تحسين أحوال البشر بواسطة العولمة
بقلم فيرنون سميث
في هذا المقال يتتبع فيرنون سميث، الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل، خطوات نمو الثروة البشرية عن طريق انتشار الأسواق، ويشرح لماذا تؤدي الرأسمالية العالمية إلى تحسين أحوال البشر.
يعمل فيرنون سميث أستاذًا للاقتصاد بجامعة تشابمان في كاليفورنيا، وهو من رواد مجال «الاقتصاد التجريبي» الناشئ. ركزت أبحاثه على أسواق رأس المال والبضائع، وظهور فقاعات الأصول، ودورات الأعمال، والماليات، واقتصاديات الموارد الطبيعية، ونمو مؤسسات السوق. في عام ٢٠٠٢ حصل فيرنون على جائزة نوبل في الاقتصاد مناصفة من أجل «ترسيخ التجارب المعملية كأداة للتحليل الاقتصادي التجريبي، خاصة في دراسة آليات السوق البديلة». نُشر لفيرنون كتابات عديدة في الصحف الأكاديمية، عن الاقتصاد ونظرية الألعاب والمخاطرة، وهو مؤلف كتاب «أبحاث في علم الاقتصاد التجريبي» و«المقايضة وسلوك السوق: مقالات عن علم الاقتصاد التجريبي». أيضًا يحظى سميث بشهرة عالمية كمعلم، وقد طور برامج للاستفادة من علم الاقتصاد التجريبي ليس فقط في توليد رؤى جديدة عن عمليات الاقتصاد، بل أيضًا في تدريس مبادئ علم الاقتصاد.
***
رسالتي اليوم رسالة متفائلة، وهي عن التبادل والأسواق، التي تسمح لنا بالتخصص في المهام والمعارف. هذا التخصص هو سر خلق جميع الثروات والمصدر الوحيد للتحسين المستدام لأحوال البشر. إنه جوهر العولمة.
التحدي الذي يواجهنا هو أننا نعمل جميعًا في الوقت عينه في عالمي تبادل متداخلين؛ الأول: أننا نحيا في عالم من التبادل الشخصي الاجتماعي قائم على المعاملة بالمثل والأعراف المشتركة في جماعات صغيرة وعائلات ومجتمعات. إن عبارة «إنني مدين لك» عبارة شائعة تجدها في الكثير من اللغات، التي يقر بها الناس طواعية بدينهم لغيرهم من البشر. منذ العصور البدائية مكن التبادل الشخصي من وجود التخصص في المهام (الصيد، وجمع الطعام، وصناعة الأدوات) ووضع حجر الأساس للإنتاجية والرفاهية المعززتين. سمح تقسيم العمل هذا للبشر بأن يهاجروا إلى جميع بقاع العالم. وبهذا يكون التخصص هو ما بدأ العولمة قبل ظهور الأسواق الرسمية بزمن طويل.
والعالم الثاني الذي نعيش فيه: هو عالم من التبادل السوقي غير الشخصي، يتطور التواصل والتعاون فيه تدريجيًّا من خلال التجارة بعيدة المدى بين الشعوب الغريبة بعضها عن بعض. في أفعال التبادل الشخصي ننوي دائمًا أن نسدي الخير للآخرين، أما في السوق يضيع هذا المفهوم؛ إذ يميل كل منا إلى التركيز على مكاسبه وحسب. ولكن، تؤكد تجاربنا المعملية المنهجية أن نفس الأشخاص الذين يحاولون التعاون في التبادل الشخصي يجاهدون من أجل زيادة مكاسبهم الشخصية في سوق أكبر. ودون قصد منهم يزيدون أيضًا في تعاملاتهم السوقية من الفائدة المشتركة التي تعود على المجموعة. لماذا؟ بسبب حقوق الملكية. ففي التبادل الشخصي تنبثق القواعد السائدة من الموافقة الطوعية لأطراف التبادل. أما في التبادل السوقي غير الشخصي تكون القواعد السائدة — مثل حقوق الملكية، التي تمنع أخذ شيء دون إعطاء شيء آخر في المقابل — مدمجة في إطار العمل المؤسسي. وبهذا يعمل عالما التبادل بطريقة متشابهة؛ عليك أن تعطي لكي تأخذ.
