العمل مع الجناة
في المعتاد لن نقابل علماء النفس الشرعيين في المحاكم وهم يُدلون بشهاداتهم، وبالتأكيد لن يكونوا مشتركين في فريق تحقيقات الشرطة، بل الأغلب أن نجدهم وهم يعملون مع الجناة المدانين. قد يكون ذلك في السجون، ولكن ثمة مؤسسات أخرى كثيرة تحتجز الجناة أو تخضعهم للسيطرة، ويمكن أن تحاول تغييرهم أو إعادة تأهيلهم. والأشخاص الذين تُصدر المحكمة عليهم أحكامًا بالإدانة يجدون سبيلهم إلى أماكن كثيرة غير السجن، بما فيها هيئات مراقبة الجناة والمجتمعات العلاجية وأشكال متنوعة من المستشفيات العقلية أو الوحدات المُحكمة.
-
ثمة مجموعة من أدوار علم النفس الشرعي لها هدف مساعدة الجناة على التعامل مع المشكلات الموجودة مسبقًا، التي ربما تكون سببًا مباشرًا لأعمالهم غير المقبولة؛ مثل عدم القدرة على التحكم في عدوانيتهم، أو عوامل مساهمة في الإجرام لديهم مثل إدمان المخدرات أو الكحوليات، أو حتى مشكلة ما أطول أمدًا مثل الأمراض العقلية أو اضطراب الشخصية.
-
مجموعة أخرى من الأدوار تتخذ شكلًا من أشكال تقديم الاستشارات لمساعدة الجاني في التغلب على ظروفه الحالية، على سبيل المثال تقليل خطر الانتحار في السجن أو مساعدة من صدر ضدهم حكم بالسجن مدى الحياة على التعامل معه.
-
يقع الدور الأكثر شيوعًا تحت مسمى «تقييم المخاطر وإدارتها»؛ أي محاولة تحديد ماهية المخاطر التي يشكلها الفرد على نفسه والآخرين، والطريقة الأنسب لإدارة هذه المخاطر. وقد يرتبط هذا التقييم بإدارة هؤلاء الأفراد داخل مؤسسة معينة أو تحديد الخطر في حالة السماح لهم بالخروج إلى المجتمع أحرارًا.
وضعًا في الاعتبار النطاق الواسع لعلم النفس في الوقت الحاضر، يوجد أيضًا عدد متزايد من علماء النفس الذين يقدمون النصح إلى المؤسسات العقابية التي يعملون فيها على مستوًى أكثر استراتيجية، وغالبًا ما يساعدون في انتقاء فريق العمل أو تدريبه أو تدشين برامج متنوعة للعمل مع الجناة. وفي هذا العمل كله — كما هو الحال مع جميع الأُطر الأخرى التي يعمل فيها علماء النفس الشرعيون — تتجاوز إسهاماتهم مجرد تقديم قاعدة معرفية عن المجرمين. وكثير من المؤسسات التي يعملون بها قد يكون لديها مجموعة مستحكمة من التوجهات، وتترسخ لديهم ثقافة عقابية في الأساس، ولم تتلقَّ أي توجيه عن طريق تعليم على المستوى الجامعي من أي نوع أو منهج علمي لحل المشكلات؛ ولذا قد يكون علماء النفس الشرعيون غالبًا هم المجموعة المهنية الوحيدة التي تؤكد بالغ التأكيد على أهمية الأدلة العلمية في عملها. ومع ذلك يمكن كثيرًا أن تكون قوة تلك الأدلة محل جدل كبير.
التقييم
تساعد الأمثلة المتطرفة على توضيح مدى تعقد العمليات التي تحتاج إلى دراسة. أُدينَ فريد ويست بقتل عشرين فتاة على الأقل على مدار عدة سنوات قبل أن يُلقى القبض عليه في ١٩٩٤. وانتهك هو وزوجته روز هؤلاء الفتيات جنسيًّا وبدنيًّا قبل قتلهن ودفنهن في الفناء وفي حديقة منزلهما سيئ السمعة. ما الذي كان ليكشف عنه تقييم علم النفس الشرعي لفريد ويست إن كان قد أُجري له تقييم قبل أن يقتل نفسه في السجن؟
كانت النقطة الأولى والأوضح أنه كان أميًّا تقريبًا وربما عانى من صعوبات التعلم. وبالتأكيد عينت الشرطة «شخصًا راشدًا مناسبًا» ليكون معه طوال المقابلات التي أجرتها؛ لأن الشرطة خشيت ألا يتمكن من فهم تبعات ما يحدث له في إطار الإجراءات القانونية فهمًا كاملًا. وقد توجد بعض الدلائل على هذا في ردوده؛ فعندما سُئل عن جثة عُثر عليها أسفل فناء منزله، كان رده أن الشرطة ينبغي أن تكون حريصة وهي تعيد تسوية الأرضية. وبعد أن اتضح أنه ارتكب جرائم القتل، كان طلبه الآخر أنه ينبغي السماح له على الفور بالعودة إلى منزله؛ ضرب من الكوميديا السوداء، ولربما كان مشيرًا أكثر إلى عدم إدراكه مدى جدية الموقف.
