عائلات التجار والبيوت التجارية العائلية
(١) الإطار الاجتماعي
تُعيننا دراسة النشاط التجاري الذي مارَسه إسماعيل أبو طاقية ونخبة التجار من أبناء جيله، على إيضاح عدد من الأمور المتصلة بالمجتمع في عصرهم؛ إذ يغلب الظن أن قواعد السلوك الاجتماعي الصارمة تكشف عن الكثير من مظاهر حياة الناس، أو عن غالبية تلك المظاهر؛ فقد كان الحراك الاجتماعي محدودًا، سواء أكان رأسيًّا نحو قمة السلَّم الاجتماعي، أم أفقيًّا من شريحة اجتماعية إلى أخرى. ولما كانت تلك الآراء قد تكوَّنت في الغالب على أساس نماذج نظرية أكثر من اعتمادها على أدلَّة وثائقية، فمن الأفضل أن نتساءل عن مدى استناد تلك المقولات إلى مادة وثائقية خالصة فيما يتعلَّق بمجتمع مُعيَّن، ويتفق الباحثون عامة على أن العائلات، والطوائف، والجماعات العرقية، والمؤسسات القانونية، وضعت ضوابط على سلوك الناس، وأن كل عمل يُقدِم عليه الفرد، لا بد أن يتوافَق مع القواعد التي وضعَتْها تلك المؤسسات الاجتماعية والقانونية. ولكنَّ الباحثين يختلفون حول درجة ومدى صرامة تلك القواعد والنُّظم في حِقَب زمنية بعينها.
لقد تنقَّل أبو طاقية بين عدد من مُختلف التجمُّعات شأنه في ذلك شأن معظم سكان القاهرة. وكان الأكثر أهمية بالنِّسبة له عائلته، ومجتمع التجار، ومجتمع الشوام بالقاهرة. ولعلَّ ذلك كان يتضمَّن — بالنسبة لغيره من القاهريين — عُضوية طريقة من الطرق الصوفية العديدة التي كان الناس يَلجئون إليها التماسًا للهداية الدينية، أو الانتماء إلى «حارة» وهو الحي الذي يربط السكان بمنطقة معينة، إضافة إلى روابط العائلة والحرفة؛ ومن ثم قد يرتبط الفرد طوال حياته بعدد من المؤسسات المختلفة المتصلة بحياته المهنية والدينية والعائلية.
وقد يُعطي هذا التعدُّد في الروابط انطباعًا أن حياة الفرد كانت تخضع تمامًا لسيطرة عدد من الجماعات المختلفة، فرضت كلٌّ منها عليه التزامات مُعيَّنة، تاركة له مساحة ضيقة للمبادرة الفردية. ويبدو من المنطقي تمامًا القول بأنَّ تلك الحدود والضوابط كانت أكثر ليونة في فترات الاضطراب — كتلك التي نحن بصدَدِها — منها في فترات الاستقرار.
وتُشير ترجمة إسماعيل أبو طاقية إلى أنه على الرغم من قيام كل جماعة من الجماعات التي ينتمي إليها الفرد، سواء أكانت العائلة أم الحرفة أم غيرها، بفرض ضوابط أو التزامات مُعيَّنة على سلوك الفرد، فإنَّ ثمة جوانب كثيرة من حياة الناس خرجت عن إطار تلك الضوابط، وكانت هناك القنوات التي استطاعت المبادرة الفردية أن تُعبِّر عن نفسها من خلالها وخاصة في أوقات التغير، وإلا كان من الصعب علينا أن نلاحظ الكيفية التي وقعت بها التحوُّلات التي رصدناها في مجال النشاط المِهَني لعائلة أبو طاقية؛ فقد استطاع إسماعيل أبو طاقية أن يَرتقيَ أعلى مراتب طائفة التجار استنادًا إلى عائلته والجالية الشامية التي انتمى إليها. والحقُّ أن عائلة أبو طاقية لم تمرَّ بتجربة الانتقال الجغرافي من حمص إلى القاهرة فحسب، بل ما لبثت ذريتها أن انتقلت من شريحة اجتماعية إلى أخرى، من التجار إلى النخبة الحاكمة.
أضف إلى ذلك أن دراسة حياة أبو طاقية تُبيِّن علاقاته — الحركية لا الثابتة — بمختلف الجماعات، وتُبرز طريقة تعامله معهم. وبعبارة أخرى، نستطيع أن نُلاحظ المناورات التي شق بها طريقه في مختلف مراحل حياته، من مرحلة إلى أخرى، مُعتمدًا على هذه الجماعة أو تلك، وفقًا للظروف والأحوال التي واجهَتْه في أوقاتٍ بعينها. ففي مرحلة معينة، كان إسماعيل أبو طاقية على صلة وثيقة بأفراد شريحة التجار الشوام، وفي مرحلة أخرى اتخذ لنفسه شركاء من المصريِّين. وحدث نفس الشيء على صعيد العائلة، فكانت صلاته وثيقة بأخيه في بداية الأمر، ثم توقَّفا بعد ذلك عن التعامل التجاري معًا. ونستطيع أن نُلاحظ نوعًا من المرونة في طريقة إقامته للعلاقات مع أعضاء مختلف الجماعات، يعمل على تقويتها أحيانًا، ويُضعفها أحيانًا أخرى.
ومن تلك الجماعات عائلته؛ إذ يمكن القول إنَّ إسماعيل أبو طاقية لم يَختَر مهنته اختيارًا حرًّا شأنه في ذلك شأن معظم الذكور في عائلته الذين مارسوا التجارة لثلاثة أجيال مُتعاقِبة على أقل تقدير. فلم يكن أحمد والد إسماعيل، وكذلك إسماعيل نفسه، وولده زكريا تجارًا فحسب، بل كان عمُّه عبد الرازق وابن عمه يَحترفان التجارة، وكذلك كان شقيقه ياسين تاجرًا. وبذلك كانت عائلة أبو طاقية تَحترف مهنة واحدة شأنها شأن غيرها من العائلات؛ حيث كان الأب يُلقِّن ولده أسرار مهنته، لينقلها بدوره إلى ابنه الذي ينقلها بدوره إلى ذريته. وكانت العائلة في تلك الحالة تقوم بعدد من الوظائف؛ فهي تُدرب الشباب مثلًا على امتلاك زمام الأمور في العائلة، وفي أوقات معيَّنة كان العمل التجاري يتم داخل العائلة إما في صورة مشاركة رسمية موثَّقة أو غير موثقة. وكان التاجر يقترض أموالًا من عائلته إذا دعت الحاجة لذلك، كما كانت تتم زيجات مُعيَّنة في محيط العائلة، ولا بدَّ أن تقوم العائلة بتقديم الدعم اللازم لأفرادها وقت الحاجة.
