المنطق الأخلاقي للمساواة وعدم المساواة في مجتمع السوق

بقلم ليونيد في نيكونوف

في هذا المقال يُخضع الفيلسوف الروسي ليونيد نيكونوف فكرة «المساواة» في التبادل لدراسة نقدية وافية، ويجد أن معظم الانتقادات المعارضة للرأسمالية التي تعتمد على مطالبات المساواة، سواء من حيث الهبة المبدئية أو القيم أو النتائج، غير منطقية.

يعمل ليونيد نيكونوف محاضرًا للفلسفة في جامعة ألتاي الحكومية في بارناول، في روسيا، حيث يُدرّس مقررات الفلسفة الاجتماعية وعلم الوجود ونظرية المعرفة وفلسفة الدين. ويعمل نيكونوف حاليًّا على مشروع كتاب عن «المقاييس الأخلاقية لليبرالية»، وقد نُشرت له مقالات في عدد من الإصدارات الأكاديمية الروسية. وفي عام ٢٠١٠ أسس مركز فلسفة الحرية وصار مديرًا له، وهذا المركز ينظم مؤتمرات ومسابقات ومناظرات وبرامج أخرى في كل من روسيا وكازاخستان. وقد انخرط أكثر في هذا العمل بعدما فاز بالجائزة الأولى في مسابقة المقال لعام ٢٠٠٧ (في روسيا) عن «الرأسمالية العالمية والحرية الإنسانية»، التي رعت مؤسسة طلاب من أجل الحرية مسابقة مشابهة لها عام ٢٠١١، وحضر الدورة الصيفية عن الحرية في ألوشتا بأوكرانيا (نُظم البرنامج وقتها بمسمى Cato.ru، ويُعرف الآن ﺑ InLiberty.ru). وفي عام ٢٠١١ دُعي نيكونوف لينضم إلى جمعية مونت بيليرين، التي تأسست عام ١٩٤٧ على يد ٣٩ عالمًا بغرض إحياء الفكر الليبرالي الكلاسيكي، كأصغر أعضائها.

***

ليس من الضروري أن تحقق الأسواق نتائج متساوية، ولا هي تتطلب هبات متساوية. وهذه ليست مجرد تكلفة مؤسفة لوجود السوق؛ فعدم المساواة ليست نتاجًا طبيعيًّا للتبادل السوقي وحسب، بل هي شرط ضروري للتبادل، ومن دونه لن يكون للتبادل معنى. إن توقع أن ينتج عن التبادلات السوقية مساواة، وبالتالي ينتج عنها مجتمعات تكون ثرواتها مقسمة بين أرجاء السوق، ليس إلا عبثًا. تعد الحقوق الأساسية المتساوية، ومن بينها المساواة في حرية التبادل، شرطًا ضروريًّا لوجود الأسواق الحرة، لكن لا يجب أن ننتظر من الأسواق الحرة أن تحقق نتائج متساوية، أو أن تقوم على تساوي ظروف أخرى عدا الحقوق القانونية.

