مفارقة الأخلاقيات
بقلم ماو يوشي، (ترجمه للإنجليزية جود بلانشيت)
في هذا المقال يفسر الاقتصادي والمفكر ورائد الأعمال الاجتماعية الصيني ماو يوشي الدور الذي تلعبه الأسواق في إحداث التناغم والتعاون. وهو يكشف عن فوائد البحث عن الأسعار المنخفضة والأرباح من قبل مَن ينخرطون في عملية التبادل من خلال المقارنة بين سلوك «المصلحة الذاتية» هذا والتصورات الخيالية التي يقدمها منتقدو الرأسمالية. إنه يستقي أمثلته من التراث الأدبي الصيني ومن خبراته الخاصة (وخبرات ملايين الصينيين غيره) التي مر بها خلال تجربة الصين الكارثية لإلغاء الرأسمالية.
ماو يوشي هو مؤسس معهد يونيرول ورئيسه، ومقر المعهد في بكين بالصين. ألف ماو كتبًا عدة وكتب العديد من المقالات المتخصصة والمبسطة، كما درّس علم الاقتصاد بعدد من الجامعات وأسس بعضًا من أوائل المؤسسات الخيرية غير الحكومية ومؤسسات مساعدة الذات المستقلة في الصين، وهو معروف بوصفه مناصرًا شجاعًا للحرية. في خمسينيات القرن العشرين عوقب بالعمل بالسخرة وبالنفي و«إعادة التعليم» وكاد يلقى حتفه جوعًا لقوله: «إذا لم نجد مكانًا نشتري منه اللحم فينبغي أن ترتفع أسعار اللحم.» وقوله: «إذا أراد الرئيس ماو مقابلة أحد العلماء، فمن ينبغي أن يذهب إلى الآخر؟» وفي عام ٢٠١١، قبل طباعة هذا الكتاب مباشرة، كتب وهو في سن الثانية والثمانين مقالًا مبسطًا نُشر على موقع كايشين باسم «إعادة ماو تسي تونج إلى الشكل البشري»، تسبب هذا المقال في تلقيه تهديدات عدة بالقتل وأكسبه سمعة طيبة كصوت عظيم للأمانة والعدالة. ماو يوشي هو أحد أعظم الشخصيات المناصرة لليبرتارية في عالمنا المعاصر، وقد عمل دون كلل على نشر الأفكار الليبرتارية والحرية بين أفراد الشعب الصيني والعالم أجمع.
***
صراع المصالح في أرض السادة المهذبين
بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كتب المؤلف لي روزين رواية بعنوان «أزهار في المرآة». تصف الرواية شخصًا يدعى تانج آو يضطر بسبب نكسة في حياته المهنية إلى اتباع صهره في رحلة عبر البحار. وأثناء الرحلة يزوران عددًا كبيرًا من البلدان المختلفة التي تحتوي على مناظر وأصوات رائعة وعجيبة. وكان أول بلد يزورانه هو «أرض السادة المهذبين».
بعد أن عاين ناظر المزرعة مجموعة من السلع قال للبائع: «صديقي، لديك هنا بعض البضائع عالية القيمة، ومع هذا فثمنها بخس للغاية. كيف سأشعر بالراحة لو أنني استغللتك هكذا؟ إذا لم ترفع الثمن فستمنعنا من الشراء منك بعد اليوم.»
يرد البائع: «إن مجيئك إلى متجري هو منة تسديها إليّ. يقال إن البائع يطلب ثمنًا عاليًا كعلو السماء، ويرد المشتري بتقليل الثمن إلى الأرض. إن الثمن الذي أطلبه عالٍ كعلو السماء، ومع ذلك فأنت تطلب مني أن أرفعه أكثر. يصعب عليّ الموافقة على ذلك. من الأفضل أن تذهب لمتجر آخر لتشتري منه.»
