مقدمة
(١) المصادر والمنهج
يُعالج هذا الكتاب ترجمة حياة تاجر كبير، هو إسماعيل أبو طاقية، زاوَل نشاطه بالقاهرة فيما بين نحو بداية الثمانينيات من القرن السادس عشر حتى وفاته عام ١٦٢٤م، كما يَتناول — في نفس الوقت — فئة التجار الكبار، ومَظاهر سُلوكهم، ونشاطهم التجاري، ودورهم في الاقتصاد الحضَري بتلك الحقبة. ويَبدو التجار — عندئذٍ — وقد خرجوا إلى الضوء بعد الظلال التي لفَّت وجودهم في أوائل القرن السادس عشر. ويُعالج — كذلك — المدى الذي اتَّخذته مُعاملاتهم التجارية بمُختلَف أنواعها، والرخاء الاقتصادي الذي تمتَّعوا به، في وقتٍ غلَب الظنُّ فيه أن التجارة قد أصابها الكساد، وهي ظاهرة تَحتاج إلى تعليل. ونحن — في الواقع — نحتاج إلى إعادة النظر في عديد من الافتراضات، وملء الفراغات التي تتَّصل بما نَعرفه عن تلك الحقبة الزمنية الحاسمة من تاريخنا، ونَستطيع أن نُوسِّع آفاق مَعرفتنا بتلك الفترة التي لا نعلم عنها إلا قليلًا، وأن نضَعها في السياق المنطقي، عن طريق فهمنا لخلفية وأسباب تلك الصحوة التجارية. ونَستطيع أن نَربطها — تاريخيًّا — بالتغيُّرات التي حدثَت — فيما بعد — تحت حكم محمد علي باشا؛ إذ غالبًا ما كانت تُدرَس سياسات ذلك الوالي بمَعزل عن الفترة السابقة عليه، مع التركيز على ما أدخله من تجديدات، وعدم الاهتمام بفِكرة الاستمرارية اهتمامًا كافيًا. وتُتيح لنا هذه الدراسة — أيضًا — إعادة النظر إلى الإقليم بمداه الجغرافي الواسع، فقد ارتبطَت التطوُّرات الاقتصادية في مصر بما كان يَجري في الدولة العثمانية وعالم البحر المتوسِّط؛ ومن ثمَّ، ترى هذه الدراسة أن ما يَحدث في منطقة تَتردَّد أصداؤه في غيرها من المناطق؛ وذلك بدلًا من اعتبار مصر أو عالَم البحر المُتوسِّط الإسلامي، خارج التاريخ، أو بمعزل عن التغيُّر التاريخي في تلك الحقبة.
(٢) الترجمة لماذا؟
لقد وقَع اختيارنا على الترجمة — كسبيل لدراسة الحقبة — لعدة أسباب، وإذا كانت الدراسة تُركز على التجار وأنشطتهم؛ فقد تمَّ ذلك في ضوء السياق العام الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والثقافي؛ ومن ثم جاءت الترجمة مُناسِبة لأنَّها تُقدم نظرة مُتعدِّدة الزوايا للشخصية التي تَتناولها، تتضمَّن المظاهر المُختلفة لعلاقاتها بالمجتمع. ويُساعدنا ذلك على أن نضع التغيُّرات الاقتصادية والتجارية في سياق اجتماعي وقانوني وثَقافي بدلًا من دراستها كظاهرة مجرَّدة مُنعزِلة عن أيِّ سياق محدَّد. والواقع أنَّ الأحوال تداخَلَت في تلك الفترة، وبذلك تُتيح لنا الترجمة لمثل هذه الشخصية تصوير الطريقة التي حدث بها التداخل بين تلك الأحوال وبعضها البعض.