وهناك جماعة أخرى تَحرَّك داخلها آل أبو طاقية كأفراد أو كعائلة، هي جماعة الشوام بالقاهرة. ونحن نَعلم أن الكثير من الشوام كانوا يعيشون بالقاهرة كما يتَّضح من أسمائهم التي تدلُّ على موطنهم الأصلي؛ كالشامي والحلبي والصفدي والحموي والحمصي والبعلبكي والنابلسي والقدسي وغيرهم. وكان بعض الشوام تجارًا وبعضهم الآخر من الحرفيِّين وخاصة نسَّاجي الحرير الذين كان مُعظمهم من الشوام. كما جاء الكثير من الشوام إلى مصر للدراسة في الأزهر، وكان بالأزهر رواق للشوام منذ عهد السلطان المملوكي قايتباي (المتوفَّى عام ١٤٩٦م). ويبدو أن مجتمع الشوام بالقاهرة كان كبيرًا، غير أنه ليس لدينا دليل على وجود طائفة للشوام تُمثِّل إطارًا تنظيميًّا للجالية الشامية تحظى باعتراف الدولة، ولها شيخها الذي يَنوب عنها أمام السلطات الرسمية؛ فقد كان العثمانيون يتبنون سياسة تتجه إلى الاعتراف الرسمي بمثل تلك الطوائف في مختلف الولايات، أو تتَّخذها عند الضرورة كأداة للتحكم في أعضائها. وقد ساعدت تلك السياسة الرعية على الاحتفاظ بتقاليدهم وأنماط حياتهم، طالما كان ذلك لا يمسُّ المصالح العثمانية.
وكان من سكان المدن — كالقاهرة وحلب والقدس — جماعات من الأتراك والأرمن والمغاربة واليهود واليونانيين، حافظت كلٌّ منها على خصوصيتها الثقافية أو الدينية أو اللغوية. ولعلَّ عدم وجود طائفة يَنتظم فيها الشوام بالقاهرة يعود إلى اندماج الشوام في غالبية سكان المدينة بشكلٍ أكبر من أولئك الذين شكَّلوا طوائف خاصة بهم؛ وذلك لكثرتهم العددية وللروابط التاريخية العميقة الجذور التي ربطت الشوام بمصر. ولعله من الطريف أن نستطيع تتبع عائلة قاهرية من أصول شامية لنَقف على مدى اندماجها في المجتمع القاهري.
كانت صلات آل أبو طاقية بالشوام تتَّسم بالتعقيد؛ فقد استمرَّت صلاتهم حية بأصولهم الشامية لوقتٍ طويل بعد استقرارهم بالقاهرة واندماجهم في نسيجها الاجتماعي. وساعدهم الشوام على الاستقرار بينهم عشية قُدومهم إلى القاهرة، كذلك عندما أصبح إسماعيل أبو طاقية شاهبندر التجار توقَّع الشوامُ منه أن يمد لهم يد العون. وكثيرًا ما كان أبو طاقية يتَّخذ من بعض الشوام شركاء له في التجارة. كما كان التزاوُج بين الشوام كثير الحدوث، واختار الكثير من آل أبو طاقية أزواجهم من الشوام. ونستطيع أن نتتبع الصلات بين آل أبو طاقية وأفراد ينتمون إلى جماعة الشوام على مدى عقود عدة من الزمان، ونلاحظ — في نفس الوقت — كيف أصبحت العائلة أكثر اندماجًا في الشريحة العليا من المجتمع القاهري.
وكان تجار القاهرة يَنتظمون في طوائف عدة، تَتبع أحيانًا المكان الذي يُمارسون فيه أنشطتهم؛ فقد كان تجار سوق مرجوش — على سبيل المثال — يُشكلون طائفة خاصة بهم. وانتظمت بعض الطوائف تجارًا يشتغلون بأصناف معيَّنة. وكان شيخ طائفة تجار البحر الأحمر هو الذي يحمل لقب «الشاهبندر»، وكان من الجليِّ أن تلك الطائفة شملت أبرز تجار القاهرة. وكان الشاهبندر يُمثل طائفته أمام السلطات شأنه في ذلك شأن شيوخ الطوائف الأخرى، وكان عليه أن يفعل الكثير لخدمة مصالح زملائه التجار.
ولسوء الحظ، لا نَعرف من بين سائر الطوائف القاهرية إلا القليل عن طائفة التجار، فلم تَجد طائفة التجار — لسببٍ ما — أن ثمَّة ما يدعو إلى عرض أمورها على المحكمة الشرعية من حينٍ لآخر بنفس القدر الذي كانت تفعله الطوائف الأخرى. فبينما تحفل سجلات المحاكم الشرعية بالقضايا المتعلِّقة بطوائف الصناع والحرفيِّين مثل طائفة النقَّاشين وطائفة السقائين، وتُمدنا تلك القضايا بالمعلومات حول انتخاب شيوخ الطوائف والقواعد التي تحكم الطوائف وتُحدِّد سلوك أعضائها، ونوعية السلع التي يُنتجونها، والطريقة التي يحصلون بها على المواد الخام وكيفية توزيعها على الأعضاء، وغير ذلك من الأمور التي تهمُّ المنتمين إلى طوائف بعينها، لا يتوفر ذلك بالنسبة لطائفة التجار. ولذلك لا نعرف إلا القليل عن نوع الدعم الذي كانت تُقدمه طائفة التجار لأعضائها، أو الضوابط التي كانت تَفرضها عليهم. ويبدو أن المؤرخين يتَّفقون على أن المنازعات كانت أقل كثيرًا بين التجار منها في الطوائف الحرفية الأخرى. وفي الحقيقة، لم تُذكَر الطائفة في السجلات إلا عندما أصبح إسماعيل أبو طاقية شيخًا لها.