أساس الرخاء
تحدد أسواق البضائع والخدمات، التي تعد أساس تكوين الثروة، مدى التخصص. ففي الأسواق المنظمة يواجه المنتجون بتكاليف متوقعة نسبيًّا للإنتاج، ويعتمد المستهلكون على مخزون متوقع نسبيًّا من البضائع المثمنة. وأنشطة السوق المكررة على نحو ثابت هذه فعالة بدرجة هائلة، حتى في علاقات السوق المعقدة للغاية التي تشهد المتاجرة في بضائع متعددة.
اكتشفنا أيضًا من خلال تجاربنا في الأسواق أن الناس ينكرون بشكل عام أن يستطيع أي نوع من النماذج التنبؤ بأسعارهم التجارية النهائية وحجم البضائع التي سيشترونها ويبيعونها. في حقيقة الأمر، لا تحتاج كفاءة السوق إلى عدد كبير من المشاركين، أو معلومات كاملة، أو إلمام بعلم الاقتصاد، أو أي تفاصيل معقدة بعينها. فعلى أي حال، لقد ظل الناس يتاجرون في الأسواق لوقت طويل قبل وجود أي علماء اقتصاد ليدرسوا عملية السوق. كل ما عليك معرفته هو متى حققت ربحًا أو متي منيت بخسارة، وهل تمتلك الفرصة لتعديل طريقة تصرفاتك.
إن السمة المميزة لأسواق البضائع والخدمات هي التنوع؛ تنوع الأذواق والمهارات البشرية والمعرفة والموارد الطبيعية والتربة والمناخ. لكن يؤدي وجود التنوع دون حرية تبادل إلى الفقر. فلا يوجد إنسان، حتى وإن كان يملك مهارة واحدة كبيرة أو موردًا وحيدًا وفيرًا، يستطيع تحقيق الرخاء دون تجارة. إننا نعتمد عن طريق الأسواق الحرة على أشخاص آخرين لا نعرفهم أو نتعرف عليهم أو حتى نفهمهم. ومن غير الأسواق سنصير فقراء وبائسين وهمج وجهلة دون أدني شك.
تتطلب الأسواق تطبيق قواعد التفاعل الاجتماعي والتبادل الاقتصادي بالتراضي. ولم يعبر أحد عن هذا الأمر أفضل من ديفيد هيوم منذ ٢٥٠ عامًا خلت حين قال إن هناك ثلاثة قوانين وحسب للطبيعة: حق الامتلاك، والتبادل بالتراضي، والوفاء بالوعود. هذه هي الأساسيات الجوهرية للنظام الذي يجعل الأسواق والرخاء أمورًا ممكنة التحقيق.
استمد هيوم قوانين الطبيعة الخاصة به من الوصايا القديمة: لا تسرق، لا تشتهي ما يملكه جارك، لا تشهد زورًا. ﻓ «السرقة» تستهلك الثروات وتثني البشر عن إعادة إنتاجها. واشتهاء أملاك الغير يدعو لوجود دولة قاهرة تعيد توزيع الثروة، مما يعرض محفزات إنتاج حصاد الغد للخطر. وتقوض شهادة الزور أساس المجتمع ومصداقية الإدارة وثقة المستثمر والربحية بعيدة المدى والتبادلات الشخصية التي تضفي علينا السمة البشرية.
وحدها الأسواق توفر السلع
يرتبط التطور الاقتصادي بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة التي ترعاها سيادة القانون وحقوق الملكية الخاصة. وقد فشلت الأنظمة الشمولية، أينما حاولت، في توفير السلع. إلا أن هناك أمثلة عديدة على دول كبيرة وصغيرة (من الصين إلى نيوزيلندا وأيرلندا) أزالت حكوماتها بعض معوقات الحرية الاقتصادية على الأقل، وشهدت هذه الدول نموًّا مذهلًا عن طريق السماح للناس بالسعي وراء تحسين حالتهم الاقتصادية.
أخذت الصين خطوات عظيمة على طريق الحرية الاقتصادية. ومنذ ما يربو على عام مضى عدلت الصين من دستورها لتسمح لشعبها بامتلاك الممتلكات الخاصة وبيعها وشرائها. لماذا؟ لأن إحدى المشكلات التي كانت تواجه حكومة الصين هي أن الناس يشترون الممتلكات ويبيعونها رغم عدم اعتراف الحكومة بمثل هذه المعاملات. دعا هذا المسئولين المحليين إلى أخذ الرشاوى ممن يتاجرون بالمخالفة للقانون. وبالاعتراف بحقوق الملكية تحاول الحكومة المركزية أن تزيل مصدر الطاقة التي تدعم الفساد البيروقراطي المحلي. يعتبر هذا التحول المؤسسي، كما أراه، وسيلة عملية للحد من الفساد المستشري بالحكومة والتدخل السياسي في التنمية الاقتصادية.
