آين راند والرأسمالية: الثورة الأخلاقية
بقلم ديفيد كيلي
في هذا المقال يدعو الفيلسوف ديفيد كيلي، المناصر للفلسفة الموضوعية، إلى «ثورة رابعة» لإكمال أساسات العالم الحديث وتأمين المكاسب التي جعلتها الرأسمالية ممكنة التحقيق.
ديفيد كيلي هو المدير التنفيذي لجمعية أطلس، التي تشجع على تنمية الفلسفة الموضوعية ونشرها. ألف كيلي كتب «أدلة الحواس» و«فن الاستدلال» (وهو أحد أكثر الكتب تدريسًا عن المنطق في الولايات المتحدة)، و«حياة خاصة: الحقوق الفردية ودولة الرفاهية»، وكتبًا أخرى. درَّس كيلي الفلسفة في كلية فاسار وجامعة برانديز، ونشر مقالات عديدة في صحف واسعة الانتشار، مثل هاربرز، وذا ساينسز، وريزون، وهارفارد بيزنس ريفيو، وبارونز.
يعاد نشر هذا المقال بتصريح من كاتبه، وهو مأخوذ من مجلة ذا نيو إنديفيديواليست، عدد ربيع عام ٢٠٠٩.
***
«إن بمقدورنا الآن أن نعيد كتابة تاريخ العالم من جديد.»
أطلقت أزمة الأسواق المالية وابلًا متوقعًا من المشاعر المعادية للرأسمالية. فمع أن الضوابط الحكومية كانت سببًا كبيرًا لوقوع الأزمة، فإن المعادين للرأسمالية ومناصريهم في وسائل الإعلام ألقوا باللائمة على السوق ودعوا لفرض قيود جديدة. وقد تدخلت الحكومة بالفعل على نحو غير مسبوق في الأسواق المالية، ويبدو واضحًا الآن أن الضوابط الاقتصادية الجديدة ستمتد لما وراء وول ستريت بكثير.
إن تنظيم الإنتاج والتجارة أحد أمرين أساسيين تقوم بهما الحكومة في اقتصادنا المختلط. والأمر الثاني هو إعادة التوزيع؛ بمعنى نقل الدخل والثروة من أيدي البعض إلى أيدي غيرهم. وفي هذا المضمار، أيضًا، انتهز المعادون للرأسمالية الفرصة للدعوة إلى استحقاقات جديدة مثل الرعاية الصحية المضمونة، إلى جانب فرض أعباء ضريبية جديدة على الأثرياء. وقد كشفت الأزمة الاقتصادية، إلى جانب انتخاب باراك أوباما، عن مخزون ضخم من المطالبات بإعادة التوزيع. من أين تأتي هذه المطالبات؟ للإجابة عن هذا السؤال على نحو شافٍ، علينا النظر إلى أصول الرأسمالية ثم إلقاء نظرة أكثر قربًا على الحجج المؤيدة لإعادة التوزيع.
بلغ النظام الرأسمالي أشده في القرن الممتد بين عامي ١٧٥٠ و١٨٥٠، وذلك نتيجة لثلاث ثورات. أولى هذه الثورات كانت ثورة سياسية: وتمثلت في انتصار الليبرالية، وبالتحديد تعاليم حقوق الإنسان، والنظرة القائلة إن الحكومة يجب أن تقتصر في عملها على حماية الحقوق الفردية، بما في ذلك حقوق الملكية. وكانت الثورة الثانية هي مولد الفهم الاقتصادي، الذي تجسد في كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث. أوضح سميث أنه حين يُترك الأفراد أحرارًا في السعي وراء مصالحهم الاقتصادية، لن تكون النتيجة هي الفوضى، بل نظامًا تلقائيًّا؛ نظامًا للسوق تُنسَّق فيه أفعال الأفراد وتُنتَج فيه ثروات أكبر عما سيكون عليه الحال لو أدارت الحكومة الاقتصاد. أما الثورة الثالثة فهي، بالطبع، الثورة الصناعية. فقد زاد الابتكار التكنولوجي من قدرة الإنسان على الإنتاج أضعافًا مضاعفة. ولم يتمثل تأثير ذلك في رفع مستوى معيشة الجميع وحسب، بل في توفير الفرص للأفراد المغامرين المتيقظين لكسب ثروات كان يستحيل تخيلها في الأزمنة السابقة.
أتت الثورة السياسية؛ انتصار تعاليم الحقوق الفردية، مصحوبة بروح من المثالية الأخلاقية. كان في هذا تحرير للإنسان من الاستبداد، وإقرار بأن كل فرد، بصرف النظر عن مكانته في المجتمع، هو غاية في حد ذاته. لكن الثورة الاقتصادية كانت مصاغة بمصطلحات أخلاقية غامضة: فالرأسمالية، كنظام اقتصادي، كان يُنظر لها على نطاق واسع على أنها خطيئة. وكانت الرغبة في اكتناز الثروة تقع تحت مظلة تحذيرات العقيدة المسيحية من الأنانية وحب المال. وكان أوائل دارسي النظام التلقائي واعين بأنهم يشددون على تناقض أخلاقي؛ التناقض الذي مفاده، حسب تعبير برنارد ماندفيل، أن الرذائل الفردية يمكنها أن تنتج منافع عامة.