يرد ناظر المزرعة، بعد أن يسمع رد البائع، بقوله: «لقد طلبت ثمنًا بخسًا لمثل هذه السلع عالية القيمة. ألن يعني هذا خسارتك؟ علينا أن نتصرف دون خداع وعلى نحو متزن. ألا يمكن أن يقال إن بداخل كل واحد منا عدادًا مغروسًا فيه على نحو فطري؟» وبعد الجدال لبعض الوقت يستمر إصرار البائع على عدم رفع الثمن، بينما يشتري ناظر المزرعة، وهو يشعر بالغضب، نصف السلع التي كان ينوي شراءها في الأصل. وبينما كان على وشك الرحيل، يقف البائع في طريقه. وهنا يتدخل رجلان عجوزان، وبعد تقدير الموقف يحكمان بأن يأخذ ناظر المزرعة ٨٠ بالمائة من البضائع ويرحل.
بعد ذلك تصف الرواية عملية بيع وشراء أخرى يرى فيها المشتري أن السعر المطلوب في البضاعة بخس للغاية لأن قيمتها عالية، بينما يصر البائع على أن البضاعة ليست طازجة وينبغي أن تُعتبر عادية. وفي النهاية يختار المشتري أسوأ البضائع التي يعرضها البائع، وهو ما يجعل الواقفون بالجوار يتهمونه بالظلم، وبالتالي يأخذ المشتري نصف احتياجاته من البضاعة عالية القيمة والنصف الآخر من البضاعة منخفضة القيمة. وفي عملية البيع والشراء التالية يبدأ الطرفان في التنازع أثناء تقييم وزن العملات الفضية وجودتها. فالمشتري الذي سيدفع بالعملات الفضية يؤكد أن عملاته ذات جودة منخفضة ووزنها منقوص، بينما يصر البائع الذي يتلقى العملات الفضية على أنها ذات جودة ووزن ممتازين. وبعد أن يغادر المشتري يجد البائع نفسه مضطرًّا لإعطاء العملات التي يرى أنها تزيد عما يستحقه إلى شحاذ قادم من بلد غريب.
ثمة نقطتان تثيرهما الرواية تستحقان المزيد من التدبر:
أولاهما: أنه حين يقرر كلا الطرفين التخلي عن نصيبه في الربح أو يصر على أن نصيبه في الربح مرتفع أكثر من اللازم، ينشب خلاف. في الحياة الواقعية تنشأ أغلب الخلافات من سعينا وراء مصالحنا الخاصة. ونتيجة لذلك عادة ما نقع في خطأ الافتراض بأننا لو أخذنا جانب الطرف الآخر، فلن يقع أي خلاف. لكن في أرض السادة المهذبين يمكننا أن نرى أن تبني مصالح الغير، كأساس لقراراتنا، يؤدي بدوره إلى نشوب الصراع، ونتيجة لذلك لا يزال علينا البحث عن أساس منطقي للمجتمع المتناغم المتجانس.
من النقطة السابقة يمكننا أن نرى أن البشر يستطيعون التعاون فقط حين يسعون وراء مصالحهم الخاصة. فهذا هو الأساس الآمن الذي تستطيع البشرية الوقوف عليه في صراعها من أجل الوصول إلى عالم مثالي. وإذا سعى كل بشري، على نحو مباشر وحصري، وراء مصلحة الآخرين، فسيستحيل تحقيق أي مثل من المثل العليا.
إذا استعنا بالواقع كنقطة بداية فسنجد أننا لكي نقلل الصراع سيتعين علينا جميعًا بطبيعة الحال أن نولي الاهتمام لإخوتنا من البشر، وأن نجد السبل لكبح رغباتنا الأنانية. لكن إذا صار الاهتمام بمصلحة الآخرين هو هدف جميع سلوكياتنا، فسينتج هذا الأثر عينه الذي وصفه لي روزين في أرض السادة المهذبين. هناك من قد يقول إن عناصر الحياة الهزلية المصورة في أرض السادة المهذبين يستحيل أن توجد في العالم الحقيقي، لكن كما تؤكد لنا الرواية، فإن لأحداث العالم الحقيقي وأحداث أرض السادة المهذبين أسبابًا مشابهة. بعبارة أخرى، يفتقد كل من العالم الحقيقي وأرض السادة المهذبين للوضوح حيال مبدأ السعي وراء المصلحة الذاتية.
