مقابلة مع رائد أعمال
ضيفها جون ماكي، أجراها توم جي بالمر
في هذه المقابلة، يشرح جون ماكي، رائد الأعمال وأحد مؤسسي شركة هول فودز
والمدير التنفيذي المشارك لها، فلسفة «الرأسمالية الواعية» التي يعتنقها، ويعرض
أفكاره عن الطبيعة البشرية والتحفيز وطبيعة العمل، والفارق بين رأسمالية السوق
الحرة و«رأسمالية المحاباة».
شارك جون ماكي في تأسيس شركة هول فودز ماركت في عام ١٩٨٠، وكان من الرواد
الداعين لتناول الطعام الصحي والمعاملة الأخلاقية للحيوانات والمشاركة
الإيجابية للشركات في المجتمع. وهو عضو بمجلس أمناء معهد الرأسمالية
الواعية.
***
بالمر
:
من النادر وجود شخص مثلك يا
جون في عالم الأعمال؛ رائد أعمال لا يخجل من الدفاع عن أخلاقيات الرأسمالية.
ومعروف عنك أيضًا أنك تقول إن المصلحة الذاتية ليست كافية للرأسمالية. ما الذي
تعنيه بهذا؟
ماكي
:
وضع كل شيء على عاتق المصلحة الذاتية يعني الاعتماد على نظرية غير مكتملة
بالمرة عن الطبيعة البشرية. الأمر يذكرني بالمناظرات الجامعية التي يحاول فيها
البعض الزعم بأن كل ما تفعله لا بد وأن ينبع منطقيًّا من المصلحة الذاتية وإلا
ما كنت لتفعله. وتلك حجة يستحيل دحضها، وفي نهاية المطاف ما هي إلا هراء؛ إذ
إنك حتى إذا فعلت أشياء ليست في مصلحتك، فسيظل أصحاب تلك الحجة يقولون إنها
كانت في مصلحتك وإلا لما فعلتها. إنها أشبه بالحلقة المفرغة.
بالمر
:
بأي صورة تعتقد أن الدوافع الأخرى خلاف المصلحة الذاتية مهمة
للرأسمالية؟
ماكي
:
لا أحب هذا السؤال؛ لأن البشر لهم تعريفات متباينة للمصلحة الذاتية، وغالبًا
ما يتحدث كل منهم عن الأمر من منظوره عند إثارة هذا الموضوع، ولهذا ذكرت تلك
النقاشات غير الناضجة في أيام الجامعة والقائلة إن كل ما نفعله ينبع من المصلحة
الذاتية. ما أعنيه هو أن البشر معقدون، وأن لدينا محفزات عديدة، المصلحة
الذاتية أحدها، لكنها ليست المحفز الوحيد. ثمة أشياء كثيرة نهتم بها وتحفزنا،
منها المصلحة الذاتية، لكنها لا تقتصر عليها. وأعتقد أن الحركة الليبرتارية
[مذهب مؤيدي مبادئ الحرية] وصلت — ربما بفضل التأثير المشترك لآين راند والعديد
من الاقتصاديين — إلى ما يشبه الطريق الأيديولوجي المسدود الذي لا أظنه ينصف
عالم الأعمال التجارية أو الرأسمالية أو الطبيعة البشرية.
إذا فكرت في الأمر فستجد أن أكثر وقت في حياتنا نكون مهتمين فيه بمصلحتنا
الذاتية هو حين نكون صغارًا وغير ناضجين من الناحية العاطفية. أغلب الأطفال
والمراهقين إما مهتمون بأنفسهم فقط أو نرجسيون. إنهم يتصرفون من منطلق مصلحتهم
الذاتية، كما يرونها. لكن ونحن نكبر وننضج نصير أكثر قدرة على إظهار التعاطف
والرحمة والحب ونطاق أوسع من المشاعر الإنسانية. يتصرف البشر بدافع من أسباب
عديدة. وكثيرًا ما يُفصَل، على نحو مضلل، بين المصلحة الذاتية، أو الأنانية،
وبين الإيثار. لكني أرى أن هذا الفصل خاطئ؛ لأنه من الجلي أننا نتسم بالسمتين
في الوقت ذاته. فنحن مهتمون بمصلحتنا الذاتية، غير أننا لسنا مهتمين «فقط»
بمصلحتنا الذاتية. نحن نهتم أيضًا بغيرنا. فعادة ما نهتم اهتمامًا كبيرًا
بسعادة أسرنا. وعادة ما نهتم بمجتمعاتنا المحلية وبالمجتمع الأكبر الذي نعيش
فيه. ويمكننا أيضًا أن نهتم بالحيوانات وبالبيئة الأوسع. إن لدينا مُثُلًا عليا
تحفزنا على أن نحاول أن نجعل من العالم مكانًا أفضل. وبعض المُثل، في تعريفها
الصارم، ستبدو منافية للمصلحة الذاتية، إلا إذا عدنا إلى حجة الحلقة المفرغة
القائلة إن كل ما تهتم به وتريده ينبع من مصلحتك الذاتية.