كذلك تُتيح الترجمة للقارئ التوصُّل إلى إجابات لمُختلف التساؤلات التي لا يُمكن طرحها في دراسة تختصُّ بالمسائل الاقتصادية والتجارية وحدها، فتُفسر — على سبيل المثال — الأسباب التي تدفع التجار إلى إنفاق الوقت والجهد والمال في أنشطة لا تتَّصل بالتجارة اتصالًا مباشرًا؛ كمُشروعات العمائر الكبرى، مثل الوكالتَين اللتَين بناهما أبو طاقية وسط القاهرة، أو إقراض الأموال للمُتصلين بالسلطة، أو امتلاك بيوت كبيرة ومليئة بالأتباع والخدم والعبيد، مما يُعدُّ إفراطًا في الإنفاق على المظاهر الاستهلاكية. وغالبًا ما كان كلٌّ من تلك التصرُّفات يتمُّ بدوافع ثقافية يُمكننا تحديدها من خلال دراستنا لحياة إحدى الشخصيات. فقد كان نجاح المشروعات التجارية لأبو طاقية يَرجع إلى مهارته التجارية والاجتماعية، وقُدرته على إقامة العلاقات المتينة والمحافظة عليها. كذلك عكَسَت الحياة العائلية في بيته — بسبل مُختلفة — مكانته الاجتماعية خارج البيت. ودعمت رئاسته للعائلة، والبيت الذي كان ربًّا له، المكانة الاجتماعية التي احتلَّها كواحد من التجار البارِزين.
ورغم أن دراسة ترجمة أبو طاقية مُمتعة في حد ذاتها، إلا أنها تُعدُّ — في نفس الوقت — دراسة للفئة التي انتمى إليها، فمن المُمكن أن نصلَ من خلال دراستنا لتجربة واحد من التجار إلى استنتاجات تتعلَّق بأمور أبعد مدى، تتَّصل بدور ووَضعِ التجار في التغيُّرات التي جرت، والسُّبُل التي اتبعوها لجعل نشاطهم يَتوافَق مع الأحوال الجديدة. فكثير مما فعله أبو طاقية كان يُماثل ما فعله التجار البارِزين من أبناء جيله. وتُسجل المصادر نشاط أولئك التجار من أمثال عائلات الرويعي والشجاعي والعاصي وابن يغمور، الذين اشتغلوا مثله بتجارة البحر الأحمر، فتُسجِّل صفقاتهم، وشركاتهم، وقُروضهم، واستثماراتهم، وغير ذلك من ألوان النشاط التي قدمت لنا مادة تصلح للمقارنة، بمُختلف مظاهر حياة أبو طاقية وتجارته. ومن خلال ترجمة حياة أبو طاقية نستطيع أن ندرس قطاعًا هامًّا من تجار القاهرة خلال تلك الحقبة. كما يُمكننا أن نُحلِّل سلوكه الفَردي في ضوء ما كان يفعله التجار من أبناء جيله، لنرى المَواقع التي كان فيها ذلك السلوك نمطيًّا.
ويرجع اختيار أبو طاقية دون معاصريه من زملائه التجار موضوعًا للدراسة، إلى أسبابٍ عملية بالدرجة الأولى؛ فقد تردَّد على المحكمة أكثر من غيره من زملائه، ولما كانت سجلات المحكمة الشرعية هي المصدر الرئيسي لهذه الدراسة، فإنَّ المادة الخاصة بأبو طاقية — في تلك السجلات — تتَّسم بالوفرة، مقارنة بتلك التي تتعلَّق بمُعاصريه من التجار أمثال أحمد الرويعي، ونور الدين السجاعي، وعثمان ومحمد بن يغمور، وعبد القوي وعبد الرءوف العاصي، الذين عرفهم واتصل بهم ومارس نفس الأنشطة التي مارسوها.
وهناك سبب آخر لاختيار أبو طاقية بالذات يرجع إلى أنَّ الحُجج التي سجلها بالمحكمة الشرعية تُغطي الكثير من الموضوعات وتُوضح مظاهر معاملاته وشركاته ودعاواه القضائية، كما نتعرف من خلالها على زوجاته وعائلته؛ ومن ثم يمكن اعتبار حياة أبو طاقية نموذجًا نمطيًّا لحياة التاجر في عصره، التاجر المُشتغل بالتجارة الدولية وتجارة البحر الحمر التي غلبت على نشاطه. كما تُعدُّ دراسة حياة أبو طاقية — من ناحية أخرى — دراسة لإنسان له شخصيته المُتفرِّدة ومشاعره الخاصة، ومن ثم تُعدُّ حياته ذات طراز فريد.