أكد منتقدو السوق على هذه الشكوك الأخلاقية دائمًا. وقد قامت الحركة الاشتراكية على مزاعم مفادها أن الرأسمالية تحض على الأنانية والاستغلال والعزلة والظلم. وفي أشكال أكثر اعتدالًا، أنتج المعتقد ذاته دولة الرفاهية، التي تعيد توزيع الدخل من خلال البرامج الحكومية تحت مسمى «العدالة الاجتماعية». لم تفلت الرأسمالية قط من الغموض الأخلاقي الذي اكتنف طريقة تصورها. فهي محل تقدير بفضل الرخاء الذي تتسبب فيه، وهي محل تقدير بوصفها شرطًا أساسيًّا للحرية السياسية والفكرية. لكن قلة نادرة من المدافعين عنها هم المستعدون للتشديد على أن طريقة الحياة التي تقوم عليها الرأسمالية — السعي وراء المصلحة الذاتية من خلال الإنتاج والتجارة — هي طريقة محترمة من المنظور الأخلاقي، إن لم تكن طريقة نبيلة أو مثالية.
ما من لغز وراء النفور الأخلاقي من السوق. فهو ينبع من أخلاق الإيثار الضاربة بجذورها في الثقافة الغربية، وغيرها من الثقافات في حقيقة الأمر. وفق معايير الإيثار يُنظر إلى السعي وراء المصلحة الذاتية على أنه فعل محايد على أفضل تقدير، خارج نطاق الفضائل، بينما يُنظر له على أسوأ التقديرات بوصفه خطيئة. صحيح أن النجاح في السوق يتحقق عن طريق التجارة الطوعية الاختيارية، وبالتالي الوفاء باحتياجات الآخرين. لكن صحيح أيضًا أن من ينجحون مدفوعون بتحقيق مكاسب شخصية، والأخلاق معنية بالدوافع مثلما هي معنية بالنتائج.
في حديثنا اليومي عادة لا يعني مصطلح «الإيثار» أكثر من اللطف أو الكياسة. لكن معناه الحقيقي، من المنظور التاريخي والفلسفي، هو التضحية بالذات. ومن منظور الاشتراكيين الذين صكوا المصطلح، هو يعني انغماس الذات التام في الكل المجتمعي الأكبر. وقد عبرت آين راند عن الأمر بقولها: «المبدأ الرئيسي للإيثار هو أنه ليس للإنسان حق في العيش لذاته، وأن خدمة الآخرين هي المبرر الوحيد لوجوده، وأن التضحية بالذات هي أعلى الواجبات والفضائل والقيم الأخلاقية.» وبهذا المعنى المحدود يكون الإيثار أساسًا لمفاهيم «العدالة الاجتماعية» المتنوعة المستخدمة للدفاع عن البرامج الحكومية الهادفة لإعادة توزيع الثروة. هذه البرامج تمثل تضحية إجبارية من جانب الأفراد الذين تؤخذ منهم الضرائب لدعمها. وهي تجسد استخدام الأفراد كموارد جمعية، بحيث يستخدمون كوسائل لخدمة غايات الآخرين. وهذا هو السبب الجوهري الذي يحتم على أي مدافع عن الرأسمالية أن يعارض تلك البرامج على أساس أخلاقي.
المطالبات بالعدالة الاجتماعية
تأخذ المطالبات بالعدالة الاجتماعية شكلين مختلفين، سأطلق عليهما الرفاهية والمساواتية. وفق مبدأ الرفاهية لكل فرد الحق في ضروريات معينة للحياة، بما في ذلك الحدود الدنيا للطعام والمأوى والملبس والرعاية الطبية والتعليم وغيرها. والمجتمع مسئول عن تأمين هذه الضروريات لكل أفراده. لكن النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على مبدأ عدم التدخل لا يضمن هذه الأشياء لكل شخص. وعلى هذا، كما ينادي دعاة الرفاهية، تفشل الرأسمالية في الوفاء بمسئولياتها الأخلاقية، وبالتالي يجب الحد منها من خلال إقدام الدولة على توفير مثل هذه السلع لمن يعجزون عن الحصول عليها بجهودهم الخاصة.
وفق مبدأ المساواتية يجب إعادة توزيع الثروة التي ينتجها المجتمع على نحو عادل، ومن الغبن أن يكسب البعض خمسة عشر أو خمسين أو مائة ضعف ما يكسبه غيرهم. لكن الرأسمالية القائمة على مبدأ عدم التدخل تسمح بمثل هذه الفوارق في الدخل والثروة، بل تشجع عليها، وبهذا تصير ظالمة. السمة المميزة للمساواتية هي استخدام الإحصائيات الخاصة بتوزيع الدخل. فمثلًا في عام ٢٠٠٧ حصل أعلى ٢٠ بالمائة من سكان الولايات المتحدة على مقياس الدخل على ٥٠ بالمائة من الدخل الإجمالي، بينما حصل أقل ٢٠ بالمائة على ٣٫٤ بالمائة فقط. إن هدف المساواتية هو تقليل هذا الفارق، وأي تغير نحو مساواة أكبر يعد مكسبًا للعدالة.