قد يشير مفهوم التبادل المتساوي إلى مساواة الهبات المبدئية أو مساواة النتائج. وإذا كان المعنى الأول هو المقصود، فوحدها الأطراف المتساوية في كل جانب له صلة يمكنها أن تشارك في التبادل المتساوي؛ إذ إن أي اختلاف سيخل بمساواة التبادل، ولهذا السبب يرفض البعض عقود العمل بين أصحاب العمل والموظفين ويعدونها غير متكافئة (وبالتالي ظالمة). وإذا كان المعنى الثاني هو المقصود، فقد يعني هذا أن القيم المتساوية يجري تبادلها، أو أن نتائج التبادل متساوية في قيمتها. على سبيل المثال، إذا جرى تبادل كمية البضائع نفسها ذات الجودة المتماثلة من طرف لآخر، فقد يستوفي حينها التبادل شروط المساواة. تخيل مشهدًا سرياليًّا تتبادل فيه هيئتان بشريتان متماثلتان تمامًا (أي خاليتان من أي فروق شخصية ذات صلة تعبر عن عدم المساواة)، أشياء متماثلة فيما بينهما. بصرف النظر عن شعور النفور الذي سينتابنا من هذه الصورة غير الطبيعية، فإن الحس المنطقي نفسه سيخبرنا بأن فكرة «التبادل» المتساوي تقوم على تناقض عميق. فمثل هذا التبادل لن يغير أي شيء، ولن يحسن موقف أي من الطرفين، بمعنى أن كلا الطرفين لا يمتلك سببًا للقيام بهذا التبادل من الأساس. (أصر كارل ماركس على أن التبادلات التي تجري في الأسواق تعتمد على تبادل القيم المتساوية، الأمر الذي نتج عنه نظرية اقتصادية تافهة وغير منطقية.) إن تأسيس التبادل السوقي على مبدأ المساواة يجرد التبادل من سببه الجوهري، وهو جعل الأطراف المشاركة في التبادل في حال أفضل. تقوم اقتصاديات التبادل على إقرار أطراف التبادل بعدم المساواة في تقييم البضائع والخدمات التي يجري تبادلها.

ومع ذلك، من المنظور الأخلاقي، قد تروق فكرة المساواة في نظر البعض. فالسمة الشائعة لكثير من الأحكام الأخلاقية هي أنها تُشكل وفق منطق الواجبات فقط. فهي معنية فقط بما يجب فعله، بصرف النظر عن المنطق الاقتصادي أو عما هو موجود أو حتى عما سيوجد بسبب ما يجب فعله (كما يمكننا أن نؤكد). يرى إيمانويل كانط، على سبيل المثال، أن وجود الواجب يتطلب تحقيقه، بصرف النظر عن نتائج ما يجب فعله وعواقبه وحتى إمكانياته. فالقول بوجوب فعل شيء ما يعني إمكانية فعله. لذا، حتى وإن كانت مساواة التبادل هذه منافية للعقل من المنظور الاقتصادي، فإنها قد تظل قائمة كمفهوم أخلاقي (وهي كذلك بالفعل).

تعتبر المساواة كقضية أخلاقية أمرًا معقدًا إلى حد ما. ويمكننا أن نفرق بين وجهات النظر التي يكون اهتمامها المسيطر هو تحقيق المساواة وتلك التي لا تهتم بذلك، وبناءً على ذلك يُطلَق على الأولى وجهات النظر المنادية بالمساواتية والثانية وجهات النظر المنادية باللامساواتية. المنادون باللامساواتية لا يؤكدون بالضرورة على أن المساواة أمر غير مستحب، ولا هم بحاجة للتأكيد على أن عدم المساواة أمر مستحب، بل هم فقط يرفضون تركيز المنادين بالمساواتية على نحو حصري على المساواة كهدف، خاصة التركيز على ضمان مساواة الثروة المادية، لدرجة إقصاء الأهداف الأخرى. يؤكد الليبراليون الكلاسيكيون (أو الليبرتاريون) المنادون باللامساواتية على أهمية نوع معين من المساواة، وتحديدًا، المساواة في الحقوق الأساسية، وهو النوع الذي يعتقدون أنه يتعارض مع مساواة النتائج، لذا يمكن اعتبارهم من المنادين بالمساواتية لكن من نوع آخر. (تعد المساواة في الحقوق أساس كثير من خبرات القانون والملكية والتسامح حتى إن شعوب المجتمعات الحديثة والحرة تأخذها كأمر مسلم به.) يدافع الليبرتاريون المنادون باللامساواتية والليبراليون الكلاسيكيون عن نظرتهم بوصفها أنقى أنواع المساواة أو أكثرها اتساقًا أو أكثرها استدامة، لكن المدافعين عن المساواة في «توزيع» الثروة عادة ما يزعمون أن مثل هذه المساواة التي ينادي بها الليبرتاريون مجرد مساواة شكلية؛ مساواة في الكلمات، لا الأفعال. (وهم محقون في هذا؛ فالمساواة أمام القانون معنية أكثر بما يعتقده الناس وكيف يتصرفون، وليس بحالات واقعية قابلة للوصف أو توزيعات ثابتة للأصول. ويعتمد كون تلك المقاربة الخاصة بالمساواة شكلية لا أكثر، وليست واقعية، على الكيفية التي ينظر بها المرء لأهمية الإجراءات القانونية ومعايير السلوك.)

