الجاذبية والدافعية
(١) قوة الانجذاب نحو المركز
نبتدئ من مذهب أن التجاذب بين الذرات خاصة من خواص المادة (كما سبق هذا القول في [الفصل الرابع: مصدر القوى – الهيولي]) أو طبيعة من طبائعها؛ أي إن المادة كذلك خُلِقَت، ذرات يجذب بعضها بعضًا، أو إذا شئت فقل إن من طبيعة الذرات أن تقترب كل واحدة إلى أقرب ذرة إليها من غير دافع خارجي عنها يدفع كلًّا منهما إلى الأخرى، إلا إذا طرأت عليهما قوة تفرِّق بينهما فتتباعدان مرغمتين، كما لو مرت ذرة ثالثة في نقطة أقرب إلى إحدى الاثنتين فتتجاذب هاتان دون تلك، وحاصل القول إن الذرة لا تستطيع العزلة أو الانفراد.
وقد قلنا إن هذه هي طبيعة كل ذرة في الكون — فالبروتونات الأويلات والكهارب والفوتونات الضويئات والكتل المتجمعة منها والأجرام كلها — خاضعة لحكم هذا التجاذب، فإذا تصوَّرنا جميع الذرات التي تألَّفت منها الأجرام منفرطة العقود ومشتتة في الفضاء المطلق، فهل يكون غريبًا عن تعقُّلنا أو عجيبًا لأذهاننا أن يتقارب بعضها إلى بعض؟
قد نتساءل بماذا تتقارب؟
هَبْ أنها لم تتقارب بل بقيت مبعثرة، أفلا يخطر لك أن تسأل: لماذا هي مبعثرة هكذا؟ لماذا لا تتجمَّع؟ فتجمُّعها ليس أدعى للاستغراب من تشتُّتها، ربما كان العقل يرتاح إلى تقاربها أكثر منه إلى بقائها مشتتة.
(٢) سر التقارب
لنفرض أن تقارب الذرات بعضها إلى بعض (كما هو الواقع) أو ثباتها في أماكنها من غير تقارب، سيَّان عند العقل المنطقي، أو أن لهذا التقارب سببًا نجهله، أو أن هناك قوة أجنبية عن المادة تُحْدِثه (قوة الله)، على أن هذا التقارب حادث فعلًا، وما دمنا لا نكتشف له سببًا فلنعده خاصة من خواص المادة (الله خلقها بهذه الطبيعة)، ولنسمِّه نزعة مادية، أي إن كل جسم مادي — ذرة أو مجموعة ذرات — ميَّال أو نزوع إلى الاقتراب لأقرب جسم آخر إليه، فمن هذه النزعة نبتدئ في تفسير سر الجاذبية.
بالبديهة نعلم أن كل ذرتين متعادلتين كتلة تتقاربان في المكان والزمان بالتساوي؛ أي إن كلًّا منهما تقترب إلى الأخرى مسافة واحدة في مدة واحدة، كقولك مثلًا: إن كلًّا منهما تدنو نحو الأخرى سنتيمترًا في ثانية واحدة، فإذا تفاوت الجسمان في عدد الذرات كان تقارب كل منهما يجري على هذه القاعدة البديهية؛ أي إن اقتراب الجسم الواحد إلى الآخر يكون بقدر ما في الآخر من الذرات بالنسبة إلى ما في الأول منهما.
لنفرض ذرة واحدة تبعد ١١ سنتيمترًا عن مجموعة تحتوي على عشر ذرات، فحينئذٍ نتصور الذرة المفرَدة ميَّالة للاقتراب إلى كل ذرة من الذرات العشر سنتيمترًا واحدًا، كما أن كل ذرة من الذرات العشر ميَّالة للاقتراب إليها، فإذن كلما اقتربت الذرات العشر سنتيمترًا واحدًا كان على الذرة المفردة أن تقترب إليها في نفس الوقت عشر سنتيمترات لكي توفي كلًّا من العشر حقها من التقارب.
على هذا النحو: مجموعة ذات ٥ ذرات تقابل مجموعة ذات ٣٠ ذرة، وبينهما ١٤ سنتيمترًا تقترب تلك ٦ سنتيمترات كلما اقتربت هذه سنتيمترًا واحدًا، وفي آخر الثانية الثانية تلتقيان عند السنتيمتر الثاني عشر؛ لأن ٥ × ٦ × ٢ = ٣٠ × ١ × ٢.
