
عاج!
(جالاتيا تجمُد فوق القاعدة.)
أبولون
(يمدُّ يديه نحو جالاتيا الجامدة)
:
عُدْ كما كنتَ يا فنَّ بجماليون! … وسوِّ التمثال كما
كان!
(جالاتيا تتخذ الشكل الذي كانت عليه من قبل فوق
القاعدة الرخامية.)