ولما كانت سجلات المحكمة الشرعية تحتوي على مادة تتعلَّق برفاقه ووسطه الاجتماعي تصلح للمقارنة، فإنَّنا نستطيع أن نميز بين ما كان نمطيًّا وما كان مُتفردًا من أسلوب الحياة.
وتَتناول هذه الدراسة «إسماعيل أبو طاقية» والكثير من زملائه من آل الرويعي، وآل الشجاعي، وآل الذهبي، وآل يغمور، وآل العاصي، وآل البرديني، وغيرهم، الذين احتلوا قمة العمل التجاري بالقاهرة، واشتغلوا بالتجارة الدولية، وخاصة تجارة البحر الأحمر التي جلبَت لهم الربح الوفير. وكان نشاطهم واسع المدى جغرافيًّا، وكبيرًا من حيث الحجم. ورغم أنهم كانوا فئة محدودة من تجار القاهرة في تلك الحقبة، كانت أعمالهم مثل الاتجاهات السائدة خلال الفترة تمثيلًا صادقًا. كما أن وضع أولئك التجار وحجم الأموال التي استثمروها ينمُّ عن اتجاه معين؛ فقد قام أبو طاقية عدة مرات بتدبيرِ مَبالغ تَقرُب من المليون نصف لمشروع تجاري مُعيَّن، بينما كان باستطاعة الشجاعي أن يُدبر في نطاق عائلته مبلغًا يقرب من المليونَي نصف؛ فالمبالغ التي تعاملوا فيها كانت طائلة، ويُمكن أن تُعدَّ نسقًا اتبعه غيرهم على نطاق أصغر. كذلك كانت أنشطتهم التجارية والسِّلَع التي تعامَلُوا فيها كالتوابل، والبُن، والمنسوجات، وخاصة السكر، تُمثِّل السلع الرئيسية التي يزيد الطلب عليها في إستانبول وغيرها من ولايات الدولة العثمانية، وأسواق أوروبا. وبذلك كانت أنشطتهم تصبُّ في المَجرى الرئيسي للتجارة في تلك الفترة.
وعلى الصعيد المنهجي، تُعدُّ الترجمة دراسة محورية للتاريخ من الداخل إلى الخارج، لما تُبرزه من مظاهر حياة الشخصية، وما تُواجهه من أمور حياتها اليومية، فهي تمثل شكلًا من أشكال الكتابة التاريخية، تقوم على مادة مُستقاة من المعاملات اليومية الشائعة، على عكس المادة التي نجدُها في الحوليات التاريخية وغيرها من المصادر التاريخية التي تهتمُّ برصد الحوادث الاستثنائية والأحداث ذات الأهمية الكبرى، فتَسمح لنا الترجمة بقراءة تاريخ الحقبة من خلال الناس، لا الدولة، وممارسات الحياة اليومية، وليس من خلال قرارات الدولة وسياساتها. وقد صيغت المفاهيم من خلال الدراسة المِجهَرية، لا العكس، على نحو ما يحدث في أغلب الأحوال عندما يقوم الباحث بمُحاولة تطبيق نموذجٍ تطوَّر في زمن مختلف، وفي سياق ثقافي آخر، لتفسير التاريخ من زاوية ما يَتناسب وما يتعارَض مع ذلك النموذج، فغالبًا ما تعتمد الدراسات التاريخية على النماذج وإيضاحها، ولم تلقَ اهتمامًا دائمًا إلى القرائن الوثائقية المتوفِّرة عن معظم ولايات الدولة العثمانية، وعن معظم الحقب التاريخية، كما تُبيِّن الترجمة صورة مختلفة لنفس الواقع؛ ومن ثم تُساعدنا على قراءة التاريخ من القاعدة وليس من القمة.