وهذا يُطابق الضلع الأول من قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن، وهو أن الجاذبية هي حاصل ضرب كتلة الجِرْم الواحد بكتلة الجِرْم الآخر (والمراد بالكتلة مجموع عدد الذرات)، ولكن الجاذبية ليست هذا الضلع وحده، بل هي نسبة هذا إلى ضلع آخر، وهو مربع المسافة بين الجِرْمين، وهذا يؤيد ما ذُكر في [الفصل الثالث: شمول ناموس الجاذبية – تجاذب الكتل].
والضلع الثاني أهم من الأول وفيه معظم السر.
لو اقتصرت الجاذبية على الضلع الأول — أي تقارب الذرات ومجموعات الذرات بعضها إلى بعض — لانطبقت جميع ذرات الكون وجميع أجرامه وسُدُمه بعضها على بعض، بحيث لا يبقى أقل فراغ بينها، وكان ضغطها بعضها على بعض في شدة لا يتصورها عقل، ولكن الضلع الثاني يتدارك هذه الكارثة الكونية ويجعل للكون أنظمته التي نعلمها.
الضلع الأول يسمى القوة الجاذبة إلى المركز وقد انتهينا منه، والضلع الثاني يُسمى القوة الدافعة عن المركز وهو الذي نعلِّله فيما يلي:
(٣) قوة الابتعاد عن المركز
وهنا لا بد أن يسأل القارئ كيف يكون ذلك؟ وكيف يمكن أن يؤثر دوران جِرْم مركزي كالشمس في جِرْم آخر كالأرض على بُعْد سحيق بينهما، بحيث يجعلها تدور من حول الشمس بسرعة مقرَّرة لا تتعدَّاها، ولا تقصر عنها لتتمَّ الدورة في سنة كاملة؟ فما هي واسطة الاتصال التي تنتقل بها القوة من الجِرْم المركزي الدائر على نفسه إلى الجِرْم البعيد عنه؛ لكي تضطره أن يدور حوله، فلا تتركه يهبط إلى المركز ولا تدعه يشرد عنه؟
هنا تنبري وظيفة الإيثر في الميدان لحل اللغز، وهنا تتضح علاقة الجاذبية بالإيثر، وهنا يتضح الدور الذي يلعبه الإيثر في الضلع الثاني من الجاذبية، وإليك البيان:
(٤) الدوران الحلزوني
يمكنك أن ترى شبهًا لهذه الحركة الحلزونية إذا ملأت «طستًا» واسعًا ماءً ووضعت في وسط المسافة بين مركزه ومحيطه فلينة، ثم وضعت أصبعك في المركز وحرَّكته حركة رحوية حول المركز، وإذا جعلت بدل أصبعك خشبة بعرض سنتيمترين أو ثلاثة سنتيمترات وسماكة سنتيمتر واحد، وطفقت تديرها بسرعة ترى الموج يتولَّد من هذه الحركة بالشكل الحلزوني، ولا تلبث أن ترى الفلينة سائرة ببطء حول المركز في اتجاه الدوران الذي أنت محدثه، وإذا لم تر دوران الفلينة منتظمًا؛ فلأن الموجات ترتد من محيط الطست مفسدة نظام الموجات الواردة من المركز والمصدومة بها.
تصوَّر هذه الأمواج الحلزونية صادرة ليس من دوران الشمس على محورها فقط، بل من بلايين الذرات التي تتألَّف الشمس منها، وهي تدور على نفسها بنفس اتجاه الدوران الشمسي، فهذه البلايين من الأمواج المنتشرة بشكل حلزوني من المركز إلى اللانهاية هي ما يُسمى «الجو الجاذبي».
والآن لكي نفهم هذه الصورة التالية جيدًا تصوَّر الشمس وهي تدور على محورها، وتصوَّر نتوءاتها الذرية التي لا تُحْصَى تصدم الإيثر صدمات عرضية أي معامدة لنصف القطر؛ فتُحْدِث أمواجًا عرضية متتابعة لا يُحْصَى عددها، تنتشر من حول الشمس انتشارًا حلزونيًّا في اتجاه دورتها المحورية، ولتسهيل التصور نقتصر على تتبع الأمواج التي يُحْدِثها نتوء واحد كل هنيهة، فترى أن الموجة الواحدة التي يُحْدِثها النتوء لا تتم دائرة حول الشمس بل تلتف التفافًا من حول الموجة التي تليها، فإذا تصورت أن نبرات الشمس في دورانها المحوري تُحْدِث بلايين الأمواج في البحر الإيثري على هذا النحو، أمكنك أن تتصوَّرها ملتفَّة بعضها على بعض بالشكل الحلزوني وهي تصدم الإيثر أمامها صدمًا عرضيًّا معامدًا لأنصاف أقطار الدائرة.