لذا لا أظن أن المصلحة الذاتية تكفي وحدها. ولا أظن أن وصف كل فعل بأنه نابع
من المصلحة الذاتية يعد نظرة صائبة للطبيعة البشرية. بل أعتقد أن الرأسمالية
والمشروعات التجارية ينبغي أن تعكس على نحو وافٍ تعقيد الطبيعة البشرية، وأعتقد
أيضًا أن المصلحة الذاتية تسيء لسمعة «مصطلحات» كالرأسمالية والمشروعات
التجارية؛ لأنها تمكن أعداء الرأسمالية والمشروعات التجارية من تصويرها كأنشطة
أنانية جشعة مستغلة. هذا يزعجني بحق يا توم؛ لأن الرأسمالية والمشروعات
التجارية هي أعظم القوى الهادفة للخير في العالم. لقد كان الأمر كذلك طوال
الثلاثمائة عام الماضية على الأقل … ومع ذلك لا تحظى بالثناء الكافي للقيمة
المدهشة التي خلقتها.
بالمر
:
ما الذي يهدف المشروع التجاري لتحقيقه، إلى جانب المصلحة الذاتية أو
الأرباح؟
ماكي
:
بصفة عامة، المشروع التجاري الناجح يخلق القيمة. الأمر الجميل في الرأسمالية
هو أنها مبنية في جوهرها على التبادل الطوعي للمنفعة المشتركة. لنأخذ شركة مثل
هول فودز ماركت كمثال: إننا نخلق القيمة لزبائننا من خلال المنتجات والخدمات
التي نقدمها لهم. إنهم ليسوا «مجبرين» على التعامل معنا، بل هم يفعلون هذا
لأنهم يرغبون في ذلك، ولأنهم يرون أن هذا يصب في مصلحتهم. إننا إذن نخلق القيمة
لهم. ونحن نخلق القيمة لمن يعملون لدينا أيضًا؛ أعضاء فرق العمل بالشركة. إنهم
ليسوا عبيدًا، بل هم يعملون لدينا طواعية لأنهم يشعرون أن هذه هي الوظيفة التي
يريدون العمل بها، ولأن الراتب مجزٍ، ولأنهم يستقون منافع عدة من العمل بشركة
هول فودز، سواء على المستوى النفسي أو المادي. وبهذا نخلق القيمة لهم. ونحن
نخلق القيمة لمستثمرينا أيضًا؛ فرأسمالنا السوقي يصل اليوم إلى ١٠ مليارات
دولار، وكنا قد بدأنا بلا شيء! أي إننا خلقنا قيمة قدرها عشرة مليارات دولار
لجميع مستثمرينا على مدار النيف وثلاثين عامًا المنقضية. المساهمون ليسوا
مجبرين على شراء أسهمنا، بل هم يفعلون هذا طوعًا لأنهم يؤمنون بأننا نخلق
القيمة لهم. ونحن نخلق القيمة لموردينا، الذين يتاجرون مع شركتنا. لقد شاهدتهم
على مر السنين، وشاهدت أعمالهم تنمو، وشاهدتهم وهم يحققون الرخاء، وكل هذا سار
طوعًا واختيارًا. إنهم يساعدون على جعل شركة هول فودز أفضل، ونحن نساعد على جعل
حالهم أفضل.