ما دوافع سكان أرض السادة المهذبين؟ علينا أولًا أن نتساءل: «لماذا يرغب البشر في التبادل؟» سواء كان التبادل على الصورة البدائية لنظام المقايضة أو على الصورة الحديثة لمبادلة السلع بالنقود، فالدافع وراء التبادل هو تحسين حال الفرد، وإضفاء المزيد من الراحة والرفاهية على حياته. فبدون هذا الدافع لِمَ يختار الناس التبادل بدلًا من أن يكدح كل فرد في عمله؟! إن كل المتع المادية التي نتلقاها، من الإبر والخيط إلى الثلاجات والتليفزيونات الملونة، لا تتوافر إلا بالتبادل. وإذا كف الناس عن التبادل فلن يكون بمقدور أي شخص سوى زراعة الحبوب والقطن في الريف، وأن يستخدم الطوب اللبن في بناء المنازل، وأن يكافح كي ينتزع من التربة كل الأشياء التي يحتاجها للعيش. وبهذه الصورة كل ما سيقدر الفرد على عمله هو العيش عيشة الكفاف مثلما فعل أسلافنا لعشرات الآلاف من السنين. لكننا بالتأكيد لن نستمتع بأي من المنافع التي تقدمها لنا حضارتنا الحديثة اليوم.
إن سكان أرض السادة المهذبين لديهم بالفعل دولة وسوق، وهو ما يبين أنهم هجروا اقتصاد الاكتفاء الذاتي واختاروا السير على طريق التبادل من أجل تحسين ظروفهم المادية. في هذه الحالة، لماذا يرفضون التفكير في مصالحهم الخاصة عند الانخراط في معاملاتهم الاقتصادية؟ بطبيعة الحال، لو كان هدف التبادل من البداية هو تقليل مزايا الفرد وتعظيم مزايا الآخرين، فإن السلوك «المهذب» قد يكون له وجود. لكن كما يدرك أي شخص شارك في عمليات تبادل، أو له خبرة بها، فإن كلا طرفي التبادل يشترك فيه من أجل مصلحته الخاصة، بينما مَن يتصرفون على نحو مناقض لمصلحتهم الذاتية أثناء عملية التبادل يعانون تشوشًا في دوافعهم.
هل من المجدي تأسيس المجتمع على المنفعة المتبادلة دون التفاوض حول الثمن؟
من منظور المكاسب الاقتصادية يعد الالتزام العام بخدمة الآخرين أمرًا هدامًا. فمن ينجذبون لعرض خدمة الإصلاح المجاني من المرجح أنهم يحملون أشياء تالفة لا تستحق في واقع الأمر الإصلاح، بل ربما تكون آتية مباشرة من القمامة. لكن لأن سعر إصلاح هذه الأشياء أصبح الآن يساوي صفرًا، فإن الوقت القليل المخصص لإصلاحها سيزيد، والأمر عينه ينطبق على الخامات الشحيحة المستخدمة في إصلاحها. وبما أن عبء إصلاح هذه الأشياء يقع على عاتق الغير، تكون التكلفة الوحيدة التي سيتحملها الشخص العادي الساعي للحصول على إصلاح مجاني هو الوقت المستغرق في الوقوف في الطابور. من منظور المجتمع ككل، فإن كل الوقت والجهد والخامات المستهلكة في إصلاح هذه الأشياء التالفة سينتج عنه قدور وأوانٍ تكاد تكون غير صالحة للاستخدام. وبدلًا من ذلك، إذا سُخر الوقت والخامات في أنشطة أكثر إنتاجية، فسيخلق هذا قيمة أكثر للمجتمع بكل تأكيد. ومن منظور الكفاءة الاقتصادية والمصلحة العام، فإن أعمال الإصلاح الإلزامية التي تتم دون مقابل ستكون أضرارها أكثر من فوائدها.