ليس من المستغرب أن تُناقَش المسائل الفلسفية الصعبة بنشاط وحماس قبل أن تُصاغ بوضوح أو تُطرح على نحو ملائم. فقد اقترح فلاسفة الشرق والغرب المذاهب الأخلاقية قبل أن يوجد كثير من التحليل المنهجي للأحكام التي تخص الواجب والمنطق اللفظي بآلاف السنين. بدأ هذا العمل على نحو جدي على يد ديفيد هيوم، وتبعه إيمانويل كانط، ثم لاحقًا على يد الفلاسفة الوضعيين أمثال جورج مور وألفريد آير وريتشارد هير وآخرين، ولا يزال البحث في منطق الواجب والمنطق اللفظي جاريًا حتى وقتنا الحالي. ومع أن النزاع بين المنادين بالمساواتية والمنادين باللامساواتية ليس مقصورًا وحسب على التفكير في العلاقة المنطقية الملائمة بين المساواة والأخلاقيات، فإن فهم العلاقة بين المساواة والأخلاقيات قد يسهم على نحو قيم في الجدل المحتدم — المستمر حتى الآن — حول هل إعادة التوزيع الإجبارية للثروة غير المتساوية الناتجة عن التبادل السوقي أمر مطلوب أم مرفوض من الناحية الأخلاقية. (وهذه قضية منفصلة عما إذا كانت الموارد التي سُرقت من ملاكها الشرعيين، سواء بواسطة حكام الدول أو بواسطة مجرمين «مستقلين»، يجب أن تعود إلى من سُلبت منهم.)

دعونا نفكر في مشكلة أخلاقيات المساواة عن طريق طرح سؤال بسيط: لماذا تتفوق المساواة، سواءً كانت مساواة الهبات المبدئية أو النتائج، أخلاقيًّا على عدم المساواة (أو العكس)؟ تتطلب المحاولة الصادقة للوصول لحل أخلاقي لهذا النزاع أن يُطرح مثل هذا السؤال المباشر على كل من المنادين بالمساواتية والمنادين باللامساواتية.

إن نطاق الإجابات الممكنة محدود. قد يحاول المرء في البداية أن يبرهن على أن نسبًا عددية معينة (خاصة بالمساواة أو عدم المساواة) أفضل من غيرها. على سبيل المثال، تكون نسبة المتغير (س) إلى المتغير (ص) أعلى من الناحية الأخلاقية إذا كانت قيمتا المتغيرين متساويتين، وتكون أدنى من الناحية الأخلاقية إذا لم تكن كذلك؛ بمعنى أن النسبة «١ : ١» أعلى أخلاقيًّا من النسبة «١ : ٢» (وبالتأكيد أعلى من النسبة «١ : ١٠»). ومع ما قد يبدو عليه هذا الموقف من وضوح بديهي، فإن قضية السمات الأخلاقية ليس من السهل حسمها. فالقيم لا تُشتق من واقع النسب الرياضية، التي تعتبر بطبيعتها محايدة أخلاقيًّا. ومن التعسف أن نؤكد على رفعة إحدى النسب الرياضية على نسبة أخرى، مثلما فعلت الممارسات الفيثاغورثية العجيبة التي صنفت الأرقام إلى ذكور وإناث وودودة وكاملة وناقصة وهكذا.