بالمر
:
أنت تسمي فلسفتك «الرأسمالية الواعية»، فما الذي تعنيه بهذا؟
ماكي
:
إننا نستخدم هذا المصطلح لتمييزه عن بقية المسميات التي تولد كثيرًا من
الحيرة حين يوضع بعضها مع بعض، مثل «المسئولية الاجتماعية للمؤسسات» أو فلسفة
«الرأسمالية الإبداعية» لبيل جيتس أو «الرأسمالية المستدامة». لدينا تعريف واضح
للغاية للرأسمالية الواعية، وهو قائم على أربعة مبادئ:
المبدأ الأول: هو أنه يمكن أن يكون للمشروع التجاري هدف سامٍ، قد يضم في
ثناياه جني المال، لكنه لا يقتصر على ذلك. وهكذا يمكن أن يكون لكل مشروع تجاري
هدف سام. إذا فكرت في الأمر فستجد أن كل المهن الأخرى في مجتمعنا يحركها هدف
ما، خلف التأويل الضيق للهدف بوصفه مقتصرًا على زيادة الأرباح. فالأطباء من
أعلى الناس كسبًا للمال في مجتمعنا، ومع هذا فلديهم هدف، وهو شفاء الناس، وهذه
هي أخلاقيات المهنة التي يجري تدريسها في كليات الطب. لا يعني هذا أنه لا يوجد
أطباء جشعون، لكن كثيرًا من الأطباء الذين أعرفهم يهتمون بمرضاهم بصدق وإخلاص
ويحاولون شفاءهم حين يمرضون. ويحاول المعلمون تثقيف الناس، ويصمم المهندسون
المعماريون المباني، أما المحامون — إذا تغاضينا عن الدعابات التي تسخر منهم —
فيسعون لإعلاء العدالة والإنصاف في المجتمع. لكل مهنة هدف يتجاوز مجرد زيادة
الأرباح، والأمر عينه ينطبق على الأعمال التجارية. شركة هول فودز شركة أغذية،
لهذا نبيع أغذية عضوية طبيعية عالية الجودة للناس، ونساعدهم على العيش لمدة
أطول وبصحة أفضل.
بالمر
:
والمبدأ الثاني؟
ماكي
:
المبدأ الثاني للرأسمالية الواعية: يخص الأطراف ذات الصلة، التي ألمحت إليها
آنفًا، ويقضي بأنك يجب أن تفكر في مختلف الأطراف التي يقدم مشروعك التجاري
القيمة لها والتي قد تؤثر عليه. عليك التفكير في درجة تعقيد مشروعك عند محاولة
خلق القيمة لكل الأطراف التي ترتبط معك بعلاقات؛ كالزبائن والموظفين والموردين
والمستثمرين والمجتمعات المحلية.
المبدأ الثالث: يقضي بأن المشروع التجاري يحتاج إلى قادة يتمتعون بأخلاقيات
راسخة ويستطيعون وضع هدف المشروع في صدارة أولوياتهم. إنهم يسعون لخدمة هذا
الهدف ويسعون لاتباع مبدأ الأطراف ذات الصلة. لهذا عليهم أن يفعلوا ما في مصلحة
المشروع.
أما المبدأ الرابع للرأسمالية الواعية: فيقضي بأنك يجب أن تخلق ثقافة تدعم
هدف المشروع، والأطراف ذات الصلة، والقيادة، حتى تعمل كل هذه العناصر على نحو
متناغم.
بالمر
:
هل تحفزك هذه المبادئ على المستوى الشخصي حين تنهض في الصباح؟ هل تقول لنفسك:
«سأذهب لكسب المزيد من المال» أم «سألتزم بمبادئي الأساسية»؟
ماكي
:
أعتقد أنني مختلف قليلًا في هذا الصدد؛ لأنني لم أتقاض أي راتب، أو مكافآت،
من شركة هول فودز لما يقارب الخمس سنوات. وحتى خيارات الأسهم، المستحقة لي،
فتوجه لمؤسسة هول بلانيت فاونديشن لاستخدامها في منح القروض متناهية الصغر
للفقراء في العالم. إن هدف شركة هول فودز، وليس مقدار المال الذي قد أجنيه منها
على صورة مكافآت، هو ما يحفزني إلى حدٍّ بعيد. وأنا أؤمن بأنني أملك من الثروة
أكثر مما يكفيني من واقع الأسهم التي لا أزال أملكها في الشركة.