مع أن هذا التحول لم يأتِ نتيجة أي استعداد سياسي لتحقيق الحرية، فإنه قد يمهد الطريق جيدًا نحو الوصول للمجتمع الحر. وقد ظهرت منافع فورية بالفعل: إذ تستثمر حاليًّا ٢٧٦ شركة من الشركات اﻟ ٥٠٠ الكبرى بقائمة مجلة «فورتشن ٥٠٠» في وادي البحث والتطوير الهائل بالقرب من بكين، بفضل عقود الإيجار الممتدة لخمسين عامًا ذات البنود المرضية للغاية التي أعطتها لهم الحكومة الصينية.
تؤكد حالة أيرلندا على مبدأ أنه لا يجب أن تكون الدولة كبيرة حتى تحقق الثراء وذلك عن طريق استخدام سياسة اقتصادية حكومية تحررية. ففي الماضي كانت أيرلندا موردًا كبيرًا للثروة البشرية، وهو ما صب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى اللتين استقبلتا الكثير من المهاجرين الأيرلنديين اللامعين الهاربين من الظروف القاسية في بلدهم الأم. ومنذ عقدين فقط من الزمان كانت أيرلندا تعتبر من دول العالم الثالث الفقير، لكنها الآن تفوقت على مستعمرها السابق في متوسط دخل الفرد، وأصبحت دولة ذات ثقل بين دول الاتحاد الأوروبي. وطبقًا لإحصائيات البنك الدولي قفز معدل نمو أيرلندا لإجمالي الناتج القومي من ٣٫٢ بالمائة في الثمانينيات إلى ٧٫٨ بالمائة في التسعينيات، وأصبحت حديثًا ثامن أعلى دولة من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي على مستوى العالم، في حين احتلت المملكة المتحدة المركز الخامس عشر على مستوى العالم. عن طريق تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر (بما فيه من رأس المال المغامر) وتحسين الخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات، شهدت أيرلندا هجرة عكسية كبيرة للعقول؛ إذ يعود الشباب مرة أخرى إلى بلدهم الأم.
يعود هؤلاء الشباب إلى وطنهم مرة أخرى بسبب الفرص الجديدة التي توافرت بفضل التوسع في الحرية الاقتصادية. وهم خير مثال على رواد الأعمال المغامرين العازمين على تحقيق النجاح الذين يخلقون الثروة ويحسنون حالة البشر، ليس فقط في وطنهم، بل أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية وسائر دول العالم. تثبت قصص هؤلاء الأشخاص كيف يمكن تغيير السياسات الحكومية السيئة لخلق فرص اقتصادية جديدة من شأنها التصدي لنزيف العقول في الدولة.
لا يوجد ما نخافه
جزء رئيسي من عملية التغيير والنمو والتحسن الاقتصادي هو السماح لوظائف الماضي بالاندثار، كما حدث مع تكنولوجيا الماضي. فمنع الشركات المحلية من التعهيد — بمعنى إيكال جزء من أعمالها لشركات في دول أخرى بتكلفة أقل — لن يمنع المنافسين الأجانب من فعل الأمر نفسه. يستطيع المنافسون الأجانب أن يقللوا من تكاليفهم عن طريق التعهيد، ويستخدموا الوفورات في خفض الأسعار وتطوير التكنولوجيا التي يستخدمونها، وبهذا يحظون بميزة كبيرة في السوق.
أحد أكثر الأمثلة شهرة عن التعهيد كانت نقل صناعة النسيج من ولايات إقليم نيو إنجلاند إلى جنوب الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية بسبب انخفاض الأجور في الولايات الجنوبية. (كما كان متوقعًا، رفع هذا الأمر من الأجور في الولايات الجنوبية، وانتقلت الصناعة في نهاية المطاف إلى مصادر الثروة البشرية الرخيصة في آسيا.)