بدلًا من توجيه الاهتمام لمساواة الهبات المبدئية أو نتائج التبادل، قد يكون من المنطقي أكثر أن نركز الاهتمام على مساواة منزلة الفرد الأخلاقية الشخصية، أو عدم مساواتها، كأساس لتقييم العلاقات (بما فيها التبادلات) بين الأشخاص. وعلى هذا، لا يملك أي شخص منزلة أخلاقية أعلى (أو أدنى) من أي شخص آخر، أو، بدلًا من ذلك، قد يكون بعض الأشخاص أعلى أخلاقيًّا (أو أدنى) من أشخاص آخرين. على مثل هذا الأساس قد يخلص المرء إلى أن الإصرار على مساواة الهبات المبدئية أو النتائج قد يكون أمرًا مستحبًّا أو غير مستحب. قد تتفق كلتا وجهتي النظر على إعادة التوزيع الإجباري للثروة، سواء للخلاص من عدم المساواة أو إقرارها، وفي كلتا الحالتين سيدور الجدل حول المنزلة الأخلاقية للطرفين، بصرف النظر عن الفجوة المفاهيمية التي يستحيل رأبها بين فكرة المنزلة الأخلاقية نفسها والمواقف الواقعية التي تواجه الناس.

بصياغة القضية على هذه الصورة يكون السؤال المحوري هو السؤال عن العلاقات بين منزلة البشر الأخلاقية من جانب، وجودة أو كمية أو قيمة البضائع التي يحصل عليها الشخص من جانب آخر. وهكذا يمكننا المتابعة بطرح سؤال عن سبب وجوب أن يشرب شخصان متساويان من الناحية الأخلاقية القهوة بالكمية، أو الجودة أو القيمة، نفسها في الصباح؟ أو عن وجوب امتلاك الرجل الكريم وجاره البخيل — وكلاهما على المكانة الأخلاقية نفسها — بساتين مزدهرة متساوية تنتج محاصيل متساوية القيمة من عدمه؟ لا يبدو أن المنزلة الأخلاقية المتساوية لها علاقة واضحة بتساوي الهبات، أو الاستهلاك أو الممتلكات. تصور العلاقة بين لاعبي شطرنج، كلاهما متساويان في المكانة الأخلاقية؛ هل تقتضي مكانتهما الأخلاقية أن يملكا المهارات نفسها، أو أن تنتهي كل مباراة بينهما بالتعادل؟ أم هل تقتضي أن يلعبا بالقواعد نفسها، وهي الحقيقة التي لن تفرض قط أن تنتهي المباريات بينهما بالتعادل. لا توجد صلة مباشرة بين المنزلة الأخلاقية المتساوية والهبات المبدئية أو النتائج المحددة.

إذا ركزنا على السلوكيات والقواعد بدلًا من الهبات أو النتائج، فسنجد أن المواقف تحكمها سلوكيات البشر، واختيارهم، ونواياهم (في الحالات الإجرامية تحديدًا). إن مقدار المال الموجود في جيب أحد الأشخاص وهل يزيد أو يقل عن مقدار المال الموجود في جيب جاره ليس عنصرًا ذا دلالة أخلاقية في الحياة البشرية. بل المهم هو كيفية الحصول على ذلك المال. يمكن الحكم على رجل الأعمال الكبير وسائق السيارة الأجرة بأنهما إما عادلان أو ظالمان، بناءً على توافق أفعالهما مع المعايير الأخلاقية العامة، مثل هل يحترمان قواعد العدالة وحس الصواب والخطأ الموروث داخلهما وداخل الآخرين. لا يُستحَق الإطراء، أو اللوم، على أساس الغنى أو الفقر في حد ذاته، بل على أساس الأفعال التي يقوم بها الناس. تقدم المواقف المختلفة فرصًا مختلفة للسلوكيات الصالحة والسيئة، للفضيلة والرذيلة، للعدل والظلم، لكن هذه المعايير هي التي تحكم السلوك البشرى، لا الهبات ولا النتائج. إن التطبيق المتساوي للمعايير هو التحقيق الأخلاقي للمنزلة المتساوية معنويًّا، التي على أساسها يحق لنا أن نحكم على السلوكيات من المنظور الأخلاقي. ستعني المساواة الأخلاقية أن الجريمة جريمة، بصرف النظر عما إذا كان مرتكبها سائق سيارة أجرة أو رجل أعمال كبير، وأن التجارة النزيهة التي تدر الأرباح تجارة نزيهة، بصرف النظر عما إذا جرت بين سائِقَيْ سيارات الأجرة أو رجليْ أعمال كبيرين أو سائق سيارة أجرة ورجل أعمال كبير.

