تطور الكون
(١) وجوب وجود المادة متحرِّكة
نعود إذن إلى تصوُّر الحيِّز الكوني مفعمًا فوتونات فيها نزعة طبيعية إلى التقارب بعضها إلى بعض، ونزعة أخرى وهي الدوران المحوري الذي أشرنا إليه مرارًا فيما سبق، ومن هنا نعتبر بداءة تطورها.
نزعم أنها ابتدأت بتطورها من حالة كونها موزعة فوتونات في الحيِّز الكوني بالتساوي؛ لأننا نرى دلائل التصور في سُدُمها واضحة كالنهار كما قلنا، فلا بد أن تكون هذه الحالة من درجات تطورها إن لم تكن أولى درجاته، فصار السؤال الآن: كيف شرعت تتطوَّر من بعد وجودها في هذه الحالة؟
نراها الآن بواسطة المراصد كما كانت منذ ملايين السنين: مجموعات سُدُم غازية متفاوتة الكثافة مختلفة الأشكال بعض الاختلاف متقاربة الأحجام، وكلها تدور على محاورها، فإذن كيفية نشوئها واحدة، كما أن المادة التي تكوَّنت منها واحدة (الشكل والطبع)، فكيف نشأت متنوعة؟ وما هي أسباب بعض الاختلافات في أشكالها وأحجامها وأوزانها؟
والجواب الإجمالي: إنها نشأت بكيفية التكاثف في البحر الفوتوني، فكيف حدث هذا التكاثف؟
نتصور هذا البحر الكوني الفوتوني ككرة عظمى يحيط بها العدم، ونتصور حركته أول أمرين أو كليهما معًا. الأول أن في كل ذريرة (فوتون) نزعة طبيعية للاقتراب إلى أقرب فوتون إليه، والأمر الثاني كل فوتون يدور على نفسه دورة مغزلية (على محوره) حتى إذا تحرَّك في اتجاه محوره كان يمر في الفضاء كالبرغي في الخشب، فرضناه هكذا لأن بعض العلماء مثل تجينز يعتقد أن الفوتون ينتشر من الذرة مندفعًا وهو يدور على نفسه (على محوره) مارقًا في الفضاء بحركة حلزونية، هذا إذا تحرَّك محوره، وقد يتحرَّك في اتجاه دورانه، فتكون حركته كأنه يتدحرج في الفضاء كالعجلة.
يحتمل أن يكون الفوتون أو الذريرة الإيثرية الأولى قد ابتدأت بالتحرك بحركة التقارب فقط، ثم جاءت حركة الدوران بعدئذٍ كنتيجة للتطور، أو يُحْتَمل أيضًا أنها ابتدأت بالتحرك بالحركتين معًا أي حركة الدوران وحركة التقارب، والحركتان معًا نتيجتا التطور، وإنما هنا يتعذر على العقل السليم أن يتصور أن حركة الدوران نزعة طبيعية لحركة التقارب، ولا بد إذ ذاك من التشدد في السؤال: أية قوة دفعت الفوتونات في هذه الحركة؟ وحينئذٍ نعود فندخل في دائرة اللامتناهي التي ينصرع العقل فيها حتى ولو فرضنا أن القوة المحرِّكة للفوتونات قوة إلهية؛ لأن هذا الفرض ليس أقرب إلى العقل من نسبة الحركة لطبيعة الفوتونات نفسها، ولأنه لا ينقذ العقل من ورطة اللامتناهي؛ لأنه لا يستطيع أن يتملَّص من سؤال آخر وهو: من أين جاء ذاك المحرِّك الأول بالحركة؟ أو من أين استمدَّ قوته؟ فإن فرضنا محرِّكًا آخر قبله مَنَحَهُ هذه الحركة درجنا في سلسلة اللامتناهي التي لا يخرج منها ولا يستقر فيها العقل مقتنعًا راضيًا، فإذا لم يكن بدٌّ من فرض قوة واجبة الوجود كأصل أو علة لوجود الكون متحركًا أو لتحرُّك المادة، فماذا يمنع أن تكون المادة المتحركة هي نفسها واجبة الوجود؟ ولماذا نقدِّم عليها قوة لا مزية لها وليس فيها إقناع للعقل أكثر مما في وجوب وجود المادة نفسها؟
على أي حال القارئ حر في تعليل وجود المادة متحركة، ونحن نبتدئ في شرح تطور الكون المادي من وجود بحر فوتونات لها على الأقل نزعة التقارب.