لكن لم تختفِ الوظائف في ولايات نيو إنجلاند، حيث استُبدلت بصناعة النسيج صناعات التكنولوجيا المتطورة: كقواعد البيانات الإلكترونية والتكنولوجيا الحيوية. أدى هذا إلى تحقيق نيو إنجلاند أرباحًا صافية هائلة رغم فقدانها ما كان في وقت ما صناعة مهمة. في عام ١٩٦٥ استحوذ وارين بافيت على شركة بيركشاير هاثاواي، إحدى شركات صناعة النسيج المتعثرة بولاية ماساتشوستس. استخدم بافيت التدفقات النقدية الكبيرة، ولكن المتناقصة، للشركة كمحطة انطلاق لإعادة استثمار المال في مجموعة من المشروعات المغامرة المقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية. حققت تلك الشركات نجاحًا طاغيًا، وبعد ٤٠ عامًا أصبحت شركة بافيت تملك رأس مال سوقيًّا قدره ١١٣ مليار دولار. يحدث الأمر عينه الآن مع شركتي كيه-مارت وسيرز روباك. لا شيء يدوم للأبد؛ فمع أفول الشركات القديمة تنتقل مواردها إلى شركات أخرى جديدة.
أجرى المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية للتو دراسة جديدة عن الاستثمار المحلي والأجنبي الذي تقوم به الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. أظهرت الدراسة أن هذه الشركات تستثمر ٣٫٥ دولار في الولايات المتحدة الأمريكية مقابل كل دولار تستثمره في الخارج، مما يثبت وجود علاقة تكاملية بين الاستثمار المحلي والخارجي؛ فعندما يزداد أحدهما، يزداد الآخر بالتبعية. وتقدر شركة ماكينزي وشركائه أنه مقابل كل دولار تستثمره الشركات الأمريكية في الهند، يذهب ١٫١٤ دولار لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية. ويعود حوالي نصف هذا الربح للمستثمرين والمستهلكين ويُنفَق معظم المبلغ المتبقي على توفير فرص عمل جديدة. على النقيض، في ألمانيا، يُنتِج كل يورو مستثمر في الخارج ٨٠٪ فقط من قيمته ربحًا للاقتصاد المحلى، وهو ما يرجع بالأساس إلى أن معدل إعادة توظيف العمال الألمان المسرحين من أعمالهم أقل بكثير بسبب عدد الضوابط الحكومية الهائل.
أعتقد أنه ما دامت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس قائمة الابتكار في العالم، فلا يوجد ما نخافه من التعهيد، بل علينا أن نخاف كثيرًا إذا نجح ساستنا في مقاومته. طبقًا لمعهد الاقتصاديات الدولية فإن أكثر من ١١٥ ألف وظيفة ذات أجر مرتفع في مجال البرمجيات قد خُلقت في الفترة ما بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٣، في حين ألغيت ٧٠ ألف وظيفة بسبب التعهيد. وبالمثل في قطاع الخدمات حلت ١٢ مليون وظيفة جديدة محل ١٠ مليون وظيفة قديمة. إن ظاهرة التغير التكنولوجي السريع والاستعاضة عن الوظائف القديمة بأخرى جديدة هي جوهر التطور الاقتصادي.
عن طريق العهد بالعمل إلى الدول الأجنبية، توفر الشركات الأمريكية المال الذي يمكنها من الاستثمار في التقنيات الجديدة والوظائف الجديدة حتى تحافظ على قدرتها التنافسية في السوق العالمية. ومع الأسف، لا يمكننا الاستمتاع بالفوائد دون تحمل بعض آلام التغيير. إن التغيير مؤلم دون شك؛ فهو مؤلم لمن خسروا وظائفهم ويجب عليهم أن يبحثوا عن مهن أخرى. وهو مؤلم لمن يخاطرون بالاستثمار في التقنيات الحديثة ويخسرون. لكن الفوائد التي يجنيها الناجحون ستخلق ثروات جديدة تفيد الاقتصاد ككل. هذه المنافع، بدورها، تُعَزَّز في السوق عن طريق عمليات الاكتشاف وخبرات التعلم التنافسية.
إن العولمة ليست بالأمر المستحدث؛ فهي كلمة حديثة تصف حركة إنسانية قديمة؛ كلمة تعبر عن سعي الجنس البشري لتحسين ظروفه عن طريق التبادل واتساع دائرة التخصص على مستوى العالم. إنها كلمة سلام. وكما قال عالم الاقتصاد الفرنسي العظيم فريدريك باستيات في عبارته الحكيمة: إذا لم تعبر السلع الحدود فسيعبرها الجنود.