لنعد إلى التفكير في العلاقة بين الثروة والمساواة. يمكن أن تأتي الثروة نتاجًا لسلوك شريف أو تكون مغتصبة عنوة. وقد ينتج عن تبادلات السوق الحرة المزيد من المساواة أو المزيد من عدم المساواة، وبالمثل قد ينتج عن تدخلات الدولة وعمليات إعادة التوزيع إما المزيد من المساواة أو المزيد من عدم المساواة. لا يتسم أي من هذه التعاملات بالمساواة أو عدم المساواة بطبيعته. يستطيع رائد الأعمال أن يكوِّن ثروة، وبالتالي يملك أكثر مما يملكه شخص آخر، حتى وإن كانت عملية تكوين الثروة قد عادت بالنفع على ذلك الشخص الآخر أيضًا. قد ينتج عن تبادلات السوق الحرة مساواة أكبر، عن طريق نشر الرخاء وتقليص الامتيازات الظالمة لأصحاب السلطة، التي ورثوها من أنظمة سابقة. وقد يسرق لص من شخص ما، ووقتها يملك أموالًا أكثر من الضحية، مما يتسبب في زيادة عدم المساواة، أو قد يملك مثل ما تمتلكه الضحية، مما يتسبب في زيادة المساواة. بالمثل، قد ينتج عن تدخلات السلطة الجبرية المنظمة للدولة توزيعًا جائرًا للثروة، سواء عن طريق تجاهل اختيارات المشاركين بالسوق (عن طريق سياسات حماية الإنتاج الوطني والإعانات الحكومية و«السعي لتحقيق كسب غير مستحق») أو عن طريق ممارسة القوة الجبرية والعنف فحسب، كما حدث في الدول التي خضعت للحكم الشيوعي. (إن الالتزام الرسمي بتحقيق المساواة ليس مساويًا لإنتاج المساواة على أرض الواقع، وهو ما أظهرته التجارب المريرة على مر العقود.)