إضافة إلى قبول ويست للإشباع الجنسي غير المقيَّد في مرحلة مبكرة جدًّا، فقد اغتصب في فترة مراهقته فتاة، ولكن تمكن من تجنب الإدانة بهذه الجريمة؛ ومن ثَمَّ كانت الساحة مهيأة لاستمرار نشاطه الضاري. وكانت أنماطه السلوكية وتوجهاته متأصلة في إطار نظرة لنفسه تشكلت جزئيًّا من خلال الطريقة التي عامله بها والداه وآخرون في عائلته. وربما كان الشعور الوحيد بالأهمية يأتيه عندما يكون عنيفًا جنسيًّا.
حتى هذه العلامات المنذرة في نموذج والدَي ويست، والتوجهات عميقة الجذور، والفهم المحدود لتبعات أفعاله؛ قد لا تكون حوَّلته إلى سفاح. فهذا حدث حين اجتمع مع روز — صاحبة خلفية من الجريمة والدعارة — فلقي تشجيعًا جعل أعماله العنيفة تستفحل. فخلقا معًا بيئة جعلت العنف الجنسي والقتل أسلوب حياة.
العمل مع مرتكبي الجرائم الجنسية العنيفين
من الواضح أن فريد ويست كان يمثل تحديًا لأية محاولة ترمي إلى «علاج» حالته. ولكن في حالة شخص كان أقل تأثرًا، وخبرات حياته المدمرة أقل استمرارًا وشدة، سيأمل كثير من علماء النفس العاملين بالسجون في تطبيق بعض البرامج التي ستخفض — على أقل تقدير — من خطر ارتكاب الجرائم بالمستقبل. وتشترك هذه البرامج في الإقرار بأن أسباب ارتكاب الجرائم تختلف من شخص إلى آخر ومتعددة الجوانب؛ ولذا سيتلقى الجاني مساعدة للتعامل مع مجموعة من الجوانب تتعلق بنفسه وبأفعاله وبأسلوب حياته.
ترتكز عادةً البرامج التي تساعد الجناة على اكتساب أسلوب حياة أكثر قبولًا من الناحية الاجتماعية؛ على جلسات جماعية يُجرى فيها بحث جوانب متنوعة للظروف التي تؤدي إلى العنف. وستتضمن هذه الجلسات تمثيل الأدوار والمناقشات المكثفة، والهدف منها هو مساعدة المشاركين على اكتساب قدر أكبر من الحس بضحاياهم وفهم أكبر لتوجهاتهم الخاصة. علاوة على ذلك، تجري توعيتهم بالظروف التي أدت إلى ارتكابهم للجرائم، بحيث يمكنهم تحليلها وتجنبها.
يمكن أن تستمر هذه التفاعلات على مدار شهور طوال وتكون مكثفة جدًّا، ولكن توجد صعوبات كثيرة تواجه تقديم هذه البرامج بالسجون، وأبرز هذه الصعوبات أن السجون مؤسسات غير مألوفة؛ حيث يندر هناك وجود أي اختلاط بين الجنسين، والكحوليات محظورة. ولا يوجد المزيج الطبيعي بين الأنشطة الاعتيادية، مع حبس السجناء في زنازينهم من ساعة مبكرة في المساء حتى الصباح التالي. فكيف يمكنك أن تدرب أو تعالج أو تعيد تأهيل أناس كي يعيشوا أساليب حياة طبيعية في مثل هذه البيئة غير الطبيعية؟ وفي الواقع، يمكن أن توجد جوانب في حياة السجن تزيد احتمالات انجرار الجناة إلى دوامة متنامية من الجريمة. ويقال كثيرًا — على سبيل المثال — إن المخدرات متاحة بسهولة في السجن عن خارجه. ولكن ثمة أيضًا حقيقة جلية وهي أن المساجين يختلطون بمجرمين مدانين طوال اليوم. ولا يمكن الاستخفاف بالتأثير الاجتماعي لهؤلاء الجناة الآخرين.
علاوة على ذلك، يودع الجناة السجن بسبب أساليب راسخة رسوخًا عميقًا في التعامل مع العالم. وسيكون لديهم تبرير ذاتي قوي لما أقدموا عليه، وستنكر نسبة منهم الجريمة التي وقعت تمامًا، أو أنها حدثت على النحو الذي عُرضت عليه للوصول إلى حكم بالإدانة. ويمكن لعلماء النفس معالجة حالات الإنكار والتبريرات هذه مباشرة في لقاءات مع الجاني، ولكن إذا رفض الجاني قبول التفسير البديل لأفعاله فستكون هناك حاجة إلى منهج مختلف تمامًا للعلاج. ويمكن أن يرتكز هذا المنهج على مساعدة الجاني على اكتساب مهارات إيجابية، وأن يصبح أقل عرضة للتورط في مواقف مخالفة للقانون.
أحد المخاطر الكبيرة أن الجناة سيشعرون بالإجبار على المشاركة دون أن يُبدوا معارضتهم صراحة. ويوجد عدد كبير من القصص التي تروي حدوث ذلك في مواقف افترض فيها عالم النفس أنه ثمة تقدم يحرز، ليكتشف فيما بعد أن الجاني تعلم فحسب ما يجب عليه قوله كي يجتاز البرنامج، دون أي تغيير لتوجهاته أو سلوكه اللاحق. وتوضح بعض الدراسات هذا بجلاء، حيث يكون أولئك السيكوباتيون، الذين جرى تقييمهم باعتبارهم أحرزوا نجاحًا باهرًا في العلاج، هم الأفراد الأكثر احتمالًا لارتكاب جرائم في المستقبل.