بالمر
:
مجددًا، ما تعريفك لهذا الهدف؟
ماكي
:
هدف شركة هول فودز هو … حسنًا، لو كان لدينا المزيد من الوقت كنا سنتحدث
بصورة مطولة عن الهدف السامي لهول فودز. لقد ألقيت كلمة على مجموعة القيادة منذ
حوالي أسبوعين، وما يمكنني قوله فيما يقارب الدقيقة هو أن شركتنا تقوم على سبع
قيم جوهرية؛ أولى هذه القيم الجوهرية: هي إرضاء الزبائن وإسعادهم. والقيمة
الجوهرية الثانية: هي سعادة فريق العمل وتفوقه. (بالمناسبة، كل هذا مذكور على
موقعنا الإلكتروني، حتى نُعرّف الجميع به.) القيمة الجوهرية الثالثة: هي خلق
الثروة من خلال تحقيق الأرباح والنمو. والقيمة الجوهرية الرابعة: هي أن نكون
مواطنين صالحين في المجتمعات التي نعمل فيها. والقيمة الجوهرية الخامسة: هي أن
نحاول إنجاز عملنا مع الحفاظ على البيئة. والقيمة الجوهرية السادسة: هي أننا
ندرس موردينا وشركاءنا ونحاول الانخراط معهم في علاقات مربحة لكل الأطراف. أما
القيمة السابعة: فهي رغبتنا في تعريف كل الأطراف ذات الصلة بنمط الحياة الصحي
وتناول الطعام الصحي. وهكذا فإن أهدافنا السامية هي امتداد مباشر لهذه القيم
الجوهرية. من هذه الأهداف: محاولة مداواة أمريكا؛ إذ إن أمتنا تعاني السمنة
والمرض؛ فنحن نتبع أنظمة غذائية سيئة ونموت بسبب أمراض القلب والسرطان والسكر.
هذه الأمراض مرتبطة بنمط الحياة، وبالإمكان تحاشيها بقدر كبير أو الشفاء منها؛
لذا يعد هذا أحد أهدافنا السامية. ولدينا أهداف سامية تخص نظام الزراعة؛ وهي
محاولة إيجاد نظم زراعية أكثر استدامة تكون ذات إنتاجية أعلى أيضًا.
يرتبط ثالث الأهداف السامية بمؤسسة هول بلانيت فاونديشن التابعة لنا، ويتمثل
في العمل مع مؤسسة جرامين تراست وغيرها من المؤسسات المانحة للقروض متناهية
الصغر في محاولة للقضاء على الفقر في العالم [ملحوظة المحرر: يدعم بنك جرامين
ومؤسسة جرامين تراست التمويل المصغر في الدول الفقيرة، خاصة للنساء، كسبيل
للتنمية]. إننا نعمل الآن في ٣٤ دولة — وسيصل العدد إلى ٥٦ دولة في عامين —
وهذا يعني ترك أثر إيجابي على مئات الآلاف من الأشخاص بالفعل. ورابع أهدافنا
السامية هو نشر الرأسمالية الواعية.
بالمر
:
لقد تحدثت عن أهداف المشروع التجاري، لذا … لماذا تحصدون الأرباح إذن؟ أليس
المشروع التجاري مغامرة لزيادة الأرباح؟ ألا يمكنكم فعل كل هذا دون تحقيق
أرباح؟ ألا يمكنكم كسب ما يكفي من المال لتغطية نفقاتكم وحسب؟
ماكي
:
إحدى الإجابات هي أنك لن تكون فعالًا بما يكفي وقتها؛ لأنك إذا سعيت فقط لكسب
ما يكفي من المال لتغطية النفقات، فسيكون تأثيرك محدودًا للغاية. إن لشركة هول
فودز اليوم تأثيرًا أكبر من تأثيرها منذ ثلاثين أو عشرين أو خمسة عشر عامًا أو
حتى عشرة أعوام مضت. وسبب هذا هو أننا حققنا أرباحًا كبيرة، ولأننا استطعنا
تحقيق المزيد من النمو والمزيد من الأهداف، صرنا قادرين على الوصول لملايين
البشر ومساعدتهم، بدلًا من الاكتفاء بعشرات الآلاف من الأشخاص وحسب. لهذا أرى
أن الربح أمر أساسي من أجل تحقيق أهدافك. أيضًا، تحقيق الأرباح يوفر رأس المال
الذي يحتاجه عالمنا للابتكار والتقدم، وإذا انعدمت الأرباح انعدم التقدم.
فالأمران معتمدان أحدهما على الآخر اعتمادًا تامًّا.