إن قدرة نظام قانوني واقتصادي بعينه على الاقتراب بدرجة أكبر أو أقل من المساواة في الدخل، على سبيل المثال، هي مسألة تجريبية، لا تصورية. يقيس «تقرير الحرية الاقتصادية في العالم» (www.freetheworld.com) درجات الحرية الاقتصادية، ثم يقارن النتائج بمجموعة متنوعة من مؤشرات الرفاهية الاقتصادية (طول العمر، انعدام الأمية، درجة الفساد، دخل الفرد … إلخ). لا تظهر البيانات أن قاطني الدول المتمتعة بأعلى درجات الحرية الاقتصادية أغنى من قاطني الدول ذات الحرية الاقتصادية الأقل وحسب، بل أيضًا أن عدم المساواة في الدخل (خاصة، حصة الدخل القومي التي تكسبها نسبة اﻟ ١٠٪ الأفقر من إجمالي السكان) لا يتباين باختلاف السياسات الاقتصادية، في حين يتفاوت مبلغ الدخل كثيرًا. فإذا قسمنا دول العالم إلى أربع شرائح (يمثل كل منها ٢٥٪ من دول العالم) سنجد أن متوسط نسبة اﻟ ١٠٪ الأفقر من سكان شريحة الدول ذات الاقتصاديات الأقل حرية من الدخل القومي (من بينها دول مثل زيمبابوي وميانمار وسوريا) في عام ٢٠٠٨ (آخر سنة توافرت فيها المعلومات) بلغ ٢٫٤٧٪، وفي الشريحة التالية (ثالث أعلى الاقتصاديات من حيث الحرية) ٢٫١٩٪، وفي الشريحة التي تعلوها (ثاني أعلى الاقتصاديات من حيث الحرية) ٢٫٢٧٪، وفي أعلى الشرائح من حيث الحرية ٢٫٥٨٪. لا يسعنا تقريبًا أن نلحظ أي فارق ملحوظ بينها. يمكننا القول إن عدم المساواة تبدو محصنة ضد التأثر بالسياسات الاقتصادية. وعلى النقيض، يتفاوت مبلغ الدخل الذي يحصل عليه أفقر ١٠٪ من السكان بشكل ملحوظ؛ لأن هذا المتغير غير حصين ضد التأثر بالسياسات الاقتصادية. فإذا كنت ضمن نسبة اﻟ ١٠٪ الأفقر في أقل الدول من حيث الحرية الاقتصادية سيبلغ متوسط دخلك السنوي ٩١٠ دولارات، في حين أنك إذا كنت ضمن نسبة اﻟ ١٠٪ الأفقر في أعلى الدول من حيث الحرية الاقتصادية فسيبلغ متوسط دخلك السنوي ٨٤٧٤ دولارًا. يعني هذا للفقراء أنه من الأفضل أن تكون فقيرًا في سويسرا عن أن تكون فقيرًا في سوريا.

ليست قضية امتلاكي أنا وأنت هبات مبدئية متساوية قبل التبادل الحر، أو ملكيات متساوية بعده، بمشكلة أخلاقية في حد ذاتها. لكن من ناحية أخرى، يعد رفض معاملة الأشخاص المتساوين معنويًّا معاملة أخلاقية ورفض تطبيق القواعد المتساوية عليهم، كل هذا في محاولة لتحقيق المزيد من المساواة في النتائج (وهو، على ما يبدو، ليس بالمسعى الناجح؛ لأن هذه النتائج لا يمكن السيطرة عليها بسهولة) مشكلة أخلاقية بكل تأكيد. فذلك انتهاك للمساواة المعنوية الحقيقية.

إن الفضيحة الكبرى في العالم فيما يخص عدم تساوي الثروات ليست عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات الحرة اقتصاديًّا، بل الفجوة الهائلة بين ثروة شعوب المجتمعات الحرة اقتصاديًّا وثروة شعوب المجتمعات غير الحرة اقتصاديًّا. لكن بالإمكان رأب هذه الفجوة بين الغنى والفقر عن طريق تغيير القواعد؛ أي عن طريق تغيير السياسات الاقتصادية. إن تحرير شعوب المجتمعات غير الحرة اقتصاديًّا سينتج ثروات هائلة من شأنها تضييق الفجوة بين أغنياء العالم وفقرائه أكثر من أي سياسة يمكن تخيلها. علاوة على ذلك، سيتحقق هذا كنتيجة إيجابية لتحقيق العدالة، عن طريق الخلاص من المعاملة غير المتساوية لشعوب الدول المحكومة بوسائل فاسدة؛ كالمحاباة والمركزية والحكم العسكري والاشتراكية والفساد والقوة الجبرية. فالحرية الاقتصادية، بمعنى وجود معايير عدالة متساوية واحترام متساوٍ لحق الجميع في الإنتاج والتبادل، هي المعيار الصحيح للعدالة في نظر البشر ذوي الأخلاقيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