مقدمة
لا تَتوازى الاتجاهات الاقتصادية مع الاتجاهات السياسية بصورة دائمة؛ فقد اتسم نصف
القرن، الذي يَربط العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، بالعقود الأولى من القرن السابع
عشر، بوقوع عدد من الأزمات السياسية التي استحوذت على اهتمام المؤرِّخين، مثل تمرُّد
الجند على الباشا العثماني، وظهور قوة المماليك وتحدِّيهم للسلطة العثمانية. وافترض
المُؤرِّخون أن التجارة قد اضمحلَّت خلال تلك الفترة، دون أن يبذلوا الجهد في دراستها.
وغلبت على أحكامهم مقولة أن المنطقة قد فقدت الحيوية التي اتَّسمت بها من قبل، خلال تلك
الفترة، نتيجة التحول في طرق التجارة الدولية، وأرجعوا أسباب تراجع أهمية المنطقة عن
ذي
قبل، إلى اتصال التجار الأوروبيِّين بمَصادر التجارة الأسيوية اتصالًا مُباشرًا، وتطور
الطرق البحرية عبر الأطلنطي. وتهدف مثل تلك المقولات إلى طمس حقيقة أكثر تعقيدًا،
يَصعُب فهمها من خلال قراءة تاريخ المنطقة من منظور التاريخ الأوروبي أو من خلال
المصادر الأوروبية وحدها، على نحو ما جرى العمل به في الماضي. وباستطاعتنا أن نضع
الأمور في إطارٍ آخر من خلال مُتابعة النشاط التجاري في تلك الحقبة الحاسمة من تاريخ
المنطقة، وتحديد بعض مَعالِمه البارزة. فلا يعني بُزوغ نجم أوروبا أن منطقة البحر
المتوسط قد غطَّت في سبات عميق — على نحو ما يزعم بعض المؤرِّخين — ذلك لأن التجارة ظلت
تحتلُّ مرتبة الأهمية داخل العالم العثماني، ولأنَّ العلاقات التجارية مع أوروبا كانت
ذات طابع خاص.
وبتتبُّعنا لنشاط التجار في ميدان التجارة الدولية، تتَّضح ملامح صورة لتلك الحقبة
التاريخية، تختلف عن تلك التي رسمتها المصادر سالفة الذكر. والواقع أن تلك الحقبة شهدت
ظهور اتجاهات تجارية جديدة، تميَّزت بالتوسع في إقامة الشبكات التجارية، واتجاه التجار
إلى استثمار أموالهم في الإنتاج، وخاصة إنتاج المحاصيل الزراعية التي يَزيد الطلب عليها
في الأسواق الخارجية، وكان السكَّر من أهم تلك السلع. كما شهدت تلك الحقبة طرح سلعة
جديدة وهامة في الأسواق العلمية هي البُن الذي استطاع تجار القاهرة احتكار تجارته.
وكانت تلك التطوُّرات وراء ظهور أساطين التجار، ورواج أحوالهم المالية. ويُمكن أن نُرجع
صلة أبو طاقية بتلك التطورات إلى العقدين الأولين من القرن السابع عشر، بعد أن عركته
الخبرة بالعمل التجاري، فأصبح تاجرًا محنكًا يعمل من خلال مجموعة من الشبكات التجارية
المعقَّدة.
وعلى نقيض ما يُقال عن اضمحلال التجارة والزراعة، نستطيع القول إن تلك الحقبة اتسمت
بالحيوية الاقتصادية التي أصابت الكثير من القطاعات، بما في ذلك التجارة والزراعة وبعض
مظاهر الإنتاج. ويُمثِّل ذلك الانتعاش الاقتصادي، دعامة المستوى الذي حقَّقه التجار،
في
مجال الثروة والتميز. وتعكس حياة أبو طاقية وزملائه الكثير من تلك التغيرات. فكان
الاتجاه الذي نمَت من خلاله ثروة أبو طاقية، انعكاسًا لتغيرات أكبر حجمًا وأهم قدرًا
على الصعيدَين الإقليمي والعالمي.
فقد شهدت أحوال التجار تغيُّرات كبيرة على مر القرن السادس عشر، كان لها أثرها على
أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، إذا أَوشَكُوا على البروز كجماعة مُستقلَّة عن
البيروقراطية العثمانية، وهي عملية استغرقت نحو القرن لتَصل إلى درجة الاكتمال. ودراسة
تلك العملية تَتناول أمرَين يتصلان بالعلاقة بين الإدارة والاقتصاد في الدولة
العثمانية، والأمر الأول يدور حول درجة تحكم الدولة في التجارة؛ فقد أكَّدت بعض
الدراسات أهمية الدور الذي لعبته الدولة في تنظيم التجارة في الفترة المبكِّرة عندما
كانت الإدارة لا زالت مركزية الطابع، وربط بعض المؤرِّخين قدرة الدولة العثمانية على
البقاء بمَقدرتها على التحكم في التجارة وتوجيه النشاط الاقتصادي والتجاري، ورأوا أنه
كلما كانت الدولة العثمانية قادرة على الاحتفاظ بذلك التحكم، استطاعت أن تمنع التغلغل
الرأسمالي الأوروبي من الامتداد إلى أسواقها، كما رأوا أن تهميش