والأدهى من ذلك أنه لو عرض تابع آخر عطوف القلب للي فينج أن يقف في الطابور مكان أحد الأشخاص الذين يحملون القدور وينتظرون خدمات الإصلاح، وبالتالي يوفر على الشخص المسكين مشقة الانتظار، فإن طابور الواقفين المنتظرين إصلاح أشيائهم سيصير أطول. سيكون هذا في الواقع منظرًا عبثيًّا، تقف فيه مجموعة في طابور حتى يتسنى لمجموعة أخرى ألا تقف هي. مثل هذا النظام من الالتزام يفترض مسبقًا وجود مجموعة مستعدة لتلقي الخدمة كشرط مسبق. ويستحيل أن تكون أخلاقيات الخدمة هذه عامة. ومن الجلي أن من يفاخرون بسمو مثل هذا النظام للخدمة المتبادلة دون ثمن لم يفكروا في الأمر جيدًا.
والالتزام بإصلاح أغراض الآخرين مجانًا أمر له نتيجة أخرى غير متوقعة. فإذا فاق عدد أتباع لي فينج من يعملون في مهنة الإصلاح، فسيفقد هؤلاء العاملون وظائفهم ويعانون كثيرًا.
إنني لا أعارض بأي صورة دراسة لي فينج؛ إذ إنه ساعد المحتاجين، وهو نشاط إيجابي للمجتمع، بل ضروري أيضًا. لكن الاشتراط بأن تكون خدمة الآخرين أمرًا ملزمًا يتسبب في عدم التجانس والفوضى ويشوه الروح التطوعية للي فينج.
في مجتمعنا يوجد أشخاص مولعون بالانتقاد، وهم يمقتون المجتمع الذي، وفق تقديرهم، يعلي من قيمة المال فوق أي شيء آخر. إنهم يظنون أن مَن يملكون المال أشخاص لا يطاقون وأن الأغنياء يرون أنفسهم في منزلة أعلى من بقية المجتمع، بينما يعاني الفقراء من أجل البشرية. إنهم يؤمنون بأن المال يشوه العلاقات الطبيعية بين البشر. ونتيجة لذلك هم يرغبون في خلق مجتمع قائم على الخدمات المتبادلة، خال من أي حديث عن المال أو الأسعار. في مثل هذا المجتمع سيزرع الفلاحون الطعام دون تفكير في العوائد، ويحيك العمال الملابس للجميع، أيضًا دون انتظار لعائد، ويقص الحلاقون الشعر دون مقابل … إلخ. هل هذا المجتمع المثالي عملي؟
للإجابة على ذلك نحن بحاجة للعودة إلى النظرية الاقتصادية الخاصة بتخصيص الموارد، التي تتطلب منا الانحراف عن موضوعنا قليلًا. ولتسهيل الأمر يمكننا البدء بتجربة فكرية. فكر في عمل الحلاق. في الوقت الحالي يقص الرجال شعرهم كل ثلاثة إلى أربعة أسابيع، لكن لو كان قص الشعر مجانيًّا، قد يذهبون للحلاق كل أسبوع. إن تقاضي المال مقابل قص الشعر يحقق استفادة أفضل من عمل الحلاق. وفي السوق يحدد ثمن الخدمات التي يقدمها الحلاق حصة العمالة المخصصة لهذه المهنة. فإذا جعلت الدولة سعر قص الشعر منخفضًا فسيزيد بالتالي عدد من يسعون لقص شعرهم، وبالتبعية ستكون هناك حاجة لزيادة عدد الحلاقين، ويتحتم تقليل الوظائف الأخرى إذا أردنا الحفاظ على قوة العمل الإجمالية ثابتة. وما ينطبق على الحلاقين ينطبق بالمثل على المهن الأخرى.