(٢) ناموس التكاثف
في هذه الحالة نرى بعين العقل كل فوتونة بين ست فوتونات من حولها في الجهات الست، وهي ميَّالة للدنوِّ إلى كل واحدة منها، أو بتعبير الاصطلاح الجاذبي كل واحدة راغبة في استدعاء أية واحدة من اللواتي حولها إليها، ولأنهنَّ جميعًا على مسافات متساوية بينهنَّ فلا تستطيع الواحدة منهنَّ أن تختار واحدة دون الأخريات، حتى ولو كانت لهنَّ خصلة الدوران المحوري.
فإذا فرضنا أن الكون غير متناهٍ بل هو ممتد من جميع النواحي إلى ما لا نهاية له، وهو أمر يستحيل تصوره فتكون الذرات الإيثرية أو الفوتونات في وضعها الذي تصوَّرناه متوازنة فيما بينها، وليس ثمة من داعٍ أو عامل لتحريكها بعضها نحو بعض، بل تبقى كذلك إلى أبد الآبدين، أو إلى أن تطرأ عليها قوة أجنبية تحرِّكها وتخلُّ توازنها هذا فتشرع في تطورها تجمُّعًا وتفرُّقًا فأين القوة الأجنبية؟
وإنما نحن علمنا أن الحيِّز الكوني متناهٍ أي محدود الحجم حوله فراغ نعتبره عدمًا، وليس عندنا دليل قط أنه انشقَّ من كونٍ أعظم غير متناهٍ، وإن كان هذا لا يستحيل حدوثه إلا عند عقلنا الذي لا يستطيع تصوُّر اللامتناهي.
فلنبق على فرضنا الأول وهو أن كوننا المادي وحيد فريد، وقد وُجِدَ منذ الأزل بحر فوتونات بشكل كروي يحيط به الفراغ المطلق أو العدم، وحينئذٍ نرى الفوتونات متوازنة فيما بينها إلا في قشرة سطحه الكروي، فهناك نرى كل فوتون منجذبًا إلى خمس فوتونات من جهات خمس دون الجهة السادسة، وأن التوازن في القشرة السطحية مختل، وإذن فوتونات القشرة تدنو إلى ما بين الخمسة بحسب قانون تعدُّد القوات المتسلطة على جسم واحد واختلاف جهاتها كما هو معلوم في علم الطبيعة، وحينئذٍ تصبح فوتونات الطبقة التي تحت القشرة أكثر عددًا وتقاربًا، فتجذب فريقًا من الطبقة التي تحتها، ويحدث تجمُّع في قشرة جديدة فتختل الموازنة في الطبقة الرابعة، وتهبط إلى طبقة تحتها ويحدث تجمُّع آخر قد يكون أعظم من التجمُّع الأول أو أقل.
وفيما نحن نتصوَّر التجمع في طبقات غضضنا النظر عن اختلال التوازن في الطبقات الكروية نفسها الأمر الذي يمزِّقها إلى تجمُّعات صغيرة، وهذا التمزُّق محتمل جدًّا، بل هو منتظر إذا كان عدد فوتونات القشرة وترًا لا شفعًا، أو وتر الوتر بحيث يستحيل أن تنقسم القشرة إلى جماعات متساوية العدد من غير فضلة، فالفضلة وحدها إما أن تكون مجموعة أصغر أو أن تنضمَّ إلى مجموعة أخرى أكبر، وهذا التفاوت في أحجام المجموعات واختلاف المسافات بينها يزيد في اختلال التوازن، ويُنشئ اضطرابًا في بحر الحيِّز الكوني الفوتوني، وحينئذٍ نستطيع أن نتصوَّر ذلك البحر الإيثري اللطيف يتحوَّل رويدًا رويدًا إلى جماعات غيمية هنا وهناك بتناسب قليل، وهي ما يسمونه سُدُمًا (جمع سديم).
يمكنك أن تتصوَّر هذه الدرجة الأولى في نشوء الكون المادي وتصوره إذا ملأت إناءً حليبًا ثم عصرت عليه ليمونة حامضة، يكفي أن تهزَّ الإناء قليلًا فترى زلال اللبن تكتَّل كتلًا متقطعة، وإذا ساعدت حركة التكتُّل بأن تحرَّك اللبن بملعقة لكي يتوزَّع فيه حامض الليمون رأيت الكتل متوزِّعة في مصل اللبن الصافي هنا وهناك، ولولا جاذبية الأرض لما كنت تراها ترسب متجمعة، بل تبقى متوزِّعة في كل ناحية من المصل، وتبقى في حركتها الدورانية التي أحدثها التحرك بالملعقة إلى الأبد.