وإلى حدٍّ كبير، كان معظم نشاط التجار يتم في نطاق له خصوصية تامة، وكانت أهم الأعمال التجارية تُمارَس بشكل مستقل عن بنية الطائفة، وهو ما نتوقعه من طائفة تنتظم التجار المشتغلين بالتجارة الدولية؛ حيث لم تكن هناك مشاكل الحصول على المواد الخام، أو توزيعها على الصناع، أو التحكُّم في نوعية السلع المنتجة، مما كان يمثل بعض اختصاصات الطوائف الحرفية.
وبذلك أُطلقَت يد التجار في ارتياد ما شاءوا من الطرق في مجال التجارة الدولية الخارجية. وعلى سبيل المثال، كان شركاء إسماعيل أبو طاقية في نشاطه التجاري الدولي من بعض أفراد العائلة كأبيه وأخيه، أو تجارًا مثله لهم محالُّ بسوق الوراقين؛ حيث تتوثَّق الروابط بينهم. وأحيانًا كان من بين أولئك الشركاء بعض الشوام من حمص أو دمشق أو طرابلس أو صفد، الذين جمعهم به الانتماء إلى أصول واحدة. ولا زال الغموض يحيط بالطريقة التي عملت بها الطائفة بصورة فعالة لخدمة مصالح المنتمين إليها من التجار.
وأحيانًا كانت المعاملات اليومية التي يقوم بها التجار في السوق تؤدي — على الصعيد الفردي — إلى قيام روابط وثيقة بينهم قد تستمر لمدى الحياة، كعلاقة إسماعيل أبو طاقية بعبد القادر الدميري التاجر الذي الْتقاهُ شابًّا في سوق الحرير، وأدَّت تلك الروابط — أحيانًا أخرى — إلى قيام علاقة مُصاهَرة. ونرى مثالًا لذلك في علاقات إسماعيل نفسه وأخواته وبناته، وخاصة اللاتي تزوَّجن في حياته. وبعبارة أخرى، كانت تلك الروابط أقوى كثيرًا من العلاقات المهنية المحضة.
لعبَت تلك الجماعات الثلاث دورًا في حياة أبو طاقية المهنية والشخصية، وغالبًا ما تداخلت مع بعضها البعض، وأحيانًا كان دور إحداها بارزًا في فترة معينة، ثم برز بعد ذلك دور غيرها في فترة لاحقة، غير أن وجودها كان ماثلًا دائمًا. ونستطيع أن نُقسِّم العقود الزمنية التي تغطيها هذه الدراسة إلى ثلاث مراحل من تاريخ العائلة: تغطي الأولى منها انتقال العائلة من الشام إلى مصر والسنين الباكرة من حياة إسماعيل وأخيه ياسين، وتتناول المرحلة الثانية إسماعيل في رشده ومشاركته لوالده وأخيه في مشاريعهم التجارية. وتعالج المرحلة الثالثة نشاط إسماعيل خارج إطار مشاركة العائلة، وفي تلك المرحلة بلغ الذروة ووصل إلى مرتبة الشاهبندر. غير أن سنوات عمره الأخيرة كانت مخيِّبة للآمال على الصعيدين الشخصي والعائلي.
(٢) الهجرة من الشام إلى مصر
وتأخُذُنا المرحلة الأولى من أحمد أبو طاقية إلى مطلع حياة ولده «إسماعيل»؛ حيث لعبت ظروف تلك المرحلة دورًا في الصلات الحمصية التي احتفظ بها إسماعيل في تجارته وعلاقاته الاجتماعية والعائلية. كما تدلُّ دلالة كبيرة على نوع ومدى علاقات التبادُل التجاري والثقافي والاجتماعي بين مصر والشام، وتُعدُّ هذه المرحلة من تاريخ العائلة أقل المراحل توثيقًا، فليس لدينا ما يشير إلى تاريخ ميلاد إسماعيل أبو طاقية أو أي من أفراد عائلته. وهو أمر مُتوقَّع طالما لم تجر العادة على ذكر تواريخ الميلاد. ولا تقدم لنا الحوليات — مثلًا — مثل تلك المعلومات. كما لا نَعلم علم اليقين تاريخ انتقال العائلة من حمص إلى القاهرة، أو دوافع ذلك الانتقال، رغم أننا نعرف أن آل أبو طاقية كانوا يعيشون بالقاهرة في عقد الثمانينيات من القرن السادس عشر. وربما كان أحمد أبو طاقية والد إسماعيل أول من استقرَّ بالقاهرة، فنجده يَنفرد بين الأجيال الثلاثة من آل أبو طاقية الذين اقتفينا أثرهم في الوثائق بالاحتفاظ بلقب «الحمصي» في نهاية اسمه حتى وفاته عام ١٠٠٥ﻫ/ ١٥٩٦م، واستخدم كلٌّ من إسماعيل وياسين لقب الحمصي بانتظام حتى مطلع القرن السابع عشر، ثم أسقطاه من اسميهما. وعندما بلغ زكريا بن إسماعيل أبو طاقية سن الرشد لم يُستخدم ذلك اللقب. كذلك كان الخواجة أحمد أبو طاقية هو الذي حافظ على الروابط مع بلاد الشام وظلَّ ينتقل بين مصر والشام، وعندما بلغ ولداه الرشد في ثمانينيات القرن السادس عشر، واستطاعا الوقوف على أقدامهما، كانت العائلة قد استقرَّت تمامًا بالقاهرة.
ولا بد أن يكون أحمد أبو طاقية قد واجه صعوبات من نوع آخر عند وصوله إلى القاهرة. فقد كانت هناك بعض الاختلافات الثقافية بين المصريين والشوام، كما أن حمص مدينة صغيرة ذات أهمية ثانوية قياسًا بالقاهرة المدينة الكبيرة المُزدحمة بالسكان ذات الطبيعة العالمية، ولا بد أن تكون المنافسة في مثل هذه المدينة الكبيرة ثقيلة الوقع على الوافدين الجدد. أضف إلى ذلك بُعد الشُّقة بين القاهرة وحمص وصعوبة السفر التي باعدَت بينه وبين عائلته، إلى غير ذلك من مشاق ترتبط بالنزوح من الموطن الأصلي. وكان النازحون عادة يحرصون على اصطحاب بعض الأقربين من أفراد عائلاتهم، وكان من حسن حظ أحمد أبو طاقية قدوم أخيه عبد الرازق (وكان تاجرًا مثله) إلى القاهرة واستقراره بها. وقد تزوَّجت رومية بنت عبد الرازق من إسماعيل بن أحمد فيما بعد، كما تزوَّج أحمد بن عبد الرازق من ليلى بنت أحمد أبو طاقية أيضًا.