في العديد من المناطق الريفية بالصين من الشائع تقديم خدمات مجانية. فإذا أراد أحدهم بناء منزل جديد يذهب أصدقاؤه وأقرباؤه لمساعدته في عملية البناء. وعادة ما يتم هذا دون أجر، عدا الوجبات الكبيرة المقدمة لمن مدوا يد العون. وفي المرة التالية التي يبني فيها أحد أصدقاء الشخص المستفيد منزلًا، يقدم من استفاد من قبل عمله المجاني كنوع من رد الجميل. وكثيرًا ما يصلح رجال التصليح الأجهزة الكهربية دون تلقي أموال مقابل ذلك، ويتوقعون فقط الحصول على هدية خلال إجازة رأس السنة الصينية كنوع من التعويض. مثل هذه التبادلات غير المالية لا يمكنها أن تقيس بدقة قيمة الخدمات المقدمة. وبالتالي، لا تُطوَّر قيمة العمل على النحو الفعال، ولا يتم التشجيع على تقسيم العمل في المجتمع. يلعب المال والأسعار دورًا مهمًّا في تطور المجتمع. لا ينبغي أن يأمل أحد في أن يحل المال محل مشاعر مثل الحب والصداقة، لكن لا يعني هذا أن الحب أو الصداقة يمكنهما أن يحلا محل المال. إننا لا نستطيع الاستغناء عن المال لمجرد أننا نخشى أنه سيتسبب في تآكل روابط المشاعر البشرية. في الواقع، تعد الأسعار المعبر عنها بالمال الطريقة الوحيدة المتاحة لتحديد الكيفية التي نخصص بها الموارد لأعلى الاستخدامات قيمة. وإذا حافظنا على كل من الأسعار المالية وأسمى مشاعرنا وقيمنا، نستطيع أن نأمل في بناء مجتمع يتسم بالكفاءة والإنسانية في الوقت ذاته.
توازن المصالح الذاتية
افترض أن شخصين، (أ) و(ب)، يريدان اقتسام تفاحتين كي يتناولاهما. يبادر الشخص (أ) بالتحرك أولًا ويمسك بالتفاحة الأكبر. يسأله الشخص (ب) في ضيق: «كيف لك أن تكون بمثل هذه الأنانية؟» وهنا يرد (أ) بقوله: «إذا بادرت أنت بأخذ التفاحة أولًا، أي التفاحتين كنت ستختار؟» يرد (ب): «كنت سآخذ التفاحة الأصغر»، هنا يرد (أ) ضاحكًا: «في هذه الحالة يتماشى اختياري تمامًا مع رغباتك.»
في هذا السيناريو يستغل الطرف (أ) الطرف (ب)؛ لأن (ب) كان يتبع مبدأ «وضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتي»، بينما لم يتبع الطرف (أ) المبدأ نفسه. وإذا اتبعت شريحة من المجتمع هذا المبدأ بينما لم تتبعه الشرائح الأخرى، فمن المؤكد أن هذه الشريحة ستعاني خسائر بينما يحقق الباقون المكاسب. وإذا استمر ذلك الوضع دون رقابة، فمن المحتم أن يؤدي إلى صراع. ومن الواضح أنه لو قدم البعض مصلحة الغير على مصلحتهم، فلن يولد مثل هذا النظام سوى الصراع والفوضى.