(٣) ناموس الدوران
هذا التكاثف استلزم الحركة — حركة الانتقال في الحيز من نقطة إلى نقطة — وقد فرضنا أنها طبيعة في الفوتونات متبادلة بين بعضها والبعض على قاعدة أن الأقرب يقترب إلى الأقرب، والعدد الأكثر يستدني العدد الأقل.
فإذا فرضنا أن جميع فوتونات الطبقة السطحية تهبط إلى الطبقة التي تحتها (نعني إلى جهة المركز) وكلتاهما إلى ما تحتهما كانت النتيجة تقلُّص البحر الفوتوني وتكاثفه في كرة أصغر إلى أن يصبح أخيرًا جِرْمًا واحدًا عظيمًا كثيفًا جدًّا، وأكثفه في مركزه بحيث لا يستطيع العقل تصور مقدار كثافته، ولا حركة دورانية فيه بل يكون بجملته ساكنًا وأجزاؤه ساكنة بنسبة بعضها إلى بعض، ولكن المشاهد في تعدد السُّدُم يخالف هذا الفرض الذي ترفضه طبيعة الحال وينقضه قانون التجمع والتكاثف كما رأيت، فقد رأيت أن الاختلال في التوازن بين الفوتونات يجعل حركات التجمع مختلفة الاتجاه إلى جميع الجهات؛ ولذلك تحدث عدة تكاثفات.
ولذلك إذا تصوَّرنا أن حركة التقارب بين الفوتونات وبين جماعاتها المتكونة حديثًا غير متجهة كلها اتجاهًا واحدًا نحو مركز الحيِّز الكوني، بل بعضها معامد وبعضها معارض على زوايا مختلفة وبعضها معاكس، فحينئذٍ نقدر أن نتصوَّر التكاثف مبتدئًا بحركة دورانية منذ بدأ تكاثف الطبقة الخارجية الأولى.
وبعدئذٍ نتصوَّر كل تكاثف آخر مجاريًا للتكاثف الأول في اتجاه دورانه، وحينئذٍ نرى البحر الكوني كله دائرًا حول مركزه بسرعات مختلفة في مناطقه بعضها أسرع من بعض، وبعضها أبطأ من بعض، وإنما كلها تدور في اتجاه واحد.
وإذا صحَّ افتراضنا هذا وعزَّزته الظاهرات وهو أن للفوتون حركة طبيعية أخرى؛ أي حركة الدوران المغزلي مع حركة التقارب، كان ثمة سبب آخر لتكون التكاثفات دائرة على محورها، وهو اكتساب هذا الدوران من دوران الفوتونات.
(٤) بدء عمل الجاذبية وقانون التكاثف
متى شرعت مادة الحيز الكوني تتكاثف على نحو ما شرحناه يشرع ناموس الجاذبية يتضح لنا جذبًا فدفعًا؛ لأنه حالما يبتدئ التكاثف يبتدئ أيضًا تكوُّن البروتونات والكهارب، إذ لا يوجد مانع يمنعها من التكوُّن ما دامت موادها موجودة والحركة اللازمة لها حادثة، وحينئذٍ نرى الذريرات تتكوَّن من الفوتونات والذرات من الذريرات والجزيئات تتألَّف كيماويًّا، ونرى بقيات باقية من ذريرات البحر الفوتوني أو ذريرات البحر الإيثري إن كانت غير فوتونية تنصدم من دوران البروتونات ودوران الكهارب حولها.
وبالاختصار؛ نقول إن قانون الجاذبية العام جذبًا ودفعًا يشرع عمله بوضوح، وعليه فعملية التكاثف تكون خاضعة: أولًا لقوة الجاذبية، وثانيًا لسرعة الأجزاء التي يتكوَّن منها التكاثف بحيث لا يزيد السديم المتكوِّن عن حجم محدود، ولا ينقص عن حجم آخر محدود وإلا فلا يثبت، أي إنه يجب أن يكون توازن بين قوة الجاذبية فيه وسرعة دوران أجزائه حول مركزه، وإلا فهو مقلقل مزعزع (راجع قانون المسارعة في الملحق الثاني).
•••