ويُشير ذلك إشارة واضحة إلى أن الأحداث السياسية لم تؤثر بالضرورة على ظاهرة الهجرة، أو التجارة. وتُوضِّح هجرة عائلات مثل أبو طاقية وابن عريقات من حمص ويغمور من حلب وغيرهم، استمرار التجارة والروابط الاقتصادية بين مصر والشام، رغم أنَّ الفتح العثماني للبلدين فرق بينهما، بعد أن كانتا تُمثلان دولة واحدة تحت حكم سلاطين المماليك. وعلى أية حال، كانت السهولة النِّسبية التي أحاطت بنزوح عائلة أبو طاقية وغيرهم من التجار الشوام إلى القاهرة واندماجهم في مجتمعها، وممارستهم لحرفتهم وتمتعهم بنفس المكانة الاقتصادية والاجتماعية أمرًا بالغ الدلالة على عمق العلاقة بين مصر والشام.
وحافَظَ أحمد أبو طاقية على علاقته ببلاد الشام بعد استقراره بالقاهرة، فكان ينتقل بين القطرَين، حاملًا السلع المصرية إلى الشام، ويعود بالبضائع الشامية إلى مصر ليبيعها في سوق القاهرة. ويبدو أنه انفرد بذلك بين عائلته، فلا نكاد نجد في الوثائق أثرًا لظاهرة الترحال بين البلدَين في الأجيال التالية، بل من المؤكد أن إسماعيل أبو طاقية لم يسافر أبدًا إلى بلاد الشام، وإن كان قد مارس التجارة مع كثير من الشركاء الشوام. ولم تكن بالقاهرة حارة للشوام مثل حارة المغاربة التي كانت تقع شمالي المدينة، أو حارة الإفرنج؛ حيث كان يعيش الأوروبيون، غير أنَّ بعض أماكن العمل كانت تضم نسبة عالية من الشوام مثل سوق الحرير ووكالة الصابون، وطبيعي أن يتعامَل آل أبو طاقية في سوق الحرير مع أبناء جلدتهم من الشوام. وعلى كلٍّ، حرص أفراد العائلة على اختيار أزواجهم من بين الشوام أو حتى الحمصيِّين المقيمين بالقاهرة. كما يُمكننا رصد التغيرات التي لحقت بالعائلة فيما بين نُزوحها إلى القاهرة واتساع ثروتها وتكوينها لعلاقات وثيقة مع الطبقة الحاكمة.
(٣) التنشئة في القاهرة
والمرحلة الثانية من تاريخ عائلة أبو طاقية تُغطي السنوات الأولى من عمر إسماعيل وأخيه ياسين أبو طاقية وتعليمهما ودخولهما عالم التجارة؛ ففي تلك المرحلة عمل الأب وولداه معًا، حيث اكتسب الولدان الخبرة من أبيهما، حتى إذا شبَّا عن الطوق، كوَّن الولدان مع أبيهما شركة واحدة. واتَّسمت تلك المرحلة من حياة إسماعيل وياسين بالنشاط داخل دائرة مُغلَقة تضم العائلة من ناحية، والتجار الشوام بالقاهرة من ناحية أخرى.
وليس لدينا وثائق تُعالج طفولة إسماعيل وأخيه وصباهما إذا ما تذكرنا طبيعة سجلات المحكمة الشرعية، فلا يُمكننا أن نقف على ملامح الطفولة إلا إذا درسنا مئات الوثائق التي تَحمل أسماء أطفال من تلك التي تَرِد بالسجلات. ولكنَّنا نفترض أن الولدَين — إسماعيل وياسين — سارا على المنوال الذي كان مُتبعًا في المجتمعات الحضرية في ذلك الزمان فيما يتَّصل بتعليم الأولاد من أبناء طبقتهما الاجتماعية، وكذلك ما اتصل بالتدريب على حرفة التجارة.
(٤) مشاركة العائلة
ونستطيع تتبُّع آل أبو طاقية وهم يتحوَّلون من عائلة تجار إلى بيت تجاري عائلي. فقد كانوا عائلة تجار منذ أيام والد أحمد أبو طاقية وجدِّه، وربما لأجيال أبعد. فكان أفراد العائلة الذين اشتغلوا بالتجارة وحملوا لقب خواجة أو خواجكي هم أحمد والد إسماعيل وعمه عبد الرازق وجده يحيى، وفيما بعد حمل أخوه ياسين وولده زكريا نفس اللقب. ولكن ذلك لا يعني أنهم كانوا يُشكِّلون بيتًا تجاريًّا عائليًّا، بمعنى اشتراكهم معًا في نشاط واحد برأس مال واحد، وقيام أفراد العائلة بارتياد الأماكن التي تُجلب منها السلع أو تُباع فيها البضائع.