تتمثل إحدى المحاولات لتجنب بعض هذه المشكلات في إنشاء ما يُعرف باسم «المجتمعات العلاجية». ويجب على الرجال المدانين التقدم للانضمام إلى هذه المجتمعات كي يبينوا للمجتمع رغبتهم في التغير الحقيقي. وتقوم العملية كلها على بحث مركَّز للذات بحيث لا يوجد مجال للتصنُّع أو الكتمان. وهذه المجتمعات مكلفة جدًّا في تشغيلها، ويجب أيضًا أن تتمتع بدرجة كبيرة من حسن الانتقاء لمن يمكنها العمل معهم، رغم أن بعض الدراسات تشير إلى أنها يمكن أن تكون فعالة أكثر من أي شكل آخر من أشكال التدخل مع الجناة الخطرين.
جرت العادة أن يحافظ المديرون ذوو الشخصيات القيادية على تطبيق إجراءات التدخل المركَّزة هذه وفعاليتها، ويتخذ هذا شكلًا من أشكال العلاج المركز. وهذا يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض المنشآت الغريبة. وثمة مثال يُضرب كثيرًا لمجتمع من المجتمعات العلاجية في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كانت تقدَّم فيه ثمانون ساعة من العلاج أسبوعيًّا. وهذا لم يتِح تقريبًا أي وقت للراحة أو التدريب المفيد على المهارات المكتسبة. ويبدو أنه تضمن أيضًا قضاء أسبوعين في حجرة مستقلة، حيث كان الطعام والشراب يقدمان من أنابيب في الجدران. وأثناء ذلك، أُجبر السجناء على استخدام مجموعة متنوعة من أدوية تؤثر على العقل، مثل عقار الهلوسة إل إس دي. وكان يُطلب منهم المشاركة لمدة عامين كاملين، ولم يسمح لهم بالخروج حتى يثبتوا أنهم امتثلوا لما كان يُنتظر من «العلاج» أن يحققه. وربما لا يثير الدهشة أن أناسًا صُنفوا باعتبارهم سيكوباتيين قبل انضمامهم لهذا المجتمع أصبحوا بالفعل أكثر خطورة واضطرابًا بعد العلاج عما مضى.
مدمنو الكحوليات وغيرها من المواد
ربما كان النجاح الأكبر من نصيب عمليات التدخل العلاجية الهادفة لتقليل إدمان الكحول وغيره من المخدرات. ولهذا تأثير مصاحب يتمثل في الحد من ارتكاب المدمنين للجرائم أيضًا. ويمكن أن تكون فعالية عمليات التدخل هذه ناتجة جزئيًّا عن الطبيعة الواضحة للسلوكيات المطلوب تغييرها. وهذا يتيح تحديدًا كاملًا للمراحل التي ينبغي أن يمر بها المشاركون إذا أرادوا تخفيض اعتمادهم على المخدرات. وهذه البرامج على الأرجح تَدين بالكثير لمبادرة منظمة «مدمنو الكحول المجهولون»، التي تعتمد على مزيج من الدعم الجماعي والقبول بالتحديات التي يواجهها المدمنون. ويساعد أيضًا التأكيد على تبعات أعمال المدمن على الآخرين في اكتساب توجهات وفهم ومبادئ يمكنها أن تساعد الجاني بعد خروجه من السجن.
مهارات التفكير المعزز
على النقيض من رؤية منظمة «مدمنو الكحول المجهولون» بأن مدمن الكحول لا يستطيع التخلص من إدمانه ولكن عليه تعلم التحكم فيه «يومًا بيوم»، يسلم كثيرون في علم النفس أن السبيل لتغيير السلوك هو أولًا تغيير الطريقة التي يفكر بها الشخص في الأحداث، ثم بدء القيام بأفعال مشتقة من أنماط التفكير المُغيَّرة هذه. ولا يمكن القيام بذلك إلا على مراحل هادئة، والتي يجب أن تعد بحرص وبما يناسب الشخص بعينه متى كان ذلك ممكنًا. باختصار، هذا ما يطلَق عليه العلاج السلوكي المعرفي. وهو يشكل الأساس لكثير من برامج التدخل للعمل مع مرتكبي الجرائم الجنسية والمدمنين، ولكنه ذو صلة أيضًا بمشكلات أوسع نطاقًا على الجناة التعامل معها، مثل إدارة غضبهم.
من الأمثلة المعتادة لكيفية استكشاف هذا مع جانٍ اختيار موقف ممكن الحدوث — أو حدث بالفعل — في الفترة التي يقضيها حاليًّا بالسجن يمكن أن يثير الانفعالات بشدة. وفي جلسة جماعية أو جلسة علاج ثنائية، يمكن أن يُطلب من الجاني أن يفكر في موقف يتوجه فيه إلى غرفة الزيارة في الساعة الثالثة عصرًا، منتظرًا زيارة من صديقته، ولكن بعد الانتظار لمدة ١٥ دقيقة لا تصل صديقته. قد يورد السجين أن تفكيره حينها هو أنها هجرته من أجل شخص آخر، وأنه غضب لذلك ويصحب ذلك مشاعر الغثيان، ليعود إلى الجناح عازمًا على أن يقول لها كل ما جال بخاطره عبر الهاتف ذلك المساء.