بالمر
:
لكن إذا ذهبت الأرباح لجيوب المساهمين بشركتكم، فهل يعني هذا أنكم تنجزون
مهمتكم على الوجه الأمثل؟
ماكي
:
بالطبع لا يذهب أغلب الربح لجيوب المساهمين. فقط نسبة أصغر نسبيًّا ندفعها
على صورة حصص أرباح هي التي تذهب للمساهمين. ويعاد استثمار ما يربو على التسعين
بالمائة من المال الذي نكسبه في الشركة مجددًا. باختصار، لو أننا كنا ندفع مائة
بالمائة من أرباحنا كحصص أرباح للمساهمين، لكان هذا صحيحًا، لكني لا أعرف أي
شركة يمكنها عمل هذا باستثناء صناديق الاستثمار العقارية. وباستثناء هذه
الصناديق، تعيد جميع الشركات استثمار أرباحها بغرض النمو. إضافة إلى ذلك، فإن
تحقيق الأرباح للمساهمين هو ما شجعهم على الاستثمار في الشركة من الأساس، ودون
ذلك لن يكون لديك رأس مال على الإطلاق لتحقيق أهدافك السامية. إن القدرة على
زيادة رأس مال الشركة تعني القدرة على خلق القيمة، ومن المقاييس الجيدة لذلك
سعر سهم الشركة. هذا ما قصدته عندما قلت إننا أوجدنا قيمة بما يساوي عشرة
مليارات دولار على مدار النيف وثلاثين عامًا الماضية.
بالمر
:
يقول الناس أحيانًا إن الأسواق الحرة تخلق عدم المساواة. ما رأيك في هذا
الزعم؟
ماكي
:
لا أعتقد أنه صحيح. لقد ظل الفقر المدقع الحالة الطبيعية للبشر على مر
التاريخ. كان البشر جميعهم متساوين في الفقر، وكانوا يعيشون حياة قصيرة. ومنذ
مائتي عام كان ٨٥ بالمائة من السكان يعيشون على كوكب الأرض على أقل من دولار
واحد يوميًّا بمعايير اليوم؛ ٨٥ بالمائة! قلَّ هذا الرقم إلى ٢٠ بالمائة اليوم،
وبحلول نهاية هذا القرن من المفترض أن يصل إلى الصفر تقريبًا. إنه اتجاه متصاعد
إذن. فالعالم يصير أكثر ثراءً، والناس يخرجون من حالة الفقر. البشرية تتقدم من
غير ريب. ثقافتنا تتقدم، وذكاؤنا يزداد. نحن نسير في منحنى صاعد، هذا إذا تمكنا
من ألا ندمر أنفسنا، وهو خطر قائم بالطبع؛ لأن البشر ينزعون للحرب في بعض
الأحيان أيضًا. وهذا، بالمناسبة، أحد الأسباب التي تدعونا لتعزيز الأعمال
والمشروعات التجارية وتكوين الثروة؛ بحيث تكون متنفسًا صحيًّا للطاقة عوضًا عن
السياسة العسكرية والصراع السياسي وتدمير الثروات. لكن هذا موضوع كبير
آخر.
هل يزيد هذا من عدم المساواة؟ لا أعتقد أن الرأسمالية هي التي تزيد من عدم
المساواة، لأنها تساعد الناس على تحقيق المزيد من الرخاء، وهذا يعني حتمًا أن
الجميع لن يزيدوا بالقدر نفسه، لكن في نهاية المطاف سيحقق الجميع المزيد من
الرخاء. لقد شهدنا حدوث هذا، على مدار العشرين عامًا الماضية تحديدًا؛ إذ شهدنا
مئات الملايين من البشر وهم يخرجون من هوة الفقر في الصين والهند مع اعتناقهم
للرأسمالية بشكل أكبر. الحقيقة هي أن بعض الناس يهربون من براثن الفقر ويحققون
الرخاء أسرع من غيرهم، لكن هذا ليس معناه أن الرأسمالية تسبب الفقر، بل هي تقضي
عليه. وهي لا تسبب عدم المساواة على النحو الذي يدور في خلد أغلب البشر. فعلى
مر التاريخ، لطالما وجدت عدم المساواة في أي نوع من التنظيمات الاجتماعية. حتى
الشيوعية، المعنية بإنتاج مجتمع تتساوى فيه ملكية الثروة، كانت طبقية بشكل كبير
وتمتعت فيها طبقات النخبة بمزايا خاصة. لهذا لا أرى أنه يجب اعتبار الرأسمالية
مسئولة عن عدم المساواة. الرأسمالية تمكن البشر من الهروب من الفقر وتحقيق
الرخاء والثروة، وهذا أمر طيب. هذه هي القضية التي يجب أن نركز عليها.