ولكنَّ تحوُّلًا حدث في علاقة آل أبو طاقية ببعضهم البعض، ربما في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن السادس عشر. فعندما بلغ إسماعيل وياسين الحلم، حاوَلا أن يُقيما بالاشتراك مع أبيهما بيتًا تجاريًّا كشركاء يَستثمِر كلٌّ منهم فيه جزءًا من رأس ماله، ويَقتسم ثلاثتهم الأرباح التي يتمُّ تحقيقها. وبذلك أصبح آل أبو طاقية في هذه المرحلة يُشكِّلون بيتًا تجاريًّا عائليًّا، وليسوا مجرَّد عائلة من التجار. وظاهرة البيوت التجارية العائلية المُشتغِلة بالتجارة الدولية كانت معروفة تمامًا، فمثلًا كان الكارمية الذين اشتغلوا بالتجارة في القاهرة المملوكية يَنتظمون في مؤسسات تجارية عائلية. فلم تنتقل حرفة التجارة من الأب إلى الابن فحسب، بل شكَّلوا شبكات تجارية امتدَّت إلى آسيا وسواحل البحر الأحمر وأفريقيا قامت على أساس علاقات عائلية، وعلى كلٍّ فإن البيوت التجارية وعائلات التجار لم يُمثِّلوا أشكالًا تبادلية لحِرفة التجارة؛ فالبيوت التجارية العائلية لم يَقتصِر على استخدام أفراد العائلة، ولا بد أن يكونوا قد استخدموا أفرادًا من خارج نطاق العائلة للقيام بالأعمال المتشعِّبة التي كانت ضرورية لإدارة مصالح تلك البيوت بصورة فعالة. كما أنه كان بالإمكان أن يقوم التجار الذين يتعامَلُون مع غيرهم من أبناء الحِرفة بمُشاركة أحد أفراد عائلتهم. ولكن هناك فروق تنظيمية معيَّنة وجدت بين النمطين تتصل بإدارة دفة العمل، فعلى سبيل المثال كان تسجيل وتوثيق الصفقات أو الاتِّفاقات التجارية أكثر أهمية بين التجار الذين لا يَرتبطون ببعضهم البعض بصلة القربى. ولعل السبب المباشر لهذا التحوُّل في النسق التجاري الذي مارسه آل أبو طاقية يعود إلى اشتغالهم بتجارة البحر الأحمر وهي التجارة التي انخرط فيها كبار التجار لما تُحقِّقه من أرباح طائلة. وينسحب وضع التجار الذي يَصفه أندريه ريمون عند حديثه عن تجار القرن الثامن عشر على العقود المتأخِّرة من القرن السادس عشر، من حيث قيام أثرياء تجار القاهرة بالاشتغال بتجارة البحر الأحمر. ومن ثم كان الانتقال من التجارة الشامية إلى تجارة البحر الأحمر يُمثِّل مرتبة أرقى في سلك التجار. وتدلُّنا حقيقة دخول آل أبو طاقية دائرة تجارة البحر الأحمر في ذلك الوقت بالذات — بعد قرن من استقرار البرتغاليين في الهند — على كثافة النشاط التجاري في ذلك المجال الذي كان لا يزال يتَّسع بدرجة تسمح بقبول الوافدين الجدد من الشام مثل آل أبو طاقية وآل ابن يغمور.
وكان الاشتغال بتجارة البحر الأحمر يعني السفر إلى مكة وجدة؛ حيث تتجمَّع البضائع القادمة من الهند، وهي رحلة كانت تتمُّ إما عن طريق البحر — وخاصة خلال موسم الحج — أو عن طريق البحر في موسم معيَّن؛ حيث كان ارتياد البحر الأحمر مرهونًا بشهور معينة من السنة تطيب فيها الملاحة في ذلك البحر. وتطلَّبت الرحلة حمل مبالغ مالية كثيرة والبقاء في مكة وجدة وقتًا طويلًا، وشبكة من الأفراد الذين يُرتِّبون الصفقات ويُباشرون شحن البضائع، وقد دفع ذلك آل أبو طاقية إلى حشد رءوس أموالهم وجهودهم معًا.
ولا بد أن يكون آل أبو طاقية قد مارَسُوا نشاطهم المشترك ردحًا من الزمان؛ فقد سافر أحمد أبو طاقية بصحبة ولده الصغير ياسين في شوال عام ١٠٠٤ﻫ/ ١٥٩٥م إلى الحجاز مع قافلة الحج. وكان الحج يُوفِّر للتجار فرصة عقد صفقات هامة، إضافة إلى أداء الفريضة الدينية، كما كان السفر ضمن قافلة الحج أكثر أمنًا؛ لأنَّ الدولة كانت تُوفر الحماية للقافلة، وتصحبها دائمًا فرقة عسكرية. وكانت مكة مُلتقى التجار من مختلف بلاد الإسلام خلال موسم الحج، الذين كانوا يَحملون معهم بضائعهم، ومن ثم أتاحت لهم مكة — كمركز تجاري — فرصة عقد الصفقات خلال موسم الحج، هذا فضلًا عن تمتعهم بالإعفاء من الرسوم الجمركية لقدومهم مع قافلة الحج.
(٥) أنماط تجارية جديدة
ولا شك أن علاقته بعبد القادر الدميري شجَّعته على أن يخطو تلك الخطوة. وربما كان لقاءهما نحو منتصف ثمانينيات القرن السادس عشر في سوق الورَّاقين وسوق الحرير؛ حيث كان الخواجة عبد القادر الدميري التاجر المصري يمارس تجارة الحرير في محلٍّ بتلك السوق. وقد تعامل إسماعيل أبو طاقية مع الدميري معاملات محدودة في بداية الأمر، ثم تطورت علاقتهما إلى مشاركة في التجارة الدولية. فقاما بعدد من الصفقات، مستقلين أحيانًا، أو بالمشاركة مع أبو بكر الدميري قريب عبد القادر أحيانًا، وبعض التجار الآخرين أحيانًا أخرى. وهي الصفقات التي قادَتْهما على طريق النجاح في العمل التجاري، ودعمته صداقة حميمة بين الرجلين.
ومن الطريف أن نُحلل العلاقة بين الرجلين، فرغم توفُّر بعض المادة التاريخية حول العلاقات داخل الخلايا الاجتماعية كالأسرة أو الطائفة أو الجالية، يندر أن نجد ما يُعينُنا على تحليل العلاقات التي تطورت بصورة مستقلة خارج إطار تلك المؤسسات الاجتماعية، على أسس نابعة من الاختيار الحر للطرفين.