كذلك نرى من خلال الترجمة تداخُل الحياة الشخصية في العمليات الاجتماعية والاقتصادية. وبذلك تَمزج بين مُستويَين من الواقع؛ أولهما دراسة على المستوى المِجهري للمعاملات اليومية لذلك التاجر، والناس الذين تعامَلَ معهم، والبضائع التي اشتراها أو باعها، والوكلاء والشركاء الذين ساعَدُوه في بناء شبكته التجارية. وتُوضِّح كيف شاهد وشارك وتأثَّر وأثَّر في التحوُّلات التي حدَثَت في التجارة والمُجتمَع والمدينة، وفي محيط عائلته. أما المستوى الثاني فيتناول الاعتبارات العامة التي أثَّرت على الاقتصاد والمجتمع خلال الحقبة الممتدة من نهاية القرن السادس عشر إلى بدايات القرن السابع عشر. وبذلك نستخدم ترجمة حياة التاجر لنكتب — في واقع الأمر — تاريخ الحقبة الزمنية التي عاشها.
وقد عشنا مع أبو طاقية بتجربته الشخصية، وبعض التيارات والاتجاهات الهامة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر على مرِّ العقود الأربعة الحاسمة التي أتاحَت لنا سجلات المحكمة الشرعية فرصة تتبُّع «إسماعيل أبو طاقية» خلالها، منذ أن كان شابًّا غض الإهاب، حتى صعد نجمه فأصبح شاهبندر التجار، إلى أن مات محبطًا إلى حدٍّ ما.
(٣) سجلات المحكمة الشرعية مصدر للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي والتراجم
تُعدُّ الحقبة التي تُغطيها هذه الدراسة مِن أكثر فترات تاريخ مصر في العصر العثماني غموضًا، ويَرجع أحد أسباب ذلك إلى المصادر؛ حيث لا يَتوافَر عنها إلا القليل من الحوليات التاريخية أو الكتابات التاريخية. وغالبًا ما يَستند القليل مما كتبه المُؤرِّخون على مصادر أوروبية أو مصادر تتَّصل بولايات عثمانية أخرى، طبَّقت مادَّتها على مصر.
ولا تتوفَّر — غالبًا — المادة التاريخية لكتابة تراجم لفترة ما قبل الحداثة. فليس لدينا في تاريخ الشرق الأوسط يوميات أو مُراسلات خاصة، وهي التي تُشكِّل أساس كتابة الكثير من التراجم. وليس لدينا بالنِّسبة لبعض الحقب الزمنية إلا الحوليات التي تُعدُّ حوليات الجبرتي من أهمها؛ فقد أورَد الجبرتي عند ذكر الوفيات معلومات هامة عن شخصيات معينة، ولكنها ليست كافية لتصوير حياة أيٍّ من الشخصيات التي ورَد ذكرها. وتتجه تلك الحوليات إلى التركيز على الأحداث السياسية وأعمال الحكام، والصراع على السلطة المتَّسم بالعنف، الذي دار داخل المدينة، وعندما يرد ذكر الأحداث السياسية الرئيسية، من النادر أن تذكر الأحداث الأقل أهمية المتصلة بالعائلة. كما أنَّ وفيات الجبرتي تتناول فئات اجتماعية بعينها كالأمراء والعلماء، وتتجاهَل غيرهم، وجاء ذكر بعض التجار أحيانًا، مثل قاسم الشرايبي ومحمود محرَّم، أما الناس العاديُّون فلا ذكر لهم على الإطلاق.
كذلك تركز وفيات التجار على الأحداث البارزة الغريبة في حياتهم والتي تُثير انتباه الناس، وتجعلهم يتذكَّرونها. ولا تكاد الحوليات تهتمُّ بالحياة اليومية، أو المعاملات العادية للتجار أو مظاهر الحياة التي لا تَلفِت الأنظار لأنها تخص عامة الناس. وبذلك يحدث الخلط بين ما جرت العادة عليه وما يُعدُّ استثناء، وبين ما كان عاديًّا، وما يُعد غريبًا. وبعبارة أخرى، تهتمُّ الحوليات ببُعد مُعيَّن في حياة الناس، وغالبًا ما تُغفل ما عداه. وتقودنا كتابة التاريخ استنادًا إلى الحوليات إلى الخروج بافتراضات تختلف تمامًا عن النتائج التي نتوصَّل إليها من خلال استخدام المادة الوثائقية.