وإذا سعى كل طرف من الطرفين، (أ) و(ب)، وراء مصلحة الطرف الآخر، سيكون من المستحيل حل مشكلة التفاحتين سالفة الذكر. فسيسعى كلاهما لتناول التفاحة الأصغر، وهنا ستنشأ مشكلة جديدة، مماثلة للمشكلة التي شهدناها في أرض السادة المهذبين. وما ينطبق على الطرفين (أ) و(ب) ينطبق على الجميع. فإذا كان المجتمع كله، باستثناء شخص واحد، يتبع مبدأ إفادة الآخرين بحذافيره، فسيكون المجتمع ككل في خدمة رغبات هذا الشخص، ومن الممكن منطقيًّا وجود مثل هذا المجتمع. لكن لو أن هذا الشخص اتبع هو الآخر المبدأ المذكور أعلاه والخاص بخدمة الآخرين، فسيتوقف المجتمع عن الوجود كمجتمع؛ أي كنظام للتعاون. إن مبدأ خدمة الآخرين لن يجدي إلا في حالة تفويض مهمة الاعتناء بمصالح المجتمع ككل إلى آخرين. لكن من منظور الكوكب بأسره، سيكون هذا مستحيلًا، إلا إذا أمكن تفويض مهمة الاعتناء بمصالح سكان كوكبنا إلى القمر.
سبب هذا التضارب هو أنه من وجهة نظر المجتمع ككل، لا فارق بين «الآخرين» وبين «الذات». بطبيعة الحال من منظور أي فرد بعينه فإن «ذاته» هي «ذاته»، بينما «الآخرون» هم «آخرون» ولا ينبغي الخلط بين الاثنين. ومع ذلك، من المنظور المجتمعي، كل شخص هو «ذاته» و«آخر» في الوقت عينه. وعند تطبيق مبدأ «خدمة الآخرين قبل خدمة الذات» على الشخص (أ)، على هذا الشخص أن يفكر أولًا في مكاسب وخسائر الآخرين. لكن حين يجري تبني المبدأ عينه من قبل الشخص (ب)، يصير الشخص (أ) هو الشخص الذي توضع مصالحه في الأولوية. وبالنسبة لأفراد المجتمع نفسه، فإن قضية «هل ينبغي عليهم التفكير في الآخرين أولًا أم ينبغي على الآخرين التفكير فيهم أولًا» تقود مباشرة إلى الحيرة والتناقض. ولهذا يصير مبدأ الإيثار في هذا السياق متضاربًا ومتناقضًا من الناحية المنطقية، وبهذا سيعجز عن حل أي مشكلات قد تعتري العلاقات الإنسانية. لا يعني هذا بالتأكيد أن الروح التي تحركهم لا تستحق الإطراء، أو أن مثل هذا السلوك المراعي للغير غير جدير بالثناء، وإنما يعني أنه لا يمكن أن يوفر أساسًا عامًّا يسعى أفراد المجتمع لتأمين مصالحهم المتبادلة بواسطته.
سيذكر كل من عاش خلال فترة الثورة الثقافية أنه حين كان الشعار «كافح ضد الأنانية، انتقد التعديلية» يتردد في أرجاء البلاد، كان عدد المتآمرين والوصوليين في ذروته. في ذلك الوقت آمن أغلب العامة من الشعب الصيني بأن الشعار «كافح ضد الأنانية، انتقد التعديلية» يمكن أن يكون ناموسًا مجتمعيًّا، ونتيجة لذلك بذلوا قصارى جهدهم لتطبيق قواعده الناقدة. في ذلك الوقت استخدم الانتهازيون هذا الشعار كوسيلة لاستغلال الآخرين. فقد سخروا الحملة ضد الاستغلال مبررًا للإغارة على منازل الآخرين ووضع ممتلكات الآخرين في جيوبهم. طلبوا من الآخرين التخلي عن الأنانية وأن يعترفوا، لمصلحة الثورة، بأنهم خونة أو جواسيس أو معادون للثورة، وبالتالي أضافوا نقطة إلى سجل عيوبهم. ودون تفكير كان هؤلاء الانتهازيون يضعون الآخرين في السجون كي يؤمنوا لأنفسهم منصبًا حكوميًّا رسميًّا. حتى هنا، حلّلنا المشكلات النظرية التي تعتري مبدأ «خدمة الآخرين قبل خدمة الذات»، لكن تاريخ الثورة الثقافية يثبت لنا أيضًا مدى تناقض هذا المبدأ حين يجري تطبيقه عمليًّا.
