الحريتان السياسية والاقتصادية تنتجان معًا معجزات البشرية
بقلم تيمبا إيه نولوتشونجو
في هذا المقال يستشهد الاقتصادي الجنوب أفريقي تيمبا إيه نولوتشونجو بتاريخ بلاده الحديث للتفريق بين حكم الأغلبية (الذي انتُزع بعد عقود من الصراع مع الأقلية المحتكرة للسلطة) والحرية، ويوضح الآفاق الرحبة للحرية الاقتصادية.
تيمبا إيه نولوتشونجو هو مدير مؤسسة السوق الحرة بجنوب أفريقيا. وهو يدرّس ببرامج التمكين الاقتصادي في جميع أرجاء البلاد وتُنشر كتاباته على نحو دائم في الصحافة الجنوب أفريقية. كان أحد أعضاء اللجنة التي أصدرت «أوراق زيمبابوي»، وهي مجموعة مقترحات خاصة بالسياسات تهدف لتعافي دولة زيمبابوي بعد الكارثة التي تسببت فيها سياسات موجابي وقُدمت لرئيس وزراء زيمبابوي مورجان تسفانجيراي. وفي شبابه كان نولوتشونجو عضوًا بارزًا في حركة الوعي الأسود بجنوب أفريقيا.
***
في يوليو من عام ١٧٩٤، حُكم على ماكسيميليان روبسبير، الجمهوري الثوري والديمقراطي المتطرف والقوة المحركة لعهد الإرهاب في فرنسا ما بعد الثورة، الذي قُتل خلاله نحو ٤٠ ألف فرنسي بالمقصلة بوصفهم «أعداء الأمة»، بالإعدام من قِبل خصومه السياسيين. وقبل وفاته بلحظات خاطب روبسبير العامة، الذين اعتادوا التزلف له لكنهم الآن ينادون بمقتله، بالكلمات التالية: «لقد منحتكم الحرية، والآن تريدون الخبز أيضًا.» وكانت هذه نهاية عهد الإرهاب.
المغزى الذي يمكن أن نستقيه من هذا هو أنه على الرغم من أن الكثيرين يربطون بين الحرية السياسية والرفاهية الاقتصادية، فإن الاثنين ليسا بالشيء نفسه.
الرفاهية الاقتصادية تأتي نتيجة للحرية. وفي جنوب أفريقيا، في ظل معدلات البطالة المسجلة رسميًّا والبالغة ٢٥٫٢ بالمائة (وهو رقم لا يضم من توقفوا عن البحث عن عمل)، يعكس الفصل بين الحرية السياسية والرفاهية الاقتصادية وضعًا كارثيًّا محتملًا؛ خطرًا استفحل على يد الإدارات السياسية المتعاقبة التي وعدت على نحو متكرر بتحقيق كل أنواع الفوائد لناخبيها.
وللتعامل مع التحديات التي تواجهنا، علينا أولًا أن نستجلي بعض المفاهيم المغلوطة:
خلق الوظائف ليس دور الدولة. فكي تكون الوظائف دائمة يجب أن يخلقها القطاع الخاص. أما الوظائف التي توجدها الحكومة فيتحمل تكلفتها دافعو الضرائب ولا تتعدى كونها وظائف مقدمة كمعونة. ولأنها غير دائمة، ليس لها أي نتائج اقتصادية إيجابية. فالقطاع الخاص هو الخالق الوحيد للثروة، أما القطاع الحكومي فهو مستهلك لها.
المال ما هو إلا وسيط لتبادل السلع والخدمات، ولهذا يجب أن يرتبط بالإنتاجية ويعكسها. حين زرت روسيا وتشيكوسلوفاكيا ما بعد الشيوعية في عام ١٩٩١، كانت الدعابة السائدة هي أن العمال يتظاهرون بالعمل بينما تتظاهر الحكومة بدفع الرواتب لهم. ولهذا، في رأيي، حين نتحدث عن عملية ذات مغزى لخلق الوظائف، علينا بالتركيز على القطاع الخاص وحده.
يستدعي هذا التساؤل عن السياسات التي ينبغي تطبيقها على مشروعات القطاع الخاص. أي السياسات سيحسن الإنتاجية وأيها سيعوقها؟ ما الذي ينبغي عمله؟
لندرس المبادئ التي تقوم عليها أبسط عمليات التبادل بين أي طرفين. يمكن للمعاملات التجارية البسيطة أن تفيدنا كمثال على الاقتصاد الأكبر وكنموذج مصغر له. ومن المفترض أن ترشد واضعي السياسات بشأن أكثر السياسات توافقًا مع الطبيعة البشرية؛ لأن العامل البشري عامل محوري في السياق الاقتصادي. لنعد بالزمن إلى الوراء حتى رجل كهوف افتراضي يملك مهارة في الصيد لكنه عديم الخبرة بصناعة أسلحة الصيد. يقابل رجلنا صانع أسلحة ماهر ويتفق معه على منحه جزءًا من طريدته مقابل السلاح. يخرج كل منهما من المعاملة وهو يشعر بأنه استفاد من خلال الحصول على شيء أعظم في القيمة مما منحه. وعاجلًا أو آجلًا، يجد صانع الأسلحة أنه لو تخصص في صناعة الأسلحة، بدلًا من الصيد، فسيقدر على مقايضة الأسلحة مقابل الفراء واللحم والعاج وغيرها. لقد صار له عمل تجاري. وهو يحقق الرخاء، وكل زبائنه يحققون الرخاء، بفضل استخدامهم لأسلحة الصيد الأعلى كفاءة.