ثم تصوَّر الأرض على بُعْد من الشمس وهذه الأمواج تصدمها على نحو ما تصوَّرناه آنفًا، فلا بد من أن تتصوَّر أن الأمواج تسوقها أمامها سوقًا، أو تتصوَّر أن الأرض — وهي قاصدة أن تقترب إلى الشمس — لا تستطيع الاقتراب؛ لأن الأمواج تمنعها فتضطر أن تتدحرج أو تتزحلق على متون تلك الأمواج في خطٍّ منحنٍ يتم في دائرة، فكأن الأرض تحت تأثير قوتين: قوة الانجذاب نحو مركز الشمس، وقوة الأمواج الصادمة لها في خط معامد لخط الانجذاب المذكور، ونتيجة القوتين المتعامدتي اتجاه السير في خط دائري — حول الشمس — هو الفلك (المدار) الذي تدور فيه الأرض من حول الشمس، ولولا هذه الأمواج الحلزونية الإيثرية لسقطت الأرض على الشمس، هذه هي «الدافعية» أي القوة الدافعة عن المركز.
ولعلك تظن أنه ما دامت الأمواج تسوق الأرض أمامها — وهي حلزونية — فلا بد أن تسير الأرض في خط حلزوني أيضًا فتبتعد عن الشمس مع ابتعاد الأمواج الحلزونية الدافعة لها.
نعم، كان يجب أن تتباعد الأرض عن الشمس بفعل هذه الأمواج لولا أن هناك قوة التجاذب (أو التقارب) بين الجِرْمين التي شرحناها آنفًا، وهذه القوة تقاوم قوة الأمواج العرضية وتوازنها.
ولعلك تسأل: إذا قذفنا حجرًا أو قنبلة قذفًا أفقيًّا، فلماذا لا يستمر دائرًا من حول الأرض كما يدور القمر من حولها؟ أو لماذا لا يسقط القمر إلى الأرض كما يسقط الحجر إليها؟
أقول: إن الجواب على هذا السؤال هو لباب ناموس الجاذبية؛ لأن هذا الناموس لا يقتصر على تجاذب الجِرْمين فقط، بل يشتمل على ناموس سرعة الدوران: دوران الواحد من حول الآخر، فالسرعة هي أهم ضلع في الناموس؛ لأن مقدارها المناسب للبُعْد عن المركز هو الذي يقي الأرض من الهبوط إلى الشمس، كما أنه يعصمها من الشرود عنها، وهو الذي يقي القمر من الهبوط إلى الأرض أو الشرود عنها.
لو أمكننا أن نقذف قنبلة بسرعة ٩ / ١٠ أربعة أميال في الثانية لجعلت تدور من حول الأرض كسيَّار أو قمر حولها، ولو أمكننا أن نقذفها بسرعة خمسة أو ستة أميال في الثانية لشردت عن الأرض وتاهت في الفضاء، والسهم الذي زعموا أن الأستاذ جودارد الأميركي يبتغي قذفه إلى القمر لا يمكن أن يبتعد عن الأرض إذا لم ينقذف بسرعة تزيد على خمسة أميال في الثانية، فأين القوة الأرضية التي تستطيع أن تُحْدِث هذه السرعة؟ كذلك القمر لو أبطأ معدل سرعته — ولو بعض الميل — لهبط إلى الأرض لا محالة، ولو طرأت عليه قوة من عالم الغيب تزيد معدل سرعته لشرد في الفضاء.
بقي أن القارئ يستغرب أن ذلك الإيثر الذي حسبنا لطفه جزءًا من ملايين جزء من لطف غاز الهواء تستطيع موجته أن تدفع أمامها الأرض التي هي أكثف من الهواء عشرات المرات، ولكن إذا تصورت أنه ليس في البحر الإيثري قوة أخرى غير قوة أمواج الإيثر تتسلَّط على الأرض من أية ناحية البتة، فمهما كانت قوة هذه الموجة ضعيفة في تصوُّرنا فهي ذات قوة كافية لأن تدفع جِرْم الأرض معها ما دام ليس هناك قوة ضدها.