بدأت العلاقة كصلة عمل من خلال التعامل التجاري، وتطوَّرت بمرور الزمن لتتخذ أبعادًا أخرى، ولعلَّها كانت أكثر علاقات أبو طاقية ثباتًا ومتانةً، فكوَّنت جانبًا من حياته العملية والعامة، والحق أن صداقة الرجلين دامت طوال حياتهما منذ بداية تعارُفهما في الثمانينيات من القرن السادس عشر، وتجاوَزت العواصِف والخصومات القضائية التي قد تُسبِّبها المشاركة في التجارة. وكانت علاقة الرجلين قريبة الشبه بصلة القربى، رغم أنهما لم يرتبطا ببعضهما البعض برباط المصاهرة. فكانت صلتهما تقوم على الاختيار الحر لا على الالتزام العائلي التقليدي. ولم يَشتركا معًا في التجارة فحسب، بل امتلَكا العقارات معًا، وأقاما وَقْفًا مُشتركًا، وتشاركا في امتلاك المحلات بسوق الوراقين. وكانت المشاركة في امتلاك العقارات بالمدن أمرًا شائعًا طالما كانت التركات ملكًا مشاعًا للورثة. وفي حالة الصديقين الدميري وأبو طاقية كانت المشاركة في امتلاك العقارات لونًا من ألوان استثمار الأموال عندهما بعيدًا عن الالتزامات الاجتماعية أو القانونية. وقرب نهاية حياة إسماعيل أبو طاقية اشترك الرجلان في بناء وكالتين كبيرتين، ما لبثا أن قاما بتحويلهما إلى وقف، ولا زالت آثارهما باقية بالشارع الذي يَحمل اسم شارع خان أبو طاقية.
وعلى صعيد الحياة المهنية لإسماعيل أبو طاقية، حدَّدت علاقته بالدميري اللون الجديد من النمط التجاري الذي كان بصدد تكوينه، بعدما نحَّى جانبًا روابطه بالشوام وبتجارة العائلة. ولكن ذلك لا يعني أنه قد أوقف التعامل مع التجار الشوام، فنجده من حين لآخر يشارك تجارًا يَحملون أسماء الطرابلسي أو الصفدي أو الشامي أو الحمصي، إشارة إلى المدن الشامية التي جاءوا منها. وإذا كان أبو طاقية لم يَقطع صِلاته التجارية بالشوام، فإنهم لم يكونوا في مقدمة المتعامِلين معه. كذلك لم يتوقف عن الاتجار مع بلاد الشام، غير أن تلك التجارة لم تحتلَّ الأولوية عنده أو تختص بجانب كبير من استثماراته. ويَنسحِب نفس الشيء على معاملاته التجارية مع أسرته، فرغم عزوفه عن صيغة البيت التجاري العائلي، نجده يَعقِد صفقة من حين لآخر مع أخيه ياسين ومع أحمد عريقات صهره. ولذلك اتخذت صفقاته مع أفراد الأسرة الطابع الرسمي أكثر مما كان متبعًا في حالة البيت التجاري العائلي. ويتَّضح ذلك في عقود المشاركة المُبرمة بينه وبين من تعامل معهم من أفراد العائلة والمسجلة بالمحكمة؛ حيث يوجد بسجلات المحكمة ما يزيد على العشرين من تلك العقود التي أبرمها إسماعيل أبو طاقية فيما بين ٩٩٦ﻫ/ ١٥٨٧م، و١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م. وتتَّضح علاقته الخاصة بالدميري من تلك العقود؛ فقد كان عبد القادر الدميري طرفًا ثانيًا في خمسة عشر من تلك العقود.
واتخذت الحياة العملية لإسماعيل أبو طاقية في مجال التجارة الدولية أبعادًا كثيرة منذ مطلع التسعينيات من القرن السادس عشر؛ فعلى الصعيد الجغرافي ظل البحر الأحمر يمثل القطاع الأكبر لنشاطه التجاري، ولكنه ما لبث أن امتدَّ شرقًا إلى مخا باليمن، ثم إلى الهند. وكانت الشبكة التجارية التي أقامها تضمُّ شركاء ووكلاء يسافرون بين القاهرة والهند، أو إلى مكة وجدة؛ حيث يَنتدبون شريكًا من الشركاء هناك للسفر إلى الهند نيابة عنهم، وهو ما كان يفعله غيره من تجار ذلك الزمان. وكانت الهند عندئذٍ أقصى مركز تجاري في الشرق يتعامَل معه تجار القاهرة، كما أن عدد التجار القاهريِّين الذين اتصلوا مباشرة بالهند ظلَّ محدودًا، وكان تجار البحر الأحمر الآخرين يشترون بضائع الهند وغيرها من السِّلع الآسيوية من مخا باليمن أو مكة أو جدة. غير أن ذلك يشير إشارة واضحة إلى المدى الذي كانت لا تزال الشبكات التجارية تصل إليه في أوائل القرن السابع عشر، بعد استقرار البرتغاليِّين بالهند بقرن كامل من الزمان، وبعد تكوين الشركات التجارية الهولندية والإنجليزية بوقت قصير.
وفوق كل ذلك، اهتمَّ إسماعيل أبو طاقية بالتجارة المحلية، وخاصة تجارة منطقة الدلتا، وتنوَّعت البضائع التي اتجر بها تنوعًا كبيرًا، كالأحجار الكريمة وخاصة ياقوت سرنديب والذهب الذي جلَبَه مَن كانوا ببلاد التكرور. وعند نهاية القرن السادس عشر كانت التوابل — على ما يبدو — وبصفة خاصة الفلفل تُمثِّل السلعة الغالبة في التجارة وليس الأحجار الكريمة، واحتلَّ البنُّ منزلة تقع بين النوعين. ويَنسحب نفس الشيء على السكر الذي كان إسماعيل أبو طاقية يُصدِّره بكميات مُتزايدة في مطلع القرن السابع عشر. كما اتجر بالمنسوجات على نطاق واسع. وكان التحوُّل من التوابل إلى البُنِّ في تجارة البحر الأحمر قد تم في حياته، ولعب دورًا فيه. وبعبارة أخرى، كان إسماعيل أبو طاقية ووكلاؤه وشركاؤه يَتجرون في بضائع متنوعة من السِّلع الفاخرة خفيفة الوزن غالية الثمن إلى السلع الثقيلة كبيرة الحجم كالأخشاب المستوردة والمعادن والمرجان، والمنتجات المحلية كالسكر والأرز والمنسوجات، والبضائع العابرة عن طريق القاهرة إلى المراكز التجارية التي يتوفَّر فيها الطلب عليها مثل التوابل والبن، والبضائع التي تُستهلك محليًّا مثل النيلة التي استخدمت في صباغة المنسوجات.