أصبحت الثورة الثقافية نسيًا منسيًّا، لكن علينا أن نذكر أنه في ذلك الوقت خضعت كل الشعارات للنقد والتدقيق. لم يعد الحال كذلك؛ إذ يبدو أن مسألة تحديد المبدأ الأنسب عند التعامل مع مشكلات المجتمع لم تعد محل تدقيق. ولا نزال نستخدم الدعاية القديمة لحث الناس على حل الخلافات، وحتى حين تُنظر القضايا في المحاكم، فإن تلك الطرق التي عفا عليها الزمان لا تزال تتمتع بقدر كبير من التأثير.
لا ريب أن القراء المتمرسين بالتجارب الفكرية سيكون لديهم أسئلة إضافية يسألونها عن القضية سالفة الذكر والخاصة بتوزيع التفاحتين على الشخصين. فإذا اتفقنا على أن مبدأ «خدمة الآخرين قبل خدمة الذات» لن يصلح كقاعدة لحل مشكلة التوزيع الأمثل للتفاحتين، فهل يعني هذا أنه لا يوجد سبيل أفضل لحلها؟ تذكر أن هناك تفاحة كبيرة وأخرى صغيرة، وأن هناك شخصين فقط يشتركان في عملية التوزيع. هل يعقل أن يعجز حتى الخالدون الصينيون الأسطوريون عن التوصل لحل ملائم؟
في مجتمع التبادل من الممكن حل الإشكالية المذكورة سابقًا. فمن الممكن أن يتشاور الشخصان أولًا أحدهما مع الآخر من أجل حل هذه المعضلة. على سبيل المثال، يمكن أن يأخذ الطرف (أ) التفاحة الأكبر، على أن يتفق الطرفان أنه في المرة التالية سيأخذ الطرف (ب) التفاحة الأكبر، أو من الممكن أن يتلقى الطرف (ب) نوعًا من التعويض مقابل حصول (أ) على التفاحة الأكبر. قد يساعد التعويض المالي على حل المشكلة؛ ففي أي مجتمع يستخدم المال، من المؤكد أن أطرافًا عدة ستكون مستعدة لاستخدام الطريقة الأخيرة. بداية بمبلغ متواضع (لنقل سنت واحد)، يمكن زيادة المبلغ تدريجيًّا إلى أن يكون الطرف الآخر مستعدًّا للقبول بالتفاحة الصغيرة إضافة إلى مبلغ التعويض. فإذا كان المبلغ المبدئي صغيرًا للغاية، يمكننا الافتراض بأن كلا الطرفين سيفضل أن يأخذ التفاحة الأكبر وأن يدفع مبلغ التعويض الهزيل. لكن مع زيادة مبلغ التعويض سنصل إلى نقطة يقبل عندها أحد الطرفين بالتفاحة الأصغر إضافة إلى التعويض. ويمكننا القول بكل تأكيد إنه لو قيّم كلا الطرفين المشكلة على نحو منطقي، فسيعثر على وسيلة لحل الخلاف. وهذه إحدى الطرق السلمية لحل مشكلة تعارض مصلحتي الطرفين.