إن الفجوة الكبيرة الموجودة في العالم هي بين تلك الدول التي تبنت رأسمالية
السوق الحرة، وبالتالي حققت الثراء، والدول التي لم تتبنها، وقبعت في الفقر.
المشكلة ليست في تحقيق البعض للثراء، بل في أن غيرهم ظلوا فقراء. وما من داع
يحتم حدوث هذا!
بالمر
:
لقد فرقت بين رأسمالية السوق الحرة وغيرها من الأنظمة التي يحقق في ظلها
الناس الربح ويقيمون مشروعاتهم التجارية، لكنها توصف بأنها «رأسمالية
المحاباة». ما الفارق بين رؤيتك الأخلاقية وبين ما يحدث في دول كثيرة في
العالم؟
ماكي
:
لا بد من تحقيق مبدأ سيادة القانون. فمن المحتم أن يملك البشر قواعد تنطبق
بالتساوي على الجميع، وهذه القواعد يجب أن يفرضها نظام للعدالة يضع هذا الهدف
نصب عينه على الدوام. إننا بحاجة لوضع تطبيق القانون على الجميع بالتساوي هدفًا
أساسيًّا؛ بحيث لا تكون هناك مزايا خاصة نمنحها للبعض دون الآخر. وعلى هذا فإن
ما يحدث في مجتمعات كثيرة، وأظن أنه يحدث على نحو متزايد هنا في الولايات
المتحدة، هو أن ثمة امتيازات خاصة تُمنح لمن يتمتعون بنفوذ سياسي. هذا أمر خاطئ
ومضر. وكلما عانى أي مجتمع رأسمالية المحاباة، أو ما يسميه صديقي مايكل سترونج
«رأسمالية الهراء»، زاد ابتعاده عن مفهوم مجتمع السوق الحرة وتعزيز الرخاء؛ إذ
إنك بهذا تبقي عددًا كبيرًا من الناس في مستوى أقل رخاءً مما سيحققون لو أنك
امتلكت حقًّا نظامًا للسوق الحرة مدعومًا بسيادة القانون.
بالمر
:
لنعد إلى الدولة التي نعيش فيها، الولايات المتحدة. هل تعتقد أن المحاباة
موجودة فيها؟
ماكي
:
دعني أذكر لك مثالي المفضل من
الحاضر. حسن، لدي مثالان في الواقع. أولهما: هو أن لدينا الآن أكثر من ألف
إعفاء منحتها إدارة الرئيس أوباما بالفعل من القواعد والتنظيمات ومرت بموجب خطة
الرعاية الصحية المعروفة ﺑ «أوباما كير». هذا نوع من رأسمالية المحاباة.
فالقواعد لا تُطبق بالتساوي على الجميع. وهذا يعني أن سلطة منح الإعفاء تعني
سلطة حجبه بالمثل. وبإمكانك حجبه عن من لا يقدمون التبرعات الملائمة لحزبك
السياسي أو حتى عن من لا يروقون لك لسبب أو لآخر. فلدينا قانون تعسفي تستطيع
تطبيقه على نحو انتقائي على البعض دون البعض الآخر.
ثانيًا: أرى رأسمالية المحاباة في كل هذه الإعانات الحكومية الموجهة
ﻟ «التكنولوجيا الخضراء» مثلًا.
إنهم يمدون بعض الشركات بإعانات، وهو ما يعني في نهاية المطاف، نظرًا لأن
الحكومة لا تملك أي مال خاص بها، أنهم يأخذون أموال دافعي الضرائب ويعيدون
توزيعها على ذوي الحظوة. أرى هذا يحدث مع شركة جنرال إلكتريك الآن، من خلال
نوعية الضرائب التي يدفعونها، مع كل تلك الإعفاءات والاستقطاعات الخاصة التي
تُدرج في قوانين الضرائب. وبما أنهم منغمسون بشدة في تقنيات الطاقة البديلة
هذه، أو بعضها، فإنهم يصلون إلى نقطة لا يتعين عليهم فيها أن يدفعوا أي ضرائب
على الجزء الأكبر من دخلهم، وهذا بسبب أنهم يحظون بعلاقة طيبة مع ذوي السلطة.