سيوضَّح له كيف أن هذا لن يعود عليه بفائدة، وأنه انجرف إلى «أفكار تلقائية» تولد مشاعرَ وأفعالًا غير مثمرة بالمرة، ويمكن أن تكون هدامة. وسيجري بعدها استنباط بدائل؛ مثل التفكير أن شريكته ربما تعطلت بسبب حركة المرور، وهو ما كان ليبقيه في حالة مزاجية متفائلة، شاعرًا بقدر أكبر من الارتياح. وفي مثل هذه الحالة، يمكنه الانتظار في هدوء، وربما يتجاذب أطراف الحديث مع طاقم السجن حول مباراة كرة قدم لُعبت حديثًا. ثم إذا أتت إليه بالفعل، فسيكون في حالة طيبة تسمح له بأن يكون معها. وإن لم تأتِ، فلن يعاني وسيظل بإمكانه التحدث إليها لاحقًا عن السبب، دون أن تكون المحادثة قاسية أكثر من اللازم.
يساعد هذا المنهج المساجين على اكتساب القدرة على التمتع بأفكار أكثر إيجابية؛ ومن ثَمَّ مشاعر وأفعال أكثر إيجابية، وجرى تطويره ليتخذ شكل برامج محددة ومنظمة. تُقدَّم مجموعة من هذه البرامج — في صور معيارية يُعتمد عليها — في المملكة المتحدة في منظومة السجون كلها. وتتناول الدورة التي تقدم كثيرًا مهارات التفكير المعزز. وتجري على مدار جلسات تبلغ مدتها ٢٢ ساعة مصحوبة ﺑ «تكليفات خارج الجلسة» أشبه بالفرض المنزلي نوعًا ما. تسير الدورة على أساس مجموعات، وتتكون من مزيج من تفسيرات للأفكار النفسية الأساسية الكامنة وراء العلاج السلوكي المعرفي، ومناقشات للخبرات الخاصة بأعضاء المجموعة، وتنمية المهارات الاجتماعية مثل الإنصات وطلب المساعدة، ومجموعة من التدريبات التي تساعد المشاركين على الاشتراك فيما تجري مناقشته في المجموعة والعمل عليه.
تقييم عمليات التدخل
كي تعتبر عمليات التدخل هذه علمية ومدعومة بالأدلة، من الضروري تقييمها. وهذا الأمر ليس بسيطًا كما قد يبدو؛ فبداية، كيف يمكنك قياس نتيجة عمليات التدخل؟ إذا كان البرنامج يتعامل مع إدارة الغضب أو إدمان العقاقير، فهذا يحتاج إلى تقييم سابق ولاحق. وهذا ليس بالأمر السهل عندما يمكن أن يحدث النشاط في أُطر مختلفة كثيرة أو يكون غير قانوني، ولكن إذا كان الهدف هو خفض الجرائم اللاحقة، فهذا يحتاج أيضًا إلى مراقبته. والاعتراض على البرامج جميعها هو أنها يمكن أن تزيد قدرة الجاني على تجنب الاكتشاف وليس خفض ارتكابه للجرائم. وفي بعض الحالات، تُجرى محاولة لمقارنة التكلفة التي يتكبدها المجتمع جراء الأفعال قبل «العلاج»؛ بالتكلفة التي يتكبدها بعده. ويبدو هذا منمقًا عندما يقدم البيروقراطيون النتائج إلى الساسة في محاولة للمحافظة على التمويل لأي مشروع، ولكن برهة من التفكير ستكشف مدى صعوبة تحديد تكلفة جميع تبعات الأنشطة الإجرامية.
مع ذلك — رغم هذه الصعوبات — تورد مجموعة من الدراسات أنه ثمة أدلة على أن برامج علاج إدمان العقاقير ساعدت في النهاية على خفض الجرائم المكتسبة إلى الثلث، أو أكثر مما كانت عليه قبل اشتراك الناس بها. وتؤدي دورات مهارات التفكير المعزز الأعم إلى تحسينات كبيرة من الناحية الإحصائية في السلوك، مخفضة من الانتكاسية عادة بنسبة ٢٠٪ تقريبًا.
رغم ذلك، ينشأ السؤال حول ما إذا كان هذا التغيير مجرد شكل من النضج كان ليحدث على أية حال. وثمة مشكلات عملية وأخلاقية حقيقية تكتنف عملية اختيار المشاركين عشوائيًّا إما «للعلاج» أو «عدم العلاج»؛ كما يحدث في أي تجربة دوائية مزدوجة التعمية، لذا يجب أن تجرى مقارنات مع مجموعات أخرى لا تخضع لعمليات التدخل. وعمومًا، اكتُشف أن أولئك الذين يتلقون هذه البرامج المنظمة بدقة يتحسنون عند مقارنتهم بالذين لا يتلقونها، إضافة إلى ظهور اختلافات قبل وبعد البرنامج، ولكن هذا كله نسبيٌّ. والكثير من الجناة لا يُقلعون عن عادات تعاطيهم للمخدرات أو أساليب حياتهم الإجرامية، ولكن بوجه عام، يرتكبون عددًا أقل من الجرائم بعد هذه البرامج، وتخف حدة عادات تعاطيهم للمخدرات.