الفارق بين هذين التصورين للعدالة الاجتماعية هو الفارق بين المستويات المطلقة والنسبية للرفاهية. فدعاة الرفاهية يطالبون بحصول الناس على حد أدنى معين من المستوى المعيشي. وما دامت وُجدت هذه الأرضية، أو «شبكة الأمان»، لا يهم مقدار الثراء الذي يملكه أي شخص آخر، أو مقدار الفارق بين الغني والفقير. وعلى هذا يكون دعاة الرفاهية مهتمين بالأساس بالبرامج التي تفيد الأشخاص الواقعين تحت مستوى معين من الفقر، أو المرضى أو العاطلين عن العمل أو المعوزين بأي شكل آخر. أما دعاة المساواتية، على الجانب الآخر، فيهتمون بالرفاهية «النسبية». وكثيرًا ما قال دعاة المساواتية إنهم لو خيروا بين مجتمعين، فسيفضلون المجتمع الذي تتوزع فيه الثروة على نحو متساوٍ أكثر، حتى لو كان مستوى المعيشة الإجمالي فيه أقل. وبهذا يميل دعاة المساواتية إلى تفضيل الإجراءات الحكومية مثل الضرائب التصاعدية، التي تهدف لإعادة توزيع الثروة على امتداد مقياس الدخل كله، وليس فقط في قاعدته. وهم يميلون أيضًا لدعم تأميم أشياء مثل التعليم والدواء، بحيث يأخذونها من السوق بصورة كلية ويجعلونها متاحة للجميع بدرجات متساوية نسبيًّا.
لنلق نظرة على مفهومي العدالة الاجتماعية هذين على الترتيب:
الرفاهية: الالتزام غير المختار
القاعدة التي يقوم عليها مبدأ الرفاهية هو أن للناس الحق في أشياء معينة، كالطعام والمأوى والرعاية الطبية. إنهم «يستحقون» هذه الأشياء. ووفق هذا الافتراض، فإن من يتلقى مساعدات من الحكومة إنما يحصل على ما يستحق لا أكثر، مثله مثل المشتري الذي يحصل على حقه في السلعة التي دفع ثمنها. وحين توزع الحكومة المساعدات الاجتماعية، فهي بهذا تحمي الحقوق، تمامًا كما تحمي المشتري من الاحتيال. وفي كلتا الحالتين ما من ضرورة لإظهار العرفان.
إن مفهوم حقوق الرفاهية، أو الحقوق الإيجابية كما يطلق عليها، مصاغ على شاكلة الحقوق الليبرالية التقليدية، وهي الحق في الحياة والحرية والملكية. لكن هناك اختلافًا معروفًا جيدًا. فالحقوق التقليدية هي حقوق للتصرف دون تدخل من الآخرين. فالحق في الحياة يعني حق الفرد في التصرف بهدف الحفاظ على حياته. وهو لا يعني الحق في الحصانة من الموت لأسباب طبيعية، حتى ولو حدث في سن مبكرة. وحق الملكية يعني الحق في البيع والشراء بحرية، والتنعم بنعم الطبيعة التي لا يملكها أحد. إنه يعني الحق في السعي لاكتساب الممتلكات، لكن ليس الحق في تلقي هبات من الطبيعة أو من الدولة، وهو ليس بضمان أن الفرد سينجح في امتلاك أي شيء. وبالتالي، هذه الحقوق تفرض على الآخرين الالتزام السلبي بعدم التدخل، وعدم إعاقة الفرد بالقوة من التصرف على النحو الذي يختاره. فإذا تخيلت نفسي وقد ابتعدت عن المجتمع — كأن أعيش على جزيرة منعزلة مثلًا — فستكون حقوقي مؤمنة بالكامل. قد لا أعيش طويلًا، وبالتأكيد لن أعيش حياة طيبة، لكني سأعيش بحرية تامة في أمان من القتل والسرقة والاعتداء.
وعلى النقيض من ذلك، يُفهم من حقوق الرفاهية أنها حقوق امتلاك بعض الأشياء والاستمتاع بها، بصرف النظر عن تصرفات المرء؛ فهي تعني حق الفرد في الحصول على الأشياء التي يقدمها الآخرون إذا عجز الفرد عن كسبها بنفسه. وبالتالي، تفرض حقوق الرفاهية التزامات إيجابية على الآخرين. فإذا كان لي الحق في الطعام فسيكون شخص آخر ملزمًا بزراعته. وإذا عجزت عن دفع ثمنه فسيكون شخص آخر ملزمًا بالدفع نيابة عني. أحيانًا يحاج دعاة الرفاهية بأن الالتزام هنا مفروض على المجتمع ككل، وليس على أي فرد بعينه. لكن المجتمع ليس كيانًا، ناهيك عن كونه شخصًا ذا حس أخلاقي، يعلو ويسمو فوق أعضائه الأفراد، وبهذا سيقع أي التزام على كاهلنا كأفراد. وبالطريقة التي تُطبق بها حقوق الرفاهية إلى الآن من خلال البرامج الحكومية مثلًا يوزع الالتزام على جميع دافعي الضرائب.
من المنظور الأخلاقي إذن يكون جوهر الرفاهية هو الافتراض بأن حاجة أحد الأفراد هي حق مطلوب من شخص آخر. هذا الحق المطلوب قد يمتد إلى حدود البلدة أو الأمة وحسب، لكنه قد لا يشمل الإنسانية كلها. ومع هذا ففي جميع صور هذا المعتقد، لا تعتمد المطالبة على علاقتك الشخصية بالمُطالب، أو على اختيارك تقديم المساعدة، أو تقييمك لمدى استحقاق الشخص للمساعدة من عدمه؛ إنه التزام غير مختار ينبع من حقيقة احتياجاته وحدها.