هذا يزعجني. وأرى أنه أمر سيئ.
بالمر
:
هل تصفه بالأمر غير الأخلاقي؟
ماكي
:
نعم، أصفه بذلك. غير أخلاقي … نعم، غير أخلاقي. لكن هنا يتعين عليك تحديد ما
يعنيه هذا. بالتأكيد هذا الأمر يخالف أخلاقياتي وإحساسي بما هو صواب وخطأ. لكن
من العسير معرفة هل هذا الأمر يخالف أخلاقيات الآخرين. أنا بالتأكيد لا أحبه،
وأعارضه، وهو لا يتماشى مع فكرتي عن الصورة التي ينبغي أن يُحكم المجتمع بها.
فمثل هذا الأمر لا ينبغي أن يحدث في مجتمع يطبق مبدأ سيادة القانون
بقوة.
بالمر
:
في رأيك، من الرابحون الأساسيون من رأسمالية السوق الحرة التي
تعتنقها؟
ماكي
:
الجميع! كل فرد من أفراد المجتمع يستفيد. وهذا ما أخرج أغلب البشر من هوة
الفقر، وجعل هذا البلد ثريًّا. لقد كنا فقراء معوزين. كانت أمريكا أرضًا للفرص،
لكنها لم تكن بلدًا ثريًّا. ومع أن أمريكا لم تكن مثالية بالتأكيد، فإنها تمتعت
بأحد أكثر الأسواق حرية في العالم على مدار مائتي عام، ونتيجة لذلك انتقلنا من
الفقر المدقع إلى دولة مزدهرة ثرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
بالمر
:
ذكرت ديردري ماكلوسكي في كتابها «كرامة الطبقة البرجوازية» أن تغير نظرة
الناس للعمل التجاري والابتكار المغامر مَكَّنَ من تحقيق الرخاء لعامة البشر.
هل ترى أننا نستطيع استرداد ذلك الاحترام للمشروعات التجارية التي تخلق الثروة
مجددًا؟
ماكي
:
أعتقد أن بمقدورنا فعل هذا؛ لأنني رأيت ما حدث حين انتُخب رونالد ريجان
رئيسًا. كانت أمريكا تمر بمرحلة ذبول في سبعينيات القرن العشرين؛ لا شك في هذا،
فقط انظر إلى معدل التضخم، ومعدلات الفائدة، والناتج المحلي الإجمالي وقتها،
ومدى تواتر فترات الركود، كنا نعاني «انهيارًا تضخميًّا» كشف عن عيوب خطيرة في
الفلسفة الكينزية، ثم حظينا بقائد تدخل وقلص الضرائب، وحرر صناعات كثيرة من نير
القيود الحكومية، وشهدت أمريكا نهضة حقيقية؛ بعثًا جديدًا، وهذا ما منحنا القوة
الدافعة على مدار الخمس وعشرين عامًا الماضية أو أكثر. لقد مررنا، جوهريًّا،
بمنحنى متصاعد من النمو والتقدم. لكن مع الأسف، نكصنا على أعقابنا في الفترة
الأخيرة مجددًا، ورجعنا ما لا يقل عن خطوتين إلى الوراء. الأولى، في ظل إدارة …
حسن، يمكنني أن ألقي باللوم على كل واحد من هؤلاء الرؤساء والسياسيين، وحتى
ريجان لم يكن مثاليًّا هو الآخر، لكن حديثًا تسبب بوش في تسريع هذا التراجع،
والآن يقطع بنا أوباما مسافات لم يستطع أي رئيس آخر قطعها على هذا
الطريق.
لكن، كما تعرف، أنا رائد أعمال، وبالتالي أنا شخص متفائل. أعتقد حقًّا أنه من
الممكن علاج ما حدث. ولا أعتقد أننا وصلنا بعد إلى نقطة اللاعودة، لكني أظن أنه
سيتعين علينا إجراء بعض التغييرات الخطيرة سريعًا جدًّا. إننا على شفير
الإفلاس، هذا أحد جوانب المشكلة. وما لم نكن مستعدين لأخذ هذا على محمل الجد
والتعامل معه دون زيادة الضرائب وخنق المشروعات التي تقوم عليها أمريكا، ما لم
نكن مستعدين للتعامل مع هذا، عندئذٍ سيكون السقوط حتميًّا. لكنني في الوقت
الحالي ما زلت متمسكًا بالأمل!