اضطراب الشخصية
توجد مجموعة من المشكلات السلوكية قد يكون لهذه البرامج «العلاجية» تأثير بسيط عليها. وقد لقي هذا الأمر اهتمامًا عالميًّا عندما أُدينَ مايكل ستون في ١٩٩٨ بالقتل الوحشي للدكتورة لين راسيل وابنتها البالغة من العمر ست سنوات وبمحاولة قتل ابنتها الأخرى — جوسي البالغة من العمر تسع سنوات — في وضح النهار، دون أي سبب واضح. واتضح أنه لديه تاريخ من العنف؛ حيث نشأ في عائلة مفككة، ونُقل من مؤسسة إيواء إلى أخرى. وأمضى فترة في السجن وجرى تقييمه على أنه مصاب بمرض عقلي بسبب عنفه. وذكرت أخته أنه قبل جرائم القتل سعى ستون للحصول على مساعدة بسبب تخيلات قتل شخص ما. ولكن رغم أنه كان يتلقى نوعًا من العلاج لمشاعر القلق، لم يكن ممكنًا لأي أحد تحديد تشخيص طبي بإصابته بأي شكل من أشكال الأمراض العقلية بحيث يمكن إيداعه في مستشفى. والاعتبار اللاحق للظروف المحيطة بجرائم القتل ولخلفية ستون أشارا إلى أنه كان قنبلة على وشك الانفجار، مع ذلك لم يَبْدُ أحد قادرًا على فعل أي شيء حيال ذلك.
تتألف مشكلة منع ستون من ارتكاب أذًى آخر من جانبين؛ الأول هو أنه لم يكن قد ارتكب أية جريمة حينها يمكن إلقاء القبض عليه بسببها، والثاني أنه لم يمكن تشخيص حالته طبيًّا مما يسمح بإيداعه مستشفى عقليًّا أو مؤسسة أخرى. تقع مجموعة من الناس في هذه المنطقة المبهمة بين القانون والطب النفسي، وإقدامهم على العنف أمر محتمل بشدة، لكن حتى وقت قريب لم يوجد نهج علاجي رسمي لهم. ويمكن أن يشمل هذا أشخاصًا أوشكوا على مغادرة السجن بنهاية مدة حبسهم يتحدثون عن إيذاء أنفسهم و/أو الآخرين، أو رجالًا لديهم تاريخ طويل من انتهاك للأطفال، والذين يتقدمون الآن بطلبات للنقل إلى مستشفى أقل قيودًا من الوحدات شديدة الإحكام المودعين بها الآن. ويختلف عنهم قليلًا المحبوسون على ذمة قضية منتظرين نظر قضيتهم بالمحكمة، والذين يعترفون بحصولهم على المتعة الجنسية من العنف والقيادة الخطرة بسرعة كبيرة على سبيل المثال.
جميع هؤلاء الأشخاص مدركون للواقع؛ ولا تنتابهم هلاوس ولا يسمعون أصواتًا ولا يشاهدون تخيلات، كما أنهم ليس لديهم أوهام معتقدين أنهم الرب أو رئيس الوزراء. وقد لا يصابون بحالات تأرجح شديدة في الحالة المزاجية منتقلين من الابتهاج إلى الاكتئاب. وربما لم يتعرضوا لإدمان المواد في ماضيهم أو تعرضوا إليه بقدر بسيط، ولكن من الواضح — على أقل تقدير — أنهم أشخاص غريبو الأطوار. وسيجدون عادة أنه من العسير جدًّا تكوين علاقات عميقة تدوم طويلًا، مفتقدين الحس بالآخرين، وستكون ردود أفعالهم انفعالية على نحو غير مناسب تمامًا، وقد يكونون متهورين جدًّا. وقد يوجد أيٌّ من هذه السمات في شكل أكثر اعتدالًا لدى الشخص «العادي»؛ ولذا يُنظر لها على أنها تعكس اضطرابًا في الشخصية وليس في العقل.
على غرار التشخيص الإكلينيكي، حُددت عشرة أشكال مختلفة لاضطراب الشخصية، تبدأ بجنون الاضطهاد (البارانويا) حتى الوسواس القهري. وهي تصنف في ثلاث فئات: غرابة الأطوار والانفعالية والقلق. لكن الأفراد محل التركيز بسبب احتمال ارتكابهم العنف هم أولئك الموجودون في الفئة «الانفعالية»، وعادةً ما يُصنفون باعتبارهم يعانون من «اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع»، أو يعانون مما يطلق عليه «اضطراب الشخصية الحدي».
يبدي تجاهلًا تامًّا لحقوق الآخرين، يتجلى في ثلاثة على الأقل مما يلي:
بلا شك يصف هذا مجرمًا معتادًا ومستديمًا. فما الذي يضيفه لمنح تسمية لنمط السمات المميزة داخل الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، والذي يحوي أيضًا تشخيصات مثل الفصام والاكتئاب؟
سيقول كثير من المختصين إن كل ما تضيفه تسمية اضطراب الشخصية هو مظهر مميز ينطوي على مجموعة مترابطة ما من السمات التي تشير إلى أن الشخص غير طبيعي وغير مريض عقليًّا، لكنها لا تضيف الكثير غير ذلك. وبالنسبة لأولئك الذين يحاولون علاج هؤلاء الأفراد الذين قد يكونون مصدرًا للخطر، فهي توفر شبكة الأمان من «التشخيص» للدفاع عن الطريقة التي يُعامَل بها هؤلاء الأشخاص. وفي الحقيقة، بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يجري تشخيص حالاتهم باعتبارهم مصابين بهذا الاضطراب، من المريح أن يقال لهم إنهم يعانون من «اضطراب» وليس مجرد أنهم أشخاص بغضاء. ولكن يأتي موطن الضغط الرئيسي لاستخدام تشخيص اضطراب الشخصية من خارج مهنة الطب؛ إنهم الساسة الذين يريدون تجنب الإحراج الذي تجلبه قضايا مثل قتل لين راسيل وابنتها، والذين يدعون إلى إمكانية إعطاء الجناة المحتملين تشخيصًا يتيح إيداعهم في مؤسسة. وفي المملكة المتحدة، ابتُكرت التسمية «اضطراب الشخصية الخطير والحاد»، وأُنشئت وحدات خاصة تهدف إلى العمل مع الأشخاص المشخصة حالاتهم بهذا الاضطراب. والغرض هو مساعدتهم في النهاية على الانتقال إلى وحدات آمنة أكثر اعتيادًا، وربما منها يعودون إلى المجتمع مرة أخرى.