لكن علينا المضي في تحليلنا خطوة إضافية. فإذا كنت أعيش على جزيرة منعزلة، فبطبيعة الحال لن أتمتع بحقوق الرفاهية، نظرًا لعدم وجود أي شخص آخر يوفر لي ما أحتاج. وللسبب نفسه، إذا كنت أعيش في مجتمع بدائي لا يعرف الدواء، فلن يكون لي الحق في الرعاية الطبية. إن محتوى حقوق الرفاهية يرتبط نسبيًّا بمستوى الثروة الاقتصادية والقدرة الإنتاجية لأي مجتمع. وبالتبعية، يعتمد التزام الأفراد بالوفاء بهذه الاحتياجات على قدرتهم على ذلك. فلن يلومني أحد كفرد لعدم إمداد الآخرين بشيء أعجز عن إنتاجه بنفسي.
لكن ماذا لو أنني قادر على إنتاجه، لكنني ببساطة أختار ألا أفعل ذلك؟ لنفترض أنني قادر على كسب دخل أكبر بكثير مما أكسب بالفعل، وستذهب الضرائب المفروضة عليه لمساعدة شخص سوف يجوع إذا لم يحصل عليها. هل أنا ملزم بالعمل بكد أكبر، وكسب مال أكثر، في سبيل مصلحة هذا الشخص؟ لا أعرف أيًّا من الفلاسفة الداعين للرفاهية يقول إنني ملزم بهذا. فالمطلب الأخلاقي المفروض علي بدافع من حاجة شخص آخر لا يعتمد فقط على قدرتي، بل على «استعدادي» للإنتاج أيضًا.
وهذا يخبرنا بشيء مهم عن التركيز الأخلاقي للرفاهية؛ فهي لا تشدد على التزام بالسعي وراء إشباع الاحتياجات الإنسانية، ناهيك عن الالتزام بالنجاح في هذا، بل إن هذا الالتزام مشروط: فمن ينجحون في خلق الثروة قد يفعلون هذا بشرط أن يُسمح لآخرين بالاشتراك معهم في ثرواتهم. فالهدف ليس إفادة المحتاج بقدر ما هو إلزام القادر. والافتراض الضمني هنا هو أن قدرة الفرد وتفوقه على الآخرين هي مزايا اجتماعية، لا يُسمح بحيازتها إلا بشرط أن تكون موجهة لخدمة الآخرين.
المساواتية: التوزيع «العادل»
إذا تحولنا للمساواتية فسنجد أننا نصل إلى المبدأ عينه لكن عبر طريق منطقي مختلف. فالإطار الأخلاقي للمساواتية محدد من قبل مفهوم العدالة، وليس الحقوق. فإذا نظرنا للمجتمع ككل فسنرى أن الدخل والثروة والسلطة موزعة بطريقة معينة بين الأفراد والجماعات. والسؤال الأساسي هنا هو: هل التوزيع القائم عادل؟ إن لم يكن كذلك، فلا مناص من تصويبه من خلال البرامج الحكومية الخاصة بإعادة التوزيع. بطبيعة الحال لا ينتج اقتصاد السوق الخالص عدالة بين الأفراد. لكن قلة من الداعين للمساواتية زعموا أن المساواة الصارمة في الدخل أمر تفرضه العدالة. وأكثر المواقف شيوعًا هو التسليم بأن الدخول المتساوية أمر مستحب، وأن أي حياد عن المساواة يجب تبريره من خلال الفوائد التي يقدمها للمجتمع ككل. ومن ثم، كتب الكاتب الإنجليزي آر إتش تاوني أن «عدم المساواة في الظروف تعد أمرًا منطقيًّا، بل هي شرط أساسي لتأمين الخدمات التي يحتاجها المجتمع». وما «مبدأ التفاوت» الشهير لجون رولز — الذي يقضي بأن عدم المساواة مسموح به بشرط أن يخدم مصالح أشد المحرومين في المجتمع — إلا مثال حديث العهد على هذا المنهج. وبعبارة أخرى، يدرك دعاة المساواتية أن المساواة الصارمة ستكون لها آثار كارثية على الإنتاج. وهم يقرون بأن الجميع لا يشاركون على نحو متساوٍ في ثروة المجتمع. ولهذا، يجب أن يُكافأ الناس، بدرجة ما، بما يتوافق مع قدراتهم الإنتاجية، كدافع لهم على بذل مزيد من الجهد. لكن يجب قصر حالات التفاوت هذه على المواقف التي تفيد المصلحة العامة وحسب.
ما الأساس الفلسفي لهذا المبدأ؟ عادة ما يحاج دعاة المساواتية بأن مبدأهم ينبع على نحو منطقي من مبدأ العدالة الأساسي: أن الناس يجب أن يُعاملوا على نحو متفاوت فقط إذا كانوا متفاوتين على نحو له صلة بالأخلاق. لكن إذا كنا سنطبق هذا المبدأ الأساسي على توزيع الدخل، فعلينا أولًا أن نفترض أن المجتمع منخرط حرفيًّا في فعل توزيع الدخل. ومن الجلي أن هذا الافتراض مضلل. ففي اقتصاد السوق تتحدد الدخول من خلال اختيارات ملايين الأفراد؛ من مستهلكين ومستثمرين ورواد أعمال وعمال. ويجري التنسيق بين هذه الاختيارات بواسطة قوانين العرض والطلب، وليس من قبيل المصادفة أن يكسب رواد الأعمال الناجحون مثلًا أكثر بكثير مما يكسبه العامل باليومية. غير أن هذا ليس نتاجًا لأي نية واعية من جانب المجتمع. ففي عام ٢٠٠٧ كانت أوبرا وينفري أعلى الشخصيات العاملة في مجال الترفيه في الولايات المتحدة دخلًا؛ إذ حققت قرابة ٢٦٠ مليون دولار. لم يحدث هذا لأن «المجتمع» قرر أنها تستحق هذا المبلغ، بل لأن ملايين المعجبين قرروا أن برنامجها يستحق المشاهدة. وحتى في الاقتصاد الاشتراكي، كما نعرف الآن، لا تقع النتائج الاقتصادية تحت سيطرة المخططين الحكوميين. وحتى هناك يوجد قدر من النظام التلقائي، مع كونه فاسدًا، تتحدد فيه النتائج وفق الصراعات البيروقراطية والأسواق السوداء وغيرها.