غير أنَّ تراجم الجبرتي — مع ما شابَها من قصور — لا غِنى عنها كمصدر للمعلومات عن التاريخ الاجتماعي للقرن الثامن عشر، وليس لدينا نظير لها عن الفترات السابقة على ذلك التاريخ، فيما عدا تراجم الأولياء التي كتَبها بعض المُتصوِّفة كالشعراني. ولا تُقدم لنا الحوليات الخاصة بالقرنَين السادس عشر والسابع عشر إلا معلومات ضئيلة عن الأفراد، وعادة ما تكون عن علاقتهم بالأحداث الهامة. وبصفة عامة، ليس لدينا أي كتابات عن تاريخ مصر الاجتماعي في القرن السابع عشر عامة، والعقود الأولى منه خاصة. والكثير مما كتَب عن تلك الحقبة يَسحب عليها ما هو معروف عن القرن الثامن عشر، أو عن السنوات الأولى من الفتح العثماني أواخر عصر سلاطين المماليك.
ولا يَظهر اسم «إسماعيل أبو طاقية الحمصي» في أيٍّ من التواريخ أو الحوليات المُعاصرة. رغم كونه من أساطين التجار، ومن ذوي الشُّهرة في زمانه. وكان علينا أن نبحث عن المادة اللازمة لدراسة حياة أبو طاقية ونشاطه المهني، ومكانته في المجتمع، في مصدر آخر غير الحوليات.
وسجلات المحاكم الشرعية بالقاهرة التي استندت إليها هذه الدراسة تُقدم صورة حية للحياة اليومية، والمشاكل التي كان يُواجهها الناس يوميًّا مع شركائهم وعائلاتهم وجيرانهم، والبدائل التي طُرحت لحل تلك المشاكل. فهذه المادة الوثائقية عن عامة الناس؛ الحرفيِّين، والعمال، والتجار. وعندما نَتناول أناسًا من أمثال «إسماعيل أبو طاقية» — الذي لم يكن شخصًا عاديًّا — فإنَّ ذلك يتم من خلال المسائل الروتينية التي كان يقوم بها يوميًّا، ولا تتَّصل بأحداث مُعيَّنة كان طرفًا فيها، خلَّدت اسمه في التاريخ. ويَكشف ذلك عن مُستوى آخر للواقع القائم، فنُدرك كيف كانت المؤسسات المختلفة تَعمل، وكيف كانت علاقتها بعامة الناس، بغض النظر عن العنف السياسي الذي كان يَحدث عندئذٍ.
وهناك عدة عوامل شجعت الناس على استخدام المحاكم استخدامًا كثيفًا؛ فقد كانت العدالة بسيطة وسريعة، وكانت مُتاحة لعامة الناس بصورة مُباشرة. ولم يكن المدَّعي بحاجة إلى محامٍ يتوسَّط بينه وبين القاضي، ولم يحتجَّ الناس أن ينتظروا شهورًا حتى يتم الفصل في دعاويهم؛ إذ كان التقاضي عمليًّا جدًّا، فأقيمت عدة قاعات للمحاكم في مختلف أحياء المدينة، وُزِّعت جغرافيًّا بشكل جعلها في مُتناول الناس من سكان المدينة، وكان بكلِّ محكمة قضاة يُمثلون المذاهب الأربعة (الحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي)، وكان مِن حقِّ المدَّعي أن يختار القاضي الذي ينظر دعواه. وقد يتَّجه الشخص الواحد إلى القاضي الحنبلي عندما يشتري أو يستأجر بيتًا، وللقاضي الحنفي عندما يَعقد زواجًا، فلم يكن هناك إلزام على الناس بالتعامل مع مذهَب مُعين. ولعله من الأهمية بمكان أن نعلم أن القضاة استخدموا في أحكامهم ما جرى العرف عليه بين الناس. ولذلك احتشدت قاعات المحاكم بالناس على نحو ما نراه في تلك السجلات. وكانت الإدارة العثمانية مسئولة جزئيًّا عن توفير المحاكم وضمان حسن أدائها. وبمُجرَّد وقوع بلد من البلاد في يد العثمانيِّين، كانت إدارتها تُترك للمؤسسات الإدارية لا العسكرية. وكان من مهامِّ المحاكم أن تعلن المراسيم والأوامر السلطانية للناس، وأن تُراقب تطبيقها، إضافة إلى اضطلاعها بمهمة تطبيق الشريعة؛ فقد كانت الأوامر الصادرة من السلطان في إستانبول تُسجَّل من حين لآخر بسجلات المحكمة بالقاهرة، حتى يمكن الرجوع إليها عند الحاجة. كما أن المنازعات الخاصة بالرسوم الجمركية أو فرض الضرائب كانت تنظر بواسطة القاضي. وجعل هذا الاحترام لوظيفة المحكمة منها ركنًا هامًّا من أركان النظام الإداري.