وبدأ إسماعيل أبو طاقية نحو العقد الأول من القرن السابع عشر يُقيم شبكة من النشاط التجاري داخل مصر ذاتها، امتدت إلى المناطق الريفية في الدلتا، خاصة إقليم المنوفية والغربية؛ حيث كان ينتج السكر، فاستثمر أموالًا في زراعة القصب وصناعة السكر. وكان استثماره في هذا المجال فرديًّا، فكان ذلك أحد المشروعات التي لم يشاركه فيها صديقه عبد القادر الدميري، رغم ما كان يتطلبه من أموال كثيرة. ولعل ذلك يرجع إلى وجود الدميري بعيدًا في مكة وجدة لوقت طويل لرعاية المصالح التجارية هناك. واستفاد إسماعيل أبو طاقية من وجوده بالقاهرة الذي ساعَدَه على إقامة نوع من الصلات الاجتماعية التي أتاحت له فرصة إقامة مشروع ناجح لإنتاج السكر. ولكن بغض النظر عن الأسباب التي دعَتْه إلى القيام بذلك المشروع منفردًا، فإن ذلك يُوضح لنا تعدُّد الأُطُر التي عمل من خلالها، فنجده يعمل أحيانًا في نطاق الأسرة، ويشارك البعض أحيانًا، ويعمل منفردًا أحيانًا أخرى. هذا التعدد في أطر العمل وفي إقامة شبكات النشاط التجاري كان عظيم الأثر بالنسبة له؛ إذ كان باستطاعته أن يُعدِّل من نمط نشاطه بشكل أسرع من غيره من التجار، وأن يتوافق مع أحوال السوق المتغيِّرة.
وكان الشوام المُقيمون بالقاهرة، وخاصة الحمصيِّين منهم، يُدركون أهمية المكانة التي بلغها أبو طاقية بتولِّيه الشاهبندرية بالنسبة لهم. ولم يُخيِّب إسماعيل أبو طاقية ظنهم، فحرص على حضور المناسبات التي كان لحضوره فيها وزن كبير. وزاد اتصال التجار الحمصيِّين والشوام به بعد وصوله إلى الشاهبندرية عن ذي قبل، للوقوف إلى جانبهم، أو التدخل بين زوجَين على وشك الطلاق، أو حضور قسمة التركات. ولعلَّ عدم وجود تنظيم للجالية الشامية بالقاهرة جعل الشوام يَعتبرون من يصل منهم إلى الشاهبندرية كبيرهم.
خاتمة المطاف
وُفِّق إسماعيل أبو طاقية في إقامة مشروع تجاري ناجح، مع عائلته أولًا، ثم مُستقلًّا عن العائلة فيما بعد، واتبع في سبيل ذلك أنماطًا مُختلفة من العمل التجاري، وأقام عددًا من الشبكات التجارية المعقَّدة. ولكن الإبقاء على حرفة التجارة في العائلة التي مارست الحِرفة لعدة أجيال مُتعاقبة، تطلب وجود أبناء وأحفاد يَبدءون من حيث ينتهي دوره. ولكن إسماعيل لم يَنجح في تحقيق ذلك، رغم محاولاته المستميتة، فلم يُعمر مشروعه التجاري — الذي كونه على مر السنين — طويلًا بعد وفاته؛ وذلك لأسباب بعضها شخصي وبعضها الآخر عائلي، غير أننا نحتاج إلى البحث عن أسباب ثقافية وقانونية لتفسير ذلك الوضع؛ لأن من الثابت تاريخيًّا أن العائلات التجارية سواء عائلات الكارمية كعائلة الخروبي وعائلة القويق في القرن الرابع عشر والخامس عشر، أم مَن عاصروا أبو طاقية مثل عائلتَي الرويعي والشجاعي لم يبقَ لها وجود في التجارة بعد جيلَين أو ثلاثة أجيال متعاقبة.
وكان من بين الأسباب الشخصية التي أدَّت إلى انهيار تجارة أبو طاقية عدم وجود ورثة من الذكور البالغين؛ فقد أنجب أبو طاقية الكثير من الأطفال، ولكن من بقي منهم على قيد الحياة كانوا إناثًا فيما عدا ولدًا واحدًا هو زكريا، وحدث نفس الشيء لولده زكريا؛ فعندما قضى نحبه لم يخلف إلا ذرية من الإناث، ومات أولاده الذكور في طفولتهم. وبذلك كان زكريا آخر الذكور في عائلة أبو طاقية، وكان قاصرًا عند وفاة والده إسماعيل، فلم تُتح لأبيه فرصة نقل تجارته إلى ولده، شأنه في ذلك شأن غيره من التجار. ولا بد أن يكون زكريا قد واصَل نشاط أبيه في التجارة بعد بلوغه الحلم، مُستفيدًا من شركاء أبيه من التجار المُحنَّكين مثل الدميري وأحمد عريقات اللذَين كانا على معرفة تامَّة بنشاط أبيه، وقدَّما له العون حتى استطاع أن يقف على أقدامه. ولكن ما لبث أحمد عريقات أن تَنكَّر للثقة التي خصَّه بها إسماعيل أبو طاقية؛ فبدلًا من أن يلعب دور الأخ الكبير الذي يرعى مصالح أبناء عمومته، أحسَّ أفراد العائلة أنه يضع مصالحه الشخصية فوق كل اعتبار. وحدثت مواقف — فيما بعد — أدت تصرفاته حيالها إلى جعل ولائه وأمانته موضع الشك. مما خيب الآمال التي عقدوها عليه، وخاصة أن إسماعيل أبو طاقية كان يخصُّه بالرعاية في سالف الزمان.