رغم غياب أي فعل توزيع بالمعنى الحرفي، كثيرًا ما يحاج دعاة المساواتية بأن المجتمع مسئول عن ضمان أن يفي التوزيع الإحصائي للدخل بمعايير إنصاف معينة، لماذا؟ لأن إنتاج الثروة عملية اجتماعية تعاونية. يُنتج المزيد من الثروة في المجتمع الذي يتسم بالتجارة وتقسيم العمل عما هو الحال في المجتمع ذي المنتجين المكتفين ذاتيًّا. وتقسيم العمل يعني أن كثيرًا من الناس يساهمون في الناتج النهائي، والتجارة تعني وجود دائرة أوسع من الأشخاص الذين يتحملون مسئولية الثروة التي يحققها المنتجون. وبهذا يتغير وجه الإنتاج بفعل هذه العلاقات، كما يقول دعاة المساواتية، حتى إن المجموعة ككل يجب اعتبارها كوحدة إنتاج حقيقية وكمصدر حقيقي للثروة. على الأقل هي مصدر التفاوت الموجود في الثروة بين المجتمع المتعاون والمجتمع غير المتعاون. ولهذا، على المجتمع أن يضمن توزيع ثمار هذا التعاون على نحو منصف على المشاركين كافة.
لكن هذه الحجة تصح فقط إذا اعتبرنا الثروة الاقتصادية منتجًا اجتماعيًّا مجهول المصدر يستحيل فيه عزل المساهمات الفردية. في هذه الحالة فقط سيكون من الضروري ابتكار مبادئ لعدالة التوزيع من أجل تخصيص حصص الإنتاج، وذلك بعد حدوث الإنتاج بالفعل. غير أن هذا الافتراض، مجددًا، خاطئ تمامًا. فهذا المنتج الاجتماعي المزعوم هو في الواقع نظام واسع من السلع والخدمات المنفردة المتاحة في السوق. فمن الممكن بالطبع معرفة الخدمة أو المنتج الذي ساهم الشخص في إنتاجه. وحين يُنتَج المنتَج على يد مجموعة من الأفراد، كما هو الحال في مزرعة مثلًا، من الممكن تحديد من فعل ماذا. فعلى أي حال، لا يوظف صاحب العمل العمال دون سبب؛ فالعامل يُوظَّف بسبب الفارق المتوقع أن يحدثه جهده في المنتج النهائي. يقر دعاة المساواتية أنفسهم بهذه الحقيقة حين يسمحون بقدر من عدم المساواة إذا كان هذا سيحفز على المزيد من الإنتاجية التي ستزيد من الثروة الإجمالية للمجتمع. ولضمان ذهاب المحفزات إلى الأشخاص المناسبين، كما لاحظ روبرت نوزيك، حتى الداعي للمساواتية نفسه عليه أن يفترض أننا قادرون على تحديد دور المساهمات الفردية. وباختصار، لا يوجد أساس لتطبيق مبدأ العدالة على التوزيع الإحصائي للدخل أو الثروة عبر الاقتصاد ككل. وعلينا أن نتخلى عن صورة الفطيرة الكبيرة التي يقسمها الأب الخيّر الذي يتمنى أن يعدل بين جميع أبنائه المتجمعين على المائدة.
بمجرد تخلينا عن هذه الصورة، ما الذي سيحدث للمبدأ الذي يروج له تاوني ورولز وآخرون؛ المبدأ القائل بأن عدم المساواة مقبول فقط إذا كان يخدم مصالح الجميع؟ إذا لم يكن بالإمكان تأسيس هذا المبدأ على العدالة، فلا بد من أن ينظر إليه كنوع من الالتزام الذي يحمله بعضنا تجاه بعض كأفراد. وحين نفكر في الأمر من هذا المنطلق سنرى أنه المبدأ عينه الذي حددناه كأساس لحقوق الرفاهية. المبدأ القائل إن المنتجين يحق لهم الاستمتاع بثمار جهودهم، بشرط أن تفيد جهودهم الآخرين بالمثل. لا يوجد إلزام بإنتاج الدخل أو خلقه أو كسبه. لكن لو أنك فعلت، فستظهر حاجات الآخرين قيدًا على أفعالك. إن قدرتك وتفوقك وذكاءك وتفانيك نحو أهدافك وجميع السمات الأخرى التي تمكن من النجاح هي مزايا شخصية تضعك تحت التزام نحو من هم أقل قدرة أو تفوقًا أو ذكاءً أو تفانيًا.