ويُمكن تجميع تفاصيل حياة أبو طاقية من بين مئات الدعاوى التي كان طرفًا فيها، وخاصة ما جاء منها بسجلات محكمة الباب العالي على مدى نحو الأربعة عقود من الزمان.
وتُعيننا سجلات المحاكم — أيضًا — على فهم أحد مَظاهر مجتمع ما قبل الحداثة، ونعني بذلك الحياة الخاصة، والشخصية، والعائلية. ومُعظم ما كتب عن هذا الموضوع استند إلى كتب الفقه والحديث. وتُعالج كتب الفقه ما اتصل بالأحوال الشخصية من فتاوى وأحكام. ولكن من الناحية التطبيقية، تُعدُّ سجلات المحاكم مصدرًا لا غنى عنه لدراسة التاريخ العائلي، من خلال متابعة المنازعات التي يَنظرها القاضي، والحلول التي قُدمت لحل المنازعات العائلية. وتتناول السجلات بعض الظواهر الأخرى المتَّصلة بالحياة الشخصية والخاصة التي لم يتعرَّض لها المؤرخون من قبل، وخاصة وضع القُصَّر والأطفال في العائلة، والعلاقات بين الإخوة والأخوات، وموقع الصداقة في حياة الناس، وغير ذلك من أمور. وتحتلُّ هذه المادة أهمية خاصة نظرًا لجهلنا التام بتلك الأمور المتعلِّقة بمظاهر الحياة. ورغم الأهمية الحيوية للتركيز على وضع المرأة في العائلة، فقد أضفى ذلك ظلالًا على العلاقات العائلية الأخرى بين أفراد العائلة التي لا تقلُّ عنها أهمية. ولذلك تُعد الإشارات التي نجدها في سجلات المحاكم حول هذه المسائل بالغة الأهمية لما تُلقيه من ضوء على عالم لا زال محاطًا بالغموض.
وسجلات المحاكم — أيضًا — مصدر مفيد جدًّا لتحليل وفهم فئات اجتماعية معينة، سواء كانت حِرفية كالتجار، أمْ عرقية كالشوام والأتراك. ولما كانت عائلة أبو طاقية قد جاءت من حمص واحتفظت بعلاقات وثيقة مع الشوام المقيمين بالقاهرة، نستطيع أن نضع أيدينا على مَظاهر سلوك الشوام بالقاهرة، ونرى موقع أبو طاقية بين تلك الجالية، إذا كان هناك ما يُمكن أن نُطلق عليه هذا المُصطلح. فقد كان من السهل على عائلة تجارية من إحدى المدن الشامية أن تَنتقِل إلى القاهرة، دون أن يترتَّب على ذلك تهميش اجتماعي عند وصولها إلى القاهرة، وبذلك اندمج آل أبو طاقية في جماعة التجار بسهولة دون أن تشوب أوضاعهم الاجتماعية أي شائبة، ويَصدُق ذلك على العديد من عائلات التجار الشوام التي نزحت إلى القاهرة في غضون تلك الحقبة ذاتها. وتكشف السجلات عن النسق الذي اتَّبعته تلك العائلات عند اختيار شركائهم في التجارة، وأصهارهم وجيرانهم، مما ينم عن درجة اندماجهم في المجتمع القاهري، ويتجلَّى ذلك عند مقارنة ذلك النسق من جيل إلى آخر.