بالمر
:
هل تعتقد أن الرأسمالية تخلق التطابق، أم إنها تخلق مساحة للاختلاف؟ أقصد
بهذا من يحبون الطعام المباح وفق الشريعة اليهودية أو الحلال وفق الشريعة
الإسلامية، أو الأقليات الدينية أو الثقافية أو العرقية …
ماكي
:
لقد أجبت تقريبًا على نفسك حين ذكرت هذه الأمثلة. فالرأسمالية في جوهرها
أشخاص يتعاونون معًا لخلق القيمة لغيرهم، إضافة إلى أنفسهم. هذه هي الرأسمالية.
للمصلحة الذاتية دور في الأمر بطبيعة الحال، لكن السر هو أن تكون قادرًا على
خلق القيمة من خلال التعاون، وأن تفعل هذا لنفسك وللآخرين أيضًا. هذا يؤدي
لتنوع في الجهود الإنتاجية؛ لأن البشر متباينون من حيث احتياجاتهم ورغباتهم.
والرأسمالية — أو التعاون في السوق — تهدف لإرضاء هذه الحاجات والرغبات. وهذا
يوجد مساحة مهولة للتفرد. إذا كنت تعيش في مجتمع فاشي، تستطيع بعض الجماعات ذات
المصلحة الخاصة، سواء على صورة سلطة دينية أو مجموعة من المفكرين الجامعيين أو
جماعة من المتعصبين الذين يظنون أنهم يعرفون ما في مصلحة الجميع، أن تفرض قيمها
على الجميع. إنها تملي على الآخرين ما يفعلونه. لكن في المجتمع الرأسمالي لديك
مساحة أكبر بكثير للتفرد. فهناك مساحة لمليارات الأزهار كي تنمو وتزدهر في
المجتمع الرأسمالي، وسبب هذا ببساطة أن ازدهار البشر هو الهدف أو الغاية
الجوهرية للرأسمالية، وهو أعظم إبداعاتها كذلك.
بالمر
:
ما رؤيتك لمستقبل مزدهر مبتكر عادل؟
ماكي
:
أول ما أود رؤيته هو أن يبدأ المدافعون عن الرأسمالية في فهم أن الاستراتيجية
التي ظلوا يستخدمونها صبت في واقع الأمر في مصلحة خصومهم. لقد تخلوا عن موقف
التفوق الأخلاقي، وسمحوا لأعداء الرأسمالية بتصويرها على أنها نظام أناني جشع
مستغل يخلق عدم المساواة ويستغل العمال ويخدع الزبائن ويدمر البيئة ويسبب تآكل
المجتمعات في الوقت ذاته. لا يعرف المدافعون كيف يردون على هذا الهجوم لأنهم
تخلوا بالفعل عن أغلب أرضهم لمصلحة منتقدي الرأسمالية. وبدلًا من ذلك، هم بحاجة
للابتعاد عن هوسهم بالمصلحة الذاتية والبدء في رؤية القيمة التي تخلقها
الرأسمالية، ليس فقط للمستثمرين؛ مع أنها تفعل هذا بطبيعة الحال، بل القيمة
التي تقدمها لكل من لهم علاقة بالمشاريع التجارية: فهي تخلق القيمة للزبائن،
والعمال، والموردين، والمجتمع ككل، وللبيئة. أعني، كيف سيكون حال حكومتنا دون
وجود قطاع أعمال قوي يخلق الوظائف والدخل والثروة التي يمكنها فرض الضرائب
عليها؟ ولا يعني هذا أن فرض الضرائب يسعدني على الدوام.
الرأسمالية مصدر للقيمة. إنها أروع وسيلة للتعاون الاجتماعي وجدت على
الإطلاق. وهذه هي القصة التي نحتاج لروايتها. إننا بحاجة لتغيير القصة. من
المنظور الأخلاقي، نحن بحاجة لتغيير قصة الرأسمالية لنبين أنها معنية بخلق
القيمة المشتركة، ليس لقلة من الناس، بل للجميع. وإذا استطاع الناس رؤية الأمر
على النحو الذي أراه، فسيحبون الرأسمالية مثلما أحبها.
بالمر
:
أشكرك على وقتك.
ماكي
:
بكل سرور يا توم.