وبعبارة أخرى، كل صورة من صور العدالة الاجتماعية تقوم على الافتراض بأن القدرة الفردية هي مزية اجتماعية. لا يقضي هذا الافتراض فقط بأن الفرد قد لا يستخدم مواهبه للتعدي على حقوق من هم أقل قدرة، ولا يقضي فقط بأن الفضل والكرم من الفضائل، بل يقضي بأن على الفرد أن يعتبر نفسه، ولو جزئيًّا على الأقل، وسيلة لخدمة مصالح الآخرين. وهنا أصل المشكلة؛ فعندما أحترم حقوق الآخرين أدرك أنهم غاية في حد ذاتهم، وأنني لا يحق لي أن أعاملهم كوسيلة لإشباع حاجاتي، مثلما أعامل الجمادات. لماذا إذن لا يحق لي من الناحية الأخلاقية أن أعتبر نفسي غاية أنا الآخر؟ لماذا ينبغي علي ألا أرفض — من منطلق احترامي لكرامتي كبشر ملتزم بالمعايير الأخلاقية — اعتبار نفسي وسيلة لخدمة الآخرين؟
نحو أخلاقيات فردية
ترتكن دعوة آين راند المناصرة للرأسمالية على الأخلاقيات الفردية التي تقر بالحق الأخلاقي للفرد في السعي وراء مصلحته الخاصة وترفض الإيثار رفضًا جذريًّا.
يحتج دعاة الإيثار بأن الحياة تقدم لنا خيارًا أساسيًّا: فعلينا إما أن نضحي بالآخرين لمصلحة أنفسنا أو أن نضحي بأنفسنا لمصلحة الآخرين. والخيار الأخير هو العمل الإيثاري، والافتراض هنا هو أن البديل الوحيد له هو أن نعيش الحياة كحيوانات ضارية. لكن راند ترى أن هذا البديل غير صحيح؛ فالحياة لا تتطلب منا التضحيات في أي من الاتجاهين. ومصالح الأشخاص المتعقلين لا تتصارع، والسعي الصادق وراء مصلحتنا الذاتية يتطلب منا أن نتعامل مع الآخرين من خلال التبادل الاختياري السلمي.
لمعرفة السبب، دعونا نلق نظرة على الكيفية التي نقرر بها ما في مصلحتنا الذاتية. المصلحة هي قيمة نسعى لكسبها؛ كالثروة أو المتعة أو الأمن أو الحب أو تقدير الذات أو أي شيء آخر طيب. وفلسفة راند الأخلاقية قائمة على المفهوم القائل إن القيمة الجوهرية، أو «الخير الأعظم»، هو الحياة. فوجود الكائنات الحية، وحاجتها للحفاظ على أنفسها من خلال العمل المتواصل على إشباع حاجاتها هو ما يسبب وجود ظاهرة القيم بأسرها. فالعالم دون حياة سيكون عالمًا من الحقائق، لا القيم، عالم لا يمكن فيه القول إن حالة ما أفضل أو أسوأ من حالة أخرى. وبهذا يصير المعيار الجوهري للقيمة، الذي في ضوئه يجب على الفرد أن يحدد ما في مصلحته، هو حياته: ليس البقاء وحسب من لحظة لأخرى، بل الإشباع الكامل لاحتياجاته من خلال الممارسة المتواصلة لملكاته.
والملكة الرئيسية للإنسان؛ وسيلته الرئيسية للبقاء حيًّا، هي قدرته على التفكير. فالتفكير هو ما يمكننا من العيش بواسطة الإنتاج، وبالتالي الارتقاء فوق مستوى الصيد وجمع الطعام على نحو غير مستقر. والتفكير أساس اللغة، التي تمكننا من التعاون ونقل المعرفة. والتفكير أساس الأنظمة الاجتماعية التي تحكمها القواعد المجردة. وهدف الأخلاقيات هو توفير مستويات معيشية متوافقة مع التفكير، وذلك لخدمة حياتنا.
كي نعيش بالتفكير العقلاني، علينا القَبول بالاستقلالية كفضيلة. فالتفكير ملكة للفرد. ومهما تعلمنا من الآخرين، يحدث فعل التفكير في عقل الفرد، ولا بد أن يبدأ داخل كل فرد فينا باختيارنا وأن يوجَّه بجهدنا العقلي. لذا يتطلب التفكير العقلاني منا القَبول بمسئولية توجيه حياتنا وتعزيزها.
كي نعيش وفق ما يمليه علينا التفكير العقلاني، علينا القَبول أيضًا بالإنتاجية باعتبارها فضيلة. فالإنتاج هو فعل خلق القيمة، والبشر لا يمكنهم أن يعيشوا حياة آمنة مشبعة من خلال العثور على ما يحتاجون إليه في الطبيعة، كما تفعل الحيوانات. كما لا يمكنهم العيش ككائنات متطفلة على غيرهم. تقول راند: «إذا سعى بعض الرجال للعيش بواسطة القوة الغاشمة أو الاحتيال أو النهب أو السرقة أو الغش أو استعباد من ينتجون، فلن يغير هذا من حقيقة أن بقاءهم قائم على جهود ضحاياهم، هؤلاء الذين يختارون التفكير وإنتاج البضائع التي يستولي عليها أولئك الناهبون. هؤلاء الناهبون هم كائنات متطفلة عاجزة عن البقاء، ويعيشون على تدمير من يملكون القدرة، من يسلكون سبيل العمل الملائم للإنسان.»
