السباحة في الجحيم!
أضاءت الساعة في يد «أحمد» تحت الماء، وبضغط بعض الأزرار بها تحولت إلى بوصلة، وبإجراء بعض التعليمات عليها أضيئت شاشتها بضوء أحمر متقطع، وظهر في وسطها سهم أزرق يظهر ويختفي … فعلق قائلًا في نفسه: سنسبح في اتجاه السهم.
ثم أشار ﻟ «عثمان»، وما أن ضرب المياه بذراعيه بقوة حتى فعل «عثمان» مثله … وانطلقا يسابقان الزمن للوصول إلى يختهما قبل أن يصل أعوان «سوبتك» إليه.
ورغم برودة المياه سرى الدفء في أوصالهم، فشعروا أن المياه دافئة، ثم شعروا أنها أكثر دفئًا، فحفزهم ذلك على مواصلة التجديف بحماس وقوة مخترقة المياه في سرعة قياسية. ولم تمضِ دقائق إلا وازدادت سخونة المياه حولهم بصورة لم تعُد مقبولة، فقد بدءوا يختنقون من كثرة تدفق السوائل في قصباتهم الهوائية … وبدأت كل عملياتهم الحيوية تختل من جراء ارتفاع درجة الحرارة، ومع غزارة العرق المتصبب منهم شعروا بالإجهاد لقلة السوائل في أجسادهم، فتوقفوا عن التجديف، وما أن طفَت رأساهما على سطح الماء؛ حتى تخلص «أحمد» مما في فمه من ماء، وكذلك فعل «عثمان» قبل أن يقول له: علينا أن نخرج من هذه المنطقة فورًا.
فالمياه تزداد سخونة كلما توغلنا فيها، وقد تصل إلى درجة الغليان فنهلك.
فأجابه «أحمد» وهو يلهث: وهل سنعود مرة أخرى ونخسر كل المسافة التي قطعناها وكل الجهد الذي بذلناه؟
فصاح «عثمان» قائلًا في دهشة: وهل لديك حل آخَر؟
فقال «أحمد» في ثقة: بالتأكيد هناك حلٌّ آخَر، وعلينا ألا نستسلم بسهولة.
واستلقى «عثمان» على ظهره فوق الماء، ومثله فعل «أحمد» وهو يقول: قد يدفعك دفء السرير للنوم.
ضحك «عثمان» وعلَّق قائلًا: بل قد يدفعك لشيء آخَر.
فهم «أحمد» ما يعنيه «عثمان»، وانطلق الاثنان يضحكان في قوة، وتردد صوتهما في فضاء المكان، وفجأة انتبها على أصوات بعض الأجنحة ترفرف خلفهما بقوة، وشعروا بهواء بارد يضرب أجسادهم، فاستداروا يستطلعون الزائر؛ فرأى «عثمان» طائرين عملاقين من طيور البحر، فصاح قائلًا ﻟ «أحمد»: ليست معنا أسلحة يا «أحمد» فهل نغوص؟
فاعترض «أحمد» قائلًا: سيصطادونك من تحت الماء مثلما تصطاد الأسماك.
أخذت الطيور تهبط وتعلو وهي تضرب الهواء بأجنحتها الضخمة بقوة، فصاح «أحمد» قائلًا: إنها تبرد الماء بهذا الهواء البارد الصادر عن رفرفتها؛ إنها عناية الله يا «عثمان».
فقال «عثمان» في قلق: أتعني أن نستمر في السباحة إلى اليخت، وفي قوة وثقة أجابه «أحمد» قائلًا: نعم وسيتابعوننا.
ولم يُضيِّع «عثمان» وقتًا، بل دار حول نفسه، ثم ضرب الماء بذراعيه بقوة وانطلق يسبح وهو يقول له: أشعر أننا سنكون طعامًا سهلًا لهذه الطيور.
فقال له «أحمد» من بين لهاثه: يا رجل؛ إنها تأتنس بنا، فهي طيور اجتماعية، ألم ترَها وهي تشارك البحَّارة طعامهم على المركب في رحلاتهم الطويلة؟
واصل «عثمان» عومه وهو يقول: أتمنى ذلك من كل قلبي، ولكن الماء ازداد سخونة، ولم تعُد تجري رفرفة الطيور يا «أحمد» فماذا نحن فاعلون؟
فسأله «أحمد» قائلًا: ألم تسأل نفسك ما سبب سخونة الماء؟
ودون تفكير قال «عثمان»: قد تكون طبيعة المنطقة، أو … أو هناك شيء ضخم مشتعل فوق الماء؟
فأكمل «أحمد» الاستنتاج قائلًا: مثل اليخت مثلًا؟
صاح «عثمان» في جزع: يا لهم من مجرمين! كيف يجرءون على فعل ذلك؟! إنها أخلاق عصابات حقًّا.
كان الهواء الصادر عن رفرفة الطيور يساعدهم على التقاط أنفاسهم مما ساعد «أحمد» على استكمال الحديث قائلًا: نحن حتى الآن نخمِّن … وقد يكون هناك سببٌ آخَر لسخونة الماء، كاشتعال بقعة البترول مثلًا.
توقف «عثمان» تمامًا عن السباحة عندما سمع هذا التصور من «أحمد»، فهو تصور أكثر واقعية من غيره … فلن ترتفع سخونة الماء لهذه الدرجة، وعلى هذا الاتساع لمجرد أن يختًا … قد اشتعل … لا … فمن المؤكد أنها بقعة الزيت المتسرب من الناقلة العملاقة.
إنه الجحيم بعينه أن تشتعل هذه البقعة؛ فهي في حجم الجزيرة الصغيرة، وقد تظل مشتعلة لأيام ولا تنطفئ قبل أن يغلي الماء تحتها وحولها، وهذا يعني أننا هالكون لا محالة، إذا لم نعُد بأقصى ما لدينا من سرعة، فدرجة حرارة الماء آخِذة في الارتفاع، ويبدو أن بقعة الزيت المشتعلة تتحرك في اتجاهنا.
وقبل أن يبلِّغه «أحمد» بما قرره، سمع عن بُعد صوت محرك يخت يقطع الصمت من حولهما ويقترب منهما في سرعة، ولم تمضِ دقائق إلَّا وكان الظلام من حولهما قد استحال نهارًا، عدا كشَّاف ضخم يطل من على سطح يخت متوسط الحجم، ولم يرَ عليه أية إشارة تدل على أنه يتبع منظمتهم، أو أية جهة أمنية أو وطنية؛ فعرف أنه تابع لعصابة «سوبتك» وأن هذا الكشاف لو سُلط عليهما فستكون نهايتهما.
وعندما نظر إلى «عثمان»، رآه ممسكًا بكرته الجهنمية في وضع الاستعداد، فعرف أنه يفكِّر فيما يفكِّر فيه.
ولم تمضِ لحظات إلا وانطلقت الكرة كالصاروخ الموجَّه، ولحُسن حظها وحظ الشياطين كان الكشَّاف يستدير في اتجاهها؛ فاصطدمت به صدمة أطاحت بزجاجه ومصباحه، وعلا في الهواء صوت تحطمهما، وأظلمت الدنيا مرة أخرى حولهما مما أثار أعصاب عملاء «سوبتك» فأسرعوا يطلقون نيران مسدساتهم هنا وهناك في جنون … وصرخ في محرك اليخت صرخة عالية، وانطلق يدور في حلقات حولهما، فصنع دوامات مائية قاتلة جذبتهما إلى القاع وهما يتخبَّطان في بعضهما وأنفاسهما تتلاحق.
وفي العمق وجدوا الماء باردًا، وأكثر استقرارًا، فقرروا السباحة إلى اليخت، ومرة أخرى استعان «أحمد» بساعته الإلكترونية ذات المعالج فائق التطوُّر، وقام بتحديد اتجاه حركتهما، غير أنه رأى «عثمان» يسبح في فزع صاعدًا إلى سطح الماء، ومثله فعل هو الآخَر؛ فقد اختنق من قلة الأكسجين.
وما كادت رأسهما تطفوان فوق سطح الماء حتى مرقت رصاصتان تصفران بجوار أذنيهما، وشعرا أنهما هالكان لا محالة، فتحتَ سطح الماء لم تعُد لديهما طاقة لاحتمال قلة الأكسجين، وفوق الماء يترصدهما أعوان «سوبتك»؛ فرفعا أيديهما مستسلمَين، ومن حولهما طارت الرصاصات تصفر هنا وهناك قبل أن تصطدم بالماء وتقول: بلوب!
ثم شاهدا إطارَين كاوتشوك منفوخين ومربوطين في حبل، يتطوحان في الهواء ويسقطان بجوارهما، فأمسكا بهما، حتى قام بحَّارة اليخت بسحبهما إلى أن وصلا إلى سلم حديدي مثبَّت على جدار اليخت الخارجي، فأمسك به «عثمان» وصعد درجة إلى أعلى ليخلي الدرجة السفلية ﻟ «أحمد»، الذي فهم ما يقصده «عثمان» فأمسك بدرجة السلم … وتشبث بها … ومكث صامتًا دون حركة، وكذلك فعل «عثمان»، مما آثار رجال «سوبتك»، فصاحوا ينادون عليهما، وعلا صياحهما … وعمَّت الفوضى سطح اليخت … وارتفعت أصوات أقدام تجري هنا وأخرى تجري هناك وبصوت هامس قال «عثمان» ﻟ «أحمد»: «أحمد» هل تسمعني؟
أحمد: نعم.
عثمان: هناك مَن ينزل السلالم التي نقف عليها!