كذلك تُتيح لنا سجلات المحاكم أن نُلقي نظرة ثاقبة على تاريخ العمران الحضري، فنتعرف على التطور العمراني للقاهرة، والعوامل الكامنة وراءه؛ إذ تكشف لنا المادة المتعلقة بأبو طاقية والتجار من أبناء جيله عن الشَّكل والاتجاه الذي اتخذه التطور العمراني للمدينة والدور الذي لعبه التجار في تحقيق هذا التطور. وبذلك كان التجار يلعبون — في تلك الحقبة — الدور الذي كان قاصرًا على الحكام من قبل، كالسلاطين والأمراء. وقد أتاح ذلك الدور للتجار الظهور بمَظهر الوجاهة أكثر من بعض التجار في عصور سابقة، بفضل المباني العامة التي شيدوها والأحياء الجديدة التي تمت تنميتها على أيديهم.
وهكذا، رغم أن الفصل في المنازعات القانونية كان من بين المهام الرئيسية للمحاكم، تتضمَّن سجلاتها ما يفوق المنازعات بين الأفراد وبعضهم البعض؛ إذ لجأ الناس إلى المحاكم لأمور تتجاوز نطاق المنازعات، ونتج عن ذلك أن أصبحت السجلات مرايا تعكس الحياة اليومية للناس، على نحو ما عكست وثائق الجنيزة حياة الناس قبل ذلك ببضعة قرون، ويَصدق هذا على حاضرة كبيرة كالقاهرة، ولكنه قد لا ينسحب بالضرورة على غيرها من المدن الصغرى أو مدن الأقاليم، حيث لعبت بعض المؤسسات الأقل رسمية دورها في حياة الناس. ومع وفرة المادة الهامة التي تقدمها سجلات المحاكم للمُؤرِّخين، فإنها لا تخلو من العيوب في بعض جوانبها. لأن تلك السجلات لا تكشف لنا عن رؤية المجتمع لأبو طاقية أو عن صورته عند معاصريه. فالانطباع الذي قد نجدُه عن شخص له مثل مكانته بالحوليات مثل حوليات الجبرتي أو الدمرداشي، يغيب تمامًا هنا، وبذلك نفتقد ما اتصل بمظهر الشخصية العامة عندما نتعامل مع سجلات المحاكم، فلا نعرف ما قاله مُعاصروه عنه، أو الفكرة التي كوَّنوها عنه، وما إذا كانت تصرُّفاته قد حظيت بالقبول والتقدير على الصعيد الاجتماعي، أم إنها كانت موضع الاستهجان، كما لا نعرف رأي الناس في صِلاته بالحكام.
وإلى جانب ذلك، يظلُّ أحد مظاهر الحياة غامضًا بالنسبة لنا عند تعاملنا مع سجلات المحاكم، ونعني به الحياة الروحية والدينية. فلا نستطيع أن نتبيَّن المواقف الدينية لأبي طاقية — مع ما لها مِن أهمية — لأسباب واضحة. ففيما عدا بعض الإشارات التي ورَدَت بالسجلات عن إعادة بنائه لمسجد بالأزبكية، وإلى المسجد الذي بناه بالوكالة التي شيدها، ليس لدينا معلومات عن حياته الدينية. ويبدو أنه كانت له علاقات مع الحركة الصوفية المتنامية عندئذٍ، وخاصة طريقة السادات الوفائية التي جعلها من بين المُنتفعين بوقفه. ويبدو أن عائلته حافظت على تلك العلاقات؛ لأنَّ حفيدته كريمة بنت زكريا أبو طاقية تزوَّجت من شيخ سجادة الطريقة الوفائية، ولكن مصادرنا تلتزم الصمت فيما يتصل بطبيعة تلك العلاقات. مما يجعل ترجمة أبو طاقية تفتقر إلى مثل تلك المعلومات.
(٤) فصول الدراسة
يُعالج كل فصل من فصول الدراسة ظاهرةً مُعيَّنة من حياة إسماعيل أبو طاقية؛ كنشاطه التجاري، وعلاقته بالحكام، وصعود نجم عائلته في مجتمع القاهرة. ويُغطي كل فصل من الفصول — في نفس الوقت — مرحلة من مراحل حياته، كتاجر شاب في العشرينيات من عمره يتعلم أسرار حرفة التجارة، وكتاجر ناجح في الثلاثينيات والأربعينيات من عمره يُعيد ترتيب أنساق تجارته، واستفادته في الأربعينيات من عمره بالمنافع الاجتماعية التي يحظى بها كبار التجار، كما نرى في العقد الأخير من عمره انعكاس مشروعاته التجارية الناجحة على بيته وهيكل عائلته، وذلك باستثناء الفصل الثاني الذي تَناول حياته تناولًا زمنيًّا.