وثمَّة سبب آخر يعود إلى الاستعداد الشخصي لزكريا بن إسماعيل نفسه؛ فقد بلغ الرشد بعد وفاة أبيه بوقتٍ قصير، غير أنه لم يَرِث عن أبيه كفاءته أو شخصيته. ويتَّضح ذلك من الدعاوى الخاصة به التي وردَت بسجلات المحكمة الشرعية في السنوات التي أعقبت موت إسماعيل. وتشير تلك الدعاوى إلى السبيل الذي سلَكه زكريا الذي كان يفتقر إلى قُدرة والده على جمع الناس من حوله، وتوثيق العلاقات مع الناس على اختلاف مَراتبهم، وكسب احترامهم. فقد استطاع إسماعيل أن يَحتفظ طوال حياته بعلاقات حميمة مع الشوام والحمصيِّين الذين عرفهم في شبابه، كما حافظ على الود مع زملائه التجار كالدميري وعائلته على مر السنين. وكان زكريا يفتقر إلى ذلك كله؛ فكثيرًا ما كان يختصم البعض أمام المحكمة من أجل إيجار دكان بالوكالة أو مسكن بها بدلًا من أن نراه يُكوِّن شركة أو يعقد صفقة. وعندما مات الدميري بعد وفاة إسماعيل بنحو سبع أو ثماني سنوات لم يهتمَّ زكريا بالإبقاء على العلاقات الودية مع أرملة الدميري، ودخل معها في نزاع قضائي حول إيراد الوقف المشترك بين أبو طاقية والدميري، وانتهى النزاع لصالح السيدة، وهو أمر لم يَحدث من قبل لوالده إسماعيل أبو طاقية الذي لم يكن يلجأ إلى القضاء، إلا إذا كان مُتأكدًا من سلامة موقفه. مما يدلُّ على أن قدرة إسماعيل على النجاح في أعماله التجارية لم تكن تعود إلى مهارته في التجارة وحدها، وإنما كانت ترتكز على مواهب أخرى لم يَرثْها عنه زكريا.
كذلك لعب نظام الإرث حسب الشريعة الإسلامية دورًا في تفكك ثروة إسماعيل أبو طاقية بعد موته؛ فقد ترك إسماعيل عددًا كبيرًا من الورثة: حصلت زوجاته الثلاث على ثُمن الثروة، ووزعت بقية التركة على عشر بنات وولد واحد هو زكريا، الذي لا بد أن يكون قد نال نصيبًا محدودًا من تلك التركة لم يَزِد عن ١٤٫٥٪ من التركة. ورغم ذلك النصيب المحدود، بقيَ زكريا يتمتَّع بالثراء، فإلى جانب نصيبه من التركة، كانت هناك حصته في الوقف، وثروة أمه الخاصة، وإن كان ذلك كله لا يُعادل ثروة والده. وهنا نجد أن زكريا لم ينجح في البحث عن مخرج من هذا المأزق، مثلما فعل أبناء جيله الذين انحدروا من عائلات تجارية عريقة؛ فأبناء عائلة يغمور — مثلًا — احتفظوا بأموالهم وأموال أخواتهم البنات بعد تقسيم تركة أبيهم، لتُكوِّن رأس المال الذي يوظفونه في تجارتهم؛ إذ نجد في سجلات المحكمة وثيقة تشير إلى مشاركة أختهم مُؤمنة لهم في صفقاتهم التجارية. غير أنَّ ورثة إسماعيل لم يَسيروا على دربهم.
وهناك عامل تنظيمي آخر يُفسِّر عدم استمرارية تجارة أسرة أبو طاقية بعد وفاة إسماعيل، فرغم ضخامة أعمال إسماعيل، لم تكن تجارته ذات شخصية قانونية مستقلَّة عن ذاته حتى يمكن استمرارها بعد وفاته؛ إذ اختلط رأس ماله برأس مال شُركائه في صفقات مُحدَّدة عُقدت بمبادرات فردية. ولعله كان من المُمكن أن تؤدِّي هذه العوامل التنظيمية إلى تيسير سبيل استمرار تجارة العائلة لمدى أبعد من جيلين أو ثلاثة أجيال، على نحو ما شاع بين عائلات التجار.
وفى نفس الوقت الذي كانت فيه عائلة أبو طاقية تَبتعِد عن التجارة اتجهت إلى الارتباط بالنخبة الحاكمة، فكان زكريا يشتغل بالتجارة من حين لآخر، وقد لُقب بالخواجة ثم الخواجكي فور ممارسته العمل بالتجارة بعد بُلوغه الرشد. ولكن ذلك لم يدم طويلًا، فاختفت الإشارات إلى نشاطه التجاري من سجلات المحكمة. وإذا كانت المصالح التجارية الخاصة بزكريا قد ضَعُفت، فإنه استطاع أن يُوثق صلته بالحكام. ولا شك أن النفوذ الاقتصادي والاجتماعي الذي اكتسبه إسماعيل أبو طاقية قد استُغلَّ من جانب أبنائه، فاستطاع زكريا أن يجدَ لنفسه مكانًا في طائفة المتفرِّقة العسكرية من خلال علاقاته بالنخبة العسكرية. ومن ثم تحرَّكت ثروة أبو طاقية في فترة الحراك الاجتماعي إلى آفاق غير تلك التي اتجه إليها إسماعيل.
وهكذا استطاع إسماعيل أبو طاقية أن يصل بأسرته التجارية إلى الذروة التي كان يتطلع إلى بلوغها أيُّ تاجر في زمانه. ولم يستطع أيٌّ من ذريته أن يبلغ ما بلغ من الشهرة على نحو ما تكشف عنه الوثائق التاريخية، فعاد الغموض النِّسبي يحيط بأسرته على نحو ما كانت عليه الحال أيام جده وأبيه. وسادت مظاهر النشاط التجاري الذي مارسه إسماعيل، والاتجار المتزايد في البضائع التي راجت في الأسواق على أيامه وخاصة البُن والسكر، لمدة قرن آخر من الزمان أو نحو ذلك. وذهبت أرباحها الطائلة إلى تجار آخرين لم يكن من بينهم أحد من ذريته.
Nelly Hanna, “Habiter au Caire,” p. 20.
المحبي، خلاصة الأثر، القاهرة، ١٢٨٤ﻫ، ج٢، ص٢١٤–٢١٧.
وتَعتمد تقديرات شابرول لدرجة معرفة القراءة والكتابة على عدد الكتاتيب التي حصرها رجال الحملة، ولا تزال آثار بعضها باقية، وكانت تلك الكتاتيب تُقام فوق الأسبلة.
Terence Walz, “Trade Between Egypt and Bilad al–Sudan,” Cairo, 1978; “Trading into the Sudan in the Sixteenth Century”, Annales Islamologiques, vol. 15, 1979, pp. 211–233.