ما يجب ملاحظته في هذا السيناريو هو أنه لا يوجد إجبار أو احتيال في الأمر. ولا وجود لمشاركة من طرف ثالث. فلا وجود لطرف يملي قواعد العمل؛ فالقواعد التي يسير الطرفان عليها تأتي على نحو تلقائي، وهما يطيعانها كما لو كانت قواعد لنظام طبيعي. هذا هو ما أشار الاقتصادي الراحل فريدريك هايك إليه بالنظام التلقائي، وجزء من هذا النظام يقضي بالاحترام المتبادل للملكية الخاصة.
من هذا المثال البسيط يمكننا أن نستنتج أنه في اقتصاد الوقت الحاضر، في أي دولة تحجم فيها الحكومة عن التدخل في المجال الاقتصادي، سيكون هناك نمو أكبر ومنافع اجتماعية اقتصادية مصاحبة. وبعبارة أخرى، إذا شجعت الحكومة على الحرية الاقتصادية للمنتجين والمستهلكين، ومكنتهم من الانخراط في معاملات لا ينتج عنها إجبار أو احتيال، فستحقق الدولة وشعبها، الرخاء. وهذا سبيل مؤكد لتقليل البطالة وتحسين التعليم وتقديم رعاية صحية أفضل.
هذه المبادئ الجوهرية تنطبق على جميع الاقتصاديات، بصرف النظر عن السياق الثقافي الذي تبلورت داخله. وخرافة «ثقافة العمل» الموجودة دائمًا تستدعي الانتباه لها على نحو حاسم. فهذه النظرة تعزز على نحو ضمني الأفكار النمطية عن القوميات أو الجماعات العرقية بوصفها إما تملك أخلاقيات العمل أو تفتقر إليها، ويكون الاستنتاج المنطقي المترتب على هذا هو أن الفقراء فقراء لأنهم يفتقرون إلى ثقافة العمل وأن الأغنياء أكثر نجاحًا لأنهم يملكونها، وهي نظرة من الخطر الشديد اعتناقها، خاصة حين ترتبط بالنظرة العرقية.
قبل هدم حائط برلين في عام ١٩٨٩، كانت ألمانيا الغربية ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بينما كانت ألمانيا الشرقية منطقة كوارث اقتصادية. كانوا شعبًا واحدًا، وثقافة واحدة، بل أسرًا واحدة في بعض الحالات قبل الانقسام عقب الحرب العالمية الثانية. يمكن إصدار حكم مشابه على الكوريتين؛ فكوريا الجنوبية عملاق اقتصادي، بينما كوريا الشمالية جحيم اقتصادي لا يتوقف عن امتصاص المساعدات الخارجية. ومرة أخرى، شعب واحد، وثقافة واحدة. وماذا عن التناقض بين الصين وهونج كونج قبل عام ١٩٩٢ حين أجرى دينج شياو بينج إصلاحات جذرية لدعم السوق الحرة عقب الإعلان بأنه من الرائع أن تكون غنيًّا وأنه لا يهم هل القط أسود اللون أو أبيض اللون ما دام يصطاد الفئران؟ مجددًا، شعب واحد، وثقافة واحدة، والفوارق الاقتصادية الدالة عينها. في كل مرة كان ما يصنع الفارق هو درجة الحرية المسموح بها لعناصر الاقتصاد.
منذ عام ١٩٩٢، وبفضل أكثر إصلاحات السوق الحرة جذرية في السنوات الأخيرة، تبزغ الصين اليوم ثالث أعظم قوة اقتصادية في العالم. والمحزن في الأمر، حسب كلمات بيرتل شميت، أن «الولايات المتحدة التقطت كتاب الاقتصاد الاشتراكي الذي كان دينج شياو بينج من الذكاء بما يكفي للخلاص منه».
إن الإطار التشريعي والمؤسسي الذي يحدث النشاط الاقتصادي داخله، وعلى الأخص مقدار الضوابط المفروضة على الاقتصاد، هو ما يحدد مدى ثراء الدولة وسكانها. وبعبارة أخرى، فإن درجة الحرية التي تسمح بها الدولة للأفراد بممارسة الحرية الاقتصادية هي ما سيحدد النتائج الاقتصادية.
تلخص الكلمات التي أوردها الأستاذ الجامعي والتر ويليامز عام ١٩٨٦ في كتابه المثير للفكر «حرب جنوب أفريقيا ضد الرأسمالية» الأمر كله، حيث قال: «… إن حل مشكلات جنوب أفريقيا ليس في البرامج الخاصة، ولا التصرف الإيجابي، ولا النشرات، ولا المعونات، بل في الحرية. لأنك لو نظرت حول العالم وبحثت عن الأغنياء؛ الأشخاص المتباينين الذين يملكون القدرة على العيش على نحو طيب، فستجد أنك تنظر إلى مجتمع يوجد به قدر كبير نسبيًّا من الحرية الفردية.»