الفرض هنا هو أن هذا المنهج قائم على إمكانية تغيير تبعات اضطراب الشخصية. والأسلوب المفضل هو إنشاء مجتمعات علاجية مكثفة. ولكن ترك الناس يخرجون من هذه المجتمعات استراتيجية بالغة الخطورة. فلا يحتاج الأمر سوى «متخرج» واحد يقتل ما إن يسمح له بالخروج حتى تسوء سمعة العملية بأسرها نتيجة الغضب الشعبي؛ لذا، فالملائم أكثر لهذه المجتمعات أن تعمل باعتبارها سجونًا غير مشددة يقضي المساجين فيها فترات غير محددة. وهذا منهج مثير للجدل لأقصى حد؛ لأنه — للأسف — يوجد تاريخ طويل في دول كثيرة لأناس يودعون في مؤسسات لما قد يُقدمون عليه وليس لما قاموا به فعلًا.
التأقلم مع السجن
تختلف الأهداف من وراء الإيداع بالسجون من دولة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر. أحيانًا يكون الرأي أن السجون موجودة لتحسين سلوك المساجين، وهذا الهدف معبَّر عنه في التسمية المحايدة للسجون بالولايات المتحدة أنها «مؤسسات تصحيحية»، وأحيانًا يُنظر إليها على أنها للعقاب فحسب ووسيلة للحيلولة دون ارتكاب الجرائم، ولكن ما يسلِّم به أغلب الناس هو أنه — على الأقل — لا ينبغي للسجون أن تجعل الأشخاص أسوأ بأية درجة، أو ألا يشكلوا مزيدًا من الخطر على المجتمع. لكن ليس من السهل تحقيق هذا الهدف الأخير؛ ولهذا فعلماء النفس العاملون بالسجون معنيون كثيرًا بماهية الآثار المُضعِفة التي قد تعود على السجناء وكيف يمكن التخفيف منها. ويكون الاهتمام منصبًّا عادةً على السجناء، ولكن يرى البعض أيضًا أنه ينبغي وضع أفراد طاقم العمل — الذين يقضون حياتهم العملية في هذه المؤسسات — في الاعتبار.
-
التحول للاعتماد على طاقم العمل والآخرين في اتخاذ القرارات لهم.
-
الشك في الآخرين وعدم الثقة بهم، وربما التحفز العصابي.
-
إخفاء مشاعرهم مما يصعب الاتصال بالآخرين.
-
ضعف الاعتقاد بالتمتع بأية أهمية شخصية.
-
استرجاع صدمات الطفولة التي كان لها تبعات مشابهة.
بالنسبة للمصابين بمرض عقلي، أو من هم محدودون جدًّا عقليًّا ولا يتلقون دعمًا خارجيًّا من عائلة أو أصدقاء، يمكن أن تكون هذه الآثار المضعفة بالغة. وفي بعض الحالات — لا سيما عندما تتدخل العوامل الخارجية، مثل الانهيار الذي أصاب علاقة — في الخبرة بالسجن، يمكن أن تكون المشكلات النفسية حينها كبيرة جدًّا، لدرجة أن المساجين ينتحرون أو يؤذون أنفسهم.
ابتكر علماء النفس الشرعيون كدأبهم مقاييس تقيِّم خطر الانتحار أو إيذاء النفس، معتمدين على ما هو معروف عن السجين وخلفيته وخبراته الحالية. وتُستخدم هذه التقييمات لتوجيه علاج الجناة، وفي بعض الحالات لتوفير الدعم والاستشارة. ولكن لا تزال المسألة أن الرجال بالسجون تزيد احتمالات قتلهم أنفسهم بحوالي خمسة أمثال عن أولئك الذين خارج السجن؛ حيث يقتل شخص نفسه كل أسبوع تقريبًا في سجون المملكة المتحدة، والأرقام مشابهة في سجون كاليفورنيا وتكساس.
تقييم الخطر وإدارته
أصبح التنبؤ بأشكال مختلفة من الخطر — أو بإيذاء النفس أو الآخرين أو بارتكاب جرائم جنسية في المستقبل أو بالأشكال الأخرى من النشاط الإجرامي — مهمة رئيسية وبالغة الصعوبة لعلماء النفس الشرعيين في أُطر مختلفة كثيرة. واستُحدثت لذلك مجموعة من أدوات تقييم الخطر على مدار ربع القرن الأخير. ومن أكثر الأدوات إفادةً قائمةُ تدقيق يستخدمها مختص مدرَّب، مثل مقياس إدارة الخطر/التاريخي/الإكلينيكي المكوَّن من ٢٠ بندًا.