عادة ما يصوَّر الشخص المحب للذات على أنه شخص يفعل أي شيء للحصول على ما يريد؛ شخص يكذب ويسرق ويسعى للهيمنة على الآخرين لتحقيق رغباته. ترى راند، شأن أغلب الناس، أن نمط الحياة هذا غير أخلاقي. لكن ليس بسبب أنه يؤذي الآخرين، بل لأنه يؤذي الذات. فالرغبة الشخصية ليست المحك الذي يحدد هل شيء ما في مصلحتنا أم لا، والخداع والسرقة واستخدام السلطة ليست وسائل تحقيق السعادة أو عيش حياة ناجحة. فالفضائل التي ذكرتها هي معايير موضوعية، وهي متأصلة في طبيعة الإنسان، ولهذا فهي تنطبق على كل البشر، لكن هدفها هو تمكين كل شخص من «تحقيق تلك القيمة النهائية الأسمى والحفاظ عليها وإشباعها والاستمتاع بها؛ تلك الغاية المطلوبة لذاتها؛ حياته نفسها». لذا يكون هدف الأخلاقيات هو أن تخبرنا بكيفية تحقيق مصالحنا الحقيقية، وليس كيفية التضحية بها.
مبدأ التاجر
كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع الآخرين؟ تعتمد الأخلاقيات الاجتماعية لراند على مبدأين أساسيين: مبدأ الحقوق ومبدأ العدالة. يقضي مبدأ الحقوق بأن علينا التعامل مع الآخرين على نحو مسالم، من خلال التبادل الاختياري الطوعي، دون المبادرة باستخدام القوة ضدهم. وبهذه الطريقة وحدها نستطيع العيش باستقلالية، على أساس جهودنا الإنتاجية، ويصير الشخص الذي يحاول العيش من خلال السيطرة على الآخرين بمنزلة كائن متطفل. وداخل المجتمع المنظم علينا أن نحترم حقوق الآخرين إذا رغبنا في أن تُحترم حقوقنا. وبهذه الطريقة وحدها نستطيع الحصول على الفوائد العديدة التي تنتج عن التفاعل الاجتماعي؛ فوائد التبادل الاقتصادي والفكري، إلى جانب قيم العلاقات الشخصية الأكثر حميمية. ومصدر هذه الفوائد هو العقلانية والإنتاجية وتفرد الشخص الآخر، وهذه الأشياء تحتاج الحرية كي تزدهر. لكن إذا عشت بالقوة، فأنا بهذا أهاجم جذور القيم التي أسعى إليها.
أما مبدأ العدالة فهو ما تسميه راند بمبدأ التاجر: العيش بواسطة التجارة، وتقديم القيمة مقابل القيمة، وعدم السعي للحصول على ما لا نستحق أو منح الآخر ما لا يستحقه. والشخص المحترم لا يقدم حاجاته كمطالب يلزم بها الآخرين، بل يقدم القيمة كأساس لأي علاقة. كما أنه لا يقبل بأي التزام غير مختار لخدمة حاجات الآخرين. فلا يستطيع أي شخص يقدر حياته أن يقبل بتحمل مسئولية لا نهاية لها بأن يكون راعيًا لأخيه. كما لن يرغب الشخص المستقل في أن يرعاه أحد؛ لا سيد ولا وزارة الصحة والخدمات الإنسانية. وكما تلاحظ راند فإن مبدأ التجارة هو الأساس الوحيد الذي يمكن أن يتعامل البشر وفقه بعضهم مع بعض كأنداد مستقلين.
إن الأخلاق الموضوعية، باختصار، تعامل الفرد كغاية في حد ذاته، وذلك بالمعنى الكامل للكلمة. يعني هذا ضمنًا أن الرأسمالية هي النظام الأخلاقي والعادل الوحيد. فالمجتمع الرأسمالي قائم على الاعتراف بالحقوق الفردية وحمايتها. وفي المجتمع الرأسمالي يكون الإنسان حرًّا في السعي وراء غاياته، بواسطة قدراته العقلية. وكما هو الحال في أي مجتمع، يكون البشر مقيدين بقوانين الطبيعة. فالطعام والمأوى والملبس والكتب والدواء لا تنمو على الأشجار، بل يجب أن تُنتَج. وكما هو الحال في أي مجتمع يرضخ البشر لقيود طبيعتهم نفسها، وحدود قدراتهم الفردية. لكن القيد الاجتماعي الوحيد الذي تفرضه الرأسمالية هو المطالبة بأن من يرغبون في الحصول على خدمات الآخرين لا بد وأن يقدموا القيمة بدورهم. ولا يحق لأحد أن يستغل الدولة في استباحة ما أنتجه الآخرون.
تعتمد النتائج الاقتصادية في السوق — توزيع الدخل والثروة — على الأفعال والتفاعلات الاختيارية بين المشاركين. ومفهوم العدالة لا ينطبق على النتائج فحسب، وإنما على آلية النشاط الاقتصادي أيضًا. فدخل الفرد يكون عادلًا إذا اكتُسب من خلال التبادل الاختياري، كمكافأة على القيمة التي قدمها، كما يراها من تُقدَّم لهم القيمة. عرف الاقتصاديون منذ زمن أنه لا يوجد ما يسمى بالسعر العادل للسلعة، وأن المحدد الوحيد هو حكم المشاركين في السوق على قيمة السلعة في نظرهم. والأمر عينه ينطبق على سعر الخدمات الإنتاجية البشرية. ليس مقصودًا بهذا القول بأن دخلي هو ما يحدد قيمتي، بل إنني لو أردت أن أعيش وفق مبدأ التجارة مع الآخرين فلا يمكنني المطالبة بأن يقبلوا شروطي على حساب مصلحتهم الذاتية.