ويقدم الفصل الأول إطارًا إدراكيًّا يُعاوننا على وضع نصف القرن الذي عاش خلاله إسماعيل أبو طاقية، في سياق منظور أوسع لتاريخ الشرق الأوسط، وتاريخ القرن السابع عشر عامة.
ويُبرِز الفصل الثاني — الذي يتناول حياته زمنيًّا — بعض الروابط والعلاقات التي قامت بين المُترجَم له وعائلته، وشركائه، والشوام بالقاهرة، وطائفة التجار، سواء ما كان منها رسميًّا أو خاصًّا.
ويُولي الفصل الثالث اهتمامًا خاصًّا للهياكل والمؤسسات التجارية التي نُظمت ومُوِّلت من خلالها المشروعات التجارية التي أقامها أبو طاقية، والتي كان عليه أن يَعتادها عند بداية حياته العملية نحو الثمانينيات من القرن السادس عشر.
ويُناقش الفصل الرابع التغيرات الأساسية التي غيرت من الأحوال الاقتصادية للتجار، وأدَّت إلى تحرُّرهم من سيطرة الإدارة، وزيادة حجم تجارة البحر الأحمر، كما يرصد ارتباط أبو طاقية بإنتاج السكر، ويُمثل ذلك مرحلة من مراحل حياته العملية، تلَت نجاحه في تجميع مبالغ طائلة من التجارة، استثمرها في الزراعة والإنتاج منذ أواخر التسعينيات من القرن السادس عشر.
ويُعالج الفصل الخامس النتائج الاجتماعية لتلك التغيُّرات؛ حيث أصبح التجار موضع الاعتبار، لا مجرَّد وكلاء للدولة أو الحكام، يَتبادلون المصالح أحيانًا، والمنازعات أحيانًا أخرى، مع رجال السلطة. وأدَّى ارتباط أبو طاقية بالزراعة إلى دخوله في علاقات مع المُلتزمين من العسكر، ويُغطي الفصل العَقْد الأول من القرن السابع عشر تقريبًا.
ويعكس الفصل السادس إحدى النتائج التي ترتَّبت على علو شأن التجار، من حيث مساهمتهم في العمران الحضري لمدينة القاهرة، بما شيَّدوه من عمائر، وما أقاموه من أحياء حملت أسماءهم، فقد لعب تجار تلك الحقبة الدور الذي كان يَلعبه الحكام من قبل في هذا المجال، واهتم أبو طاقية في المرحلة الأخيرة من عمره — من نهاية العقد الثاني من القرن السابع عشر — بإقامة العمائر الكبرى التي تركَت بصماته على المدينة.
ويَنقلنا الفصل السابع إلى داخل بيت آل أبو طاقية، فيناقش العائلة والحياة الخاصة من خلالها. فنرى كيف كانت تسير الحياة في بيت من بيوت كبار التجار، وتأثير التطورات الاجتماعية والاقتصادية على هيكل العائلة، والعلاقات بين أفرادها وبعضهم البعض. ويغطي الفصل السنوات الأخيرة من حياة أبو طاقية عندما بلغ ذروة حياته العملية، ويتتبَّع ما لحق بالعائلة بعد وفاته بسنوات معدودات.
ويُختَتم الفصل الثامن من الدراسة بوضع النتائج التي توصَّلت إليها في السياق العام لتاريخ مصر، ويُبرز أهميتها لفهم تاريخ المنطقة كلها خلال تلك الحقبة الحاسمة من تاريخها.
W. Heyd’s, “Histoire du Commerce du Levant,” Leipzig 1886 and E. Ashtor, Levant Trade in the Later Middle Ages, Princeton, 1983.
Nelly Hanna, “The Administration of Courts in Ottoman Cairo,” in N. Hanna, ed. The State and its Servants, AUC Press, Cairo 1995.