بعد ثلاثين عامًا من الإصلاح والانفتاح بالصين، أثيرت مسألة الثروة والفقر مجددًا، في ظل الحقد المتزايد على طبقة الأغنياء كل يوم. وخلال الفترة التي كان التركيز فيها منصبًّا على الصراع الطبقي، وذلك في بداية كل حركة عظمى، كانت معاناة الماضي تُقارَن بسعادة الحاضر. كان مجتمع الماضي محل اتهام، واستُخدمت عمليات الاستغلال التي جرت به في السابق بذرة لحشد كراهية الشعب. وحين بدأت الثورة الثقافية في عام ١٩٦٦ (وهي الحركة المقصود منها الخلاص من كل شرور النظام الطبقي القديم)، دُفن أحفاد ملاك الأراضي في مناطق عديدة أحياء، مع أن أغلب ملاك الأراضي أنفسهم كانوا ميتين بالفعل. لم يُرحم أحد؛ لا الكبير ولا الصغير، ولا حتى النساء أو الأطفال. يقول الناس إنه مثلما يوجد حب بلا سبب، توجد بالمثل كراهية بلا مبرر. من أين أتت روح الحقد الموجهة نحو أطفال ملاك الأراضي هذه؟ جاءت من الاعتقاد الانفعالي بأن أحفاد طبقة ملاك الأراضي اعتمدوا على الاستغلال من أجل إيجاد مكانهم في العالم. واليوم صارت الفجوة بين الأغنياء والفقراء أكثر وضوحًا. ومع أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن البعض استخدم وسائل غير قانونية لكسب الثروة، فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في أي مجتمع هي ظاهرة يستحيل تجنبها. وحتى في الدول المتقدمة التي تكون فيها السبل غير الشرعية محدودة للغاية، من المعتاد وجود فجوة بين الأغنياء والفقراء.
إن المنطق القائم وراء السخط على الأغنياء منطق واه متصدع. فإذا كان المرء ساخطًا على الأغنياء لأنه لم يصر بعد واحدًا منهم، فستكون الاستراتيجية المثلى التي يمكنه تبنيها هي أن يطيح بالأغنياء أولًا، ثم ينتظر حتى يأتي الوقت الذي يحقق هو نفسه فيه الثراء، وبعد هذا يمكنه التحول لتأييد حماية حقوق الأغنياء. بالنسبة لمجموعة معينة من الأشخاص، تعد هذه أكثر السبل عقلانية للارتقاء. لكن بالنسبة للمجتمع ككل، ما من سبيل لتنسيق هذه العملية بحيث يستطيع كل أفراد المجتمع تحقيق الثراء بالسرعة نفسها. فالبعض سيصيرون أثرياءً قبل غيرهم، وإذا انتظرنا حتى يصبح الجميع أثرياء بالمعدل نفسه، فلن يحقق أحد الثراء أبدًا. إن معارضة الأغنياء ليس لها ما يبررها؛ لأن الفقراء لن يحصلوا على فرصة أن يصبحوا أغنياء إلا إذا كانت الحقوق التي تمكن أي شخص — وكل شخص — من كسب الثروة مضمونة، وإذا كانت ثمار جهد الفرد لا تُنتهك، وإذا كانت حقوق الملكية محل احترام. والمجتمع الذي يحقق فيه المزيد والمزيد من الأشخاص الثراء ويتفقون على أنه «من الرائع أن تصير غنيًّا» هو في الحقيقة مجتمع يمكن بناؤه بالفعل.
كتب العالم الصيني لي مينج ذات مرة يقول: إن تقسيم البشر إلى فئتين، «أغنياء» و«فقراء»، هو السبيل الخطأ للتفريق بين الاثنين. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن ينقسم البشر إلى «من يملكون» حقوقًا و«من لا يملكون» حقوقًا. وما يعنيه هو أنه في المجتمع الحديث تكون مسألة الغنى والفقر مسألة حقوق بالأساس. فالأغنياء وصلوا لما هم فيه لأن لهم حقوقًا، بينما الفقراء محرومون من حقوقهم. وما يعنيه بالحقوق هو حقوق الإنسان، وليس الامتيازات؛ فالامتيازات لا تتاح إلا لقلة قليلة من البشر. فإذا أردنا حلًّا لقضية الأغنياء والفقراء، فعلينا أولًا إرساء حقوق إنسان متساوية للجميع. إن تحليل لي مينج عميق وشامل.