الإحسان كقيمة مختارة
ماذا عن الفقير أو المعاق أو العاجز عن إعالة نفسه؟ يحق طرح سؤال كهذا، ما دام أنه ليس أول سؤال نطرحه عن أي نظام اجتماعي. من الأمور التي أورثتها لنا عقلية الإيثار التفكير بأن المعيار الرئيسي لتقييم أي مجتمع هو الطريقة التي يعامل بها أقل أفراده إنتاجية. وقد ورد على لسان المسيح قوله: «طوبى للمساكين بالروح، طوبى للودعاء.» لكن لا وجود لقاعدة من قواعد العدالة تبرر منح المساكين أو الودعاء أي تقدير خاص أو وضع احتياجاتهم في موضع الصدارة. وإذا كان لنا أن نختار بين مجتمع جمعي لا يملك فيه أحد أي حرية لكن لا يوجد فيه جوعان، وبين مجتمع فردي يكون الجميع فيه أحرارًا لكن تتضور قلة منه جوعًا، أرى أن المجتمع الثاني، الحر، هو الخيار الأخلاقي. فلا يمكن لأحد أن يطالب بالحق في أن يخدمه الآخرون قسرًا، حتى لو كانت حياته تعتمد على هذا.
لكن ليس هذا هو الخيار الذي نواجهه. في الواقع، يصير الفقراء أفضل حالًا بكثير في ظل الرأسمالية عن الاشتراكية، أو حتى دولة الرفاهية. ومن واقع التاريخ، فإن المجتمعات التي تنعدم فيها الحرية، كالاتحاد السوفييتي السابق، هي المجتمعات التي يجوع فيها عدد كبير من الناس.
إن القادرين على العمل لديهم اهتمام حقيقي بالنمو الاقتصادي والتكنولوجي، الذي يحدث في أسرع صوره في ظل نظام السوق. فاستثمار رأس المال واستخدام الآلات يمكن من توظيف أشخاص كانوا خلاف ذلك سيعجزون عن إنتاج ما يكفي لإعالة أنفسهم. والحاسبات وأجهزة الاتصالات، على سبيل المثال، مكنت في وقتنا الحالي من يعانون إعاقات بالغة من العمل من منازلهم.
أما بخصوص من يعجزون عن العمل، فلطالما وفرت المجتمعات الحرة أشكالًا عدة من مؤسسات الإعانة الخاصة وأعمال الخير خارج السوق: كالمؤسسات الخيرية وجمعيات الإحسان وما شابهها. وفي هذا الصدد، دعونا نؤكد على أنه لا يوجد تعارض بين حب الذات والإحسان. ففي ضوء المنافع الكثيرة التي نجنيها من التعامل مع الآخرين، من الطبيعي أن ننظر لأشقائنا في الإنسانية بروح من الإحسان، وأن نتعاطف مع بلاياهم، وأن نقدم المساعدة حين لا تتطلب منا التضحية بمصالحنا الخاصة. لكن ثمة فارقًا كبيرًا بين مفهوم المحب للذات ومفهوم المؤثر عن الإحسان.
من وجهة نظر المؤثر يأتي السخاء مع الآخرين كأولوية أخلاقية، وينبغي أن يمتد حتى حدود التضحية، وفق مبدأ «أعط إلى أن يؤلمك العطاء». فالعطاء واجب أخلاقي، بصرف النظر عن أي قيم أخرى يحملها المرء، والمتلقي له حق في هذا العطاء. أما من منظور المحب لذاته، يأتي السخاء كواحد من السبل العديدة التي نسعى بها لتحقيق قيمنا، بما فيها القيمة التي نضعها لسعادة الآخرين. وينبغي أن يمارس العطاء في سياق القيم الأخرى التي يعتنقها المرء، وفق مبدأ «أعط حين يساعد العطاء». إنه ليس بواجب، ولا يملك المتلقي أي حق فيه. يميل المؤثر للنظر إلى السخاء كتكفير عن الذنوب، على افتراض أن ثمة شيئًا مريبًا أو آثمًا في كون المرء قادرًا أو ناجحًا أو منتجًا أو ثريًّا. أما المحب لذاته فيعتبر هذه السمات من الفضائل ويرى في السخاء وسيلة للتعبير عن اعتزازه بها.
الثورة الرابعة
ذكرت في البداية أن الرأسمالية أتت كنتيجة لثلاث ثورات، وكل ثورة منها تسببت في انفصال جذري عن الماضي. أرست الثورة السياسية أولوية الحقوق الفردية والمبدأ القائل إن الحكومة هي خادم للإنسان، لا سيده. وأرست الثورة الاقتصادية فهمنا للسوق. أما الثورة الصناعية فوسعت على نحو جذري تطبيق الذكاء على عملية الإنتاج. لكن لم ينفصل البشر قط عن ماضيهم الأخلاقي. والمبدأ الأخلاقي القاضي بأن القدرة الفردية ما هي إلا مزية اجتماعية لا يتوافق مع المجتمع الحر. وإذا أردنا للحرية أن تبقى وتزدهر فسنحتاج إلى ثورة رابعة؛ ثورة أخلاقية ترسي الحق الأخلاقي للفرد في أن يعيش لنفسه.