يضم المقياس ما يمكن اعتباره عوامل «ثابتة»، غير متغيرة نسبيًّا، وعوامل أكثر «ديناميكية» عرضة للتغير. وعادة تكون العوامل الثابتة تاريخية، مثل العنف السابق للجاني ومشكلات التوظيف وأدلة واضحة على السيكوباتية وإدمان المخدرات. بينما تتكون العوامل الديناميكية من مشكلات نفسية أكثر مباشرة، مثل عدم الفهم والاندفاعية والخطط غير المجدية للمستقبل. إضافة إلى ذلك، يمكن أن نضع في الاعتبار أمور الدعم الاجتماعي والنحو الذي تَعامَل به الفرد مع أي صورة من صور التدخل العلاجي، والعوامل التي يمكن أن تسبب الضغوط.
تظهر نتيجة هذه التقييمات على نحو يثير الاهتمام إذا قارنَّا بين مجرمَين مختلفَين؛ أحدهما متزوج في منتصف الثلاثينيات من عمره، والذي اعترف بأنه مذنب بالإساءة الجنسية لابنته المراهقة منذ كانت في الرابعة من عمرها، والمجرم الآخر شاب في بداية العشرينيات من عمره أُدينَ بممارسة الجنس مع ولد قاصر كان قد قابله لتوه في حديقة بالمنطقة.
طبقًا لبعض الإجراءات المعيارية لتقييم الخطر — لا سيما الإجراء ستاتيك-٩٩ — يمثل الشاب خطرًا لارتكاب جرائم مستقبلية أكبر بكثير من الرجل المتزوج. والسبب هو أن الزواج، وتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، وارتكاب جريمة داخل العائلة بحق أنثى؛ ينبئ بارتكاب جرائم في المستقبل بصورة أقل مما ينبئ به عدم الدخول في علاقة، واغتصاب شخص غريب نوعه ذكر. قد يكون هذا الاختلاف مفاجئًا نوعًا ما، ولكنه يستند إلى دراسات استخدمت إجراءات التقييم هذه وتابعت صدقها من حيث التنبؤ.
مع ذلك، رغم أن هذه التقييمات تنطوي على منطق قوي — وتظهر الدراسات أنها منبئة بشكل شامل — إلا أنها ليست خالية من الأخطاء على الإطلاق. وثمة سبب بسيط لهذا، هو أنه رغم إمكانية تحديد السمات المميزة لأي فرد، إلا أنه سيكون من الأصعب كثيرًا تحديد السمات المميزة للمواقف التي سيجد فيها نفسه والتنبؤ بها. وأيضًا، بالنسبة لأشخاص كثيرين يجب تقييمهم ربما توجد معلومات مرجعية قليلة يعتمد عليها. ومع ذلك ثمة مبدأ عام واحد بسيط؛ وهو أنه كلما ارتكب الفرد عنفًا في الماضي القريب، زاد احتمال ارتكابه للعنف في المستقبل القريب. ولهذه الأسباب، يبدو أنه من الممكن التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الثماني والأربعين ساعة القادمة، أو حتى الأربعة عشر يومًا القادمة — مثل التنبؤات بحالة الطقس — ولكن ستكون الجدوى أقل بكثير بالنسبة للفترات الزمنية الأطول، مثل ثمانية وأربعين شهرًا أو أربعة عشر عامًا.
علم ضحايا الجرائم
ثمة نقطة من السهل إغفالها في النقاشات حول العمل مع الجناة، وهي أن كثيرًا منهم ضحايا أيضًا. ولذا يرتبط إجراء دراسات على الضحايا ارتباطًا وثيقًا بكلٍّ من الجناة وأولئك الذين يرتكب الجناة الجرائم في حقهم. لكن يجب على الدراسات تحري الحرص الشديد في العينات التي تختارها. وتشير الدراسات إلى أنه ليس من المرجح أن يتحول الناس على نحو متساوٍ إلى ضحايا، ولكن من السهل جدًّا لهذا أن يبدو وكأنه يعني ضمنًا أن الضحايا يتحملون قدرًا من المسئولية عن الجرائم التي ارتُكبت بحقهم. وهذا بالتأكيد ليس الهدف من هذه الدراسات.
ما تتحراه هذه الدراسات هو ما يجعل أشخاصًا معرضين خصوصًا ليكونوا ضحايا. وهذا يغطي أمورًا عدة — على سبيل المثال — في الجرائم الهادفة للتربح؛ هل الشيء المسروق نفسه هو الذي يحمل قيمة عالية تحديدًا، أم هل يمكن النظر إلى الضحية نفسها باعتبارها «جذابة» على نحو خاص لمجرم محتمل بعدد من الطرق المختلفة. فضلًا عن ذلك، يزيد قرب المرء من المجرمين المحتملين من خطر أن يصبح المرء هدفًا. كما يعد الضعف البدني أو النفسي للشخص مسألة أخرى. وإذا كان الشخص يافعًا أو عجوزًا أو ضعيفًا جدًّا أو يعاني من صعوبات التعلم، يمكن أن تزيد احتمالات تعرضه لجريمة تحت ظروف لا تتوفر فيها الحماية. وتنطوي هذه المسائل كلها على مقترحات لكيفية حماية الأشخاص الضعفاء، سواءٌ كانوا مساجين داخل السجون أو مواطنين ممتثلين للقانون خارجه.
خاتمة: مشكلة السجن
يلقي نطاق الأماكن التي يمكن إرسال الجناة إليها بالضوء على تساؤلات خطيرة وعسيرة، بالنسبة إلى أهداف السجون والسبل الأخرى لإدارة الرجال والنساء المدانين، ومدى نجاح الاستراتيجيات المختلفة في تحقيق أهدافها. للدول المختلفة مفاهيم مختلفة عن المقصد من السجن والظروف التي ينبغي أن يُستخدم في ظلها باعتباره وسيلة للتعامل مع الجناة. وقد تصدر علماء النفس طليعة هذا الجدل في استكشاف تأثير السجون وتطبيق نطاق متنامٍ من عمليات التدخل مع الجناة داخل السجون وخارجها بوصفها محاولات لتغييرهم.
النضج النفسي والبدني مصحوبًا بعمليات التكيف المرتبطة — مثل الاستقرار مع شريك وإنجاب أطفال وفرص عيش حياة مهنية شرعية مقبولة — هي تغييرات أسلوب الحياة التي يمكن أن تؤدي أكثر من غيرها إلى خروج الجناة من دائرة الإجرام. ويُرفع البعض من قائمة الجناة لأنهم معتادو الإجرام، لدرجة أنهم يمضون حياتهم في السجن. وربما يُنظر إلى أي محاولة لإعادة التأهيل بنظرة سوداوية، بوصفها لا تزيد قليلًا عن كونها عملية احتواء، بينما يكبر الأفراد في السن، بما يجعلهم يتقبلون الخطأ في أساليبهم أو يفقدون قدراتهم البدنية أو مهاراتهم النفسية؛ مما يمنعهم من تنفيذ الجرائم، أو تجنب الاكتشاف.
رغم أنه يوجد بلا شك أشخاص استفادوا من الإيداع في السجن، لا سيما عندما يصاحب ذلك برامج علاجية والأشكال الأخرى من أشكال التعليم والتدريب، توجد مشكلة جوهرية في استخدام السجن بوصفه مكانًا لإعادة التأهيل؛ فهو يختلف تمامًا عن أي إطار آخر قد يُضطر شخص إلى التأقلم معه، مع الاستثناء الممكن لبيئات عسكرية أو دينية معينة. ولذا يجب أن يغطي تطبيق علم النفس كلًّا من تقديم الدعم لفريق العمل إضافة إلى مراقبة البيئة، من أجل التأكد من أن عمل السجن يسير بلا مشكلات («إبقاء العجلة دائرة» كما يصف صديق لي ضابط شرطة وصفًا ينقل الصورة). وسيكون هناك أيضًا العمل في مساعدة السجناء على التعامل مع البيئة القاسية وغير المألوفة التي يجدون أنفسهم فيها. ولا ينبغي لأي مجتمع متحضر أن يسمح بأن يصل السجناء إلى درجة من الاكتئاب تجعلهم يقتلون أنفسهم.
تلقى البرامج والدورات التدريبية المتنوعة قبولًا بالسجون، باعتبارها سبلًا لمساعدة المساجين على أن يكونوا مواطنين محترمين. ويستند أغلب الناجح منها إلى جانب من جوانب العلاج السلوكي المعرفي. وهذا يتطلب من الجاني أن يغير كيفية تفكيره في أمور خطيرة — مثل النساء أو الضحايا الممكنين — إضافة إلى تغيير كيفية تصرفه. تكمن صعوبة هذه البرامج في أنه يجب تقييمها إلى حدٍّ ما على أساس ما يقوله الجاني وما ألقي القبض عليه لأجله. ومن الممكن دائمًا أن يتعلم الجاني ما يتعين عليه قوله وكيفية تجنب الإمساك به.
عندما يعاني جانٍ من مرض عقلي ما واضح، يمكن اعتبار عملية مساعدته شكلًا من أشكال العلاج. ويسجن هؤلاء الأشخاص في دول كثيرة في مؤسسات أُنشئت باعتبارها مستشفيات محكمة، رغم أن طاقم العمل بها يمكن أن يكونوا أعضاءً في نقابة ضباط السجون. وتفرض هذه المؤسسات تحديات خاصة جدًّا على المستويين التنظيمي والشخصي.
من الأمور المؤثرة للغاية في محاولات إعادة التأهيل الإقرار بأن الجاني ربما يكون ضحية أيضًا، وقد يحتاج مساعدة للتعامل مع خبراته الخاصة الناتجة عن تعرضه لصدمات. لكن تؤدي العمليات التي تجرى لمساعدة الضحايا وظائفها بالشكل الأفضل مع أشخاص من غير الجناة، وترتبط بمجال متنامٍ أطلق عليه «علم ضحايا الجرائم». وهذا العلم يدرس ما إذا كان هناك جوانب لدى الناس تزيد من احتمالات أن يصبحوا ضحايا، إضافة إلى استحداث طرق لمساعدة الضحايا على التعامل مع خبراتهم.
من أجل السماح للأشخاص بالخروج من السجن بموجب إطلاق سراح مشروط — أو خصوصًا من مستشفيات محكمة حيث تكون فترة إقامتهم غير محددة حتى يعتبر من الآمن أن يعودوا إلى المجتمع — يجب إجراء تقييم دقيق لمدى خطورة الشخص. وقد حاول علماء النفس تطوير إجراءات منهجية لإجراء هذه التقييمات، إلا أن صعوبات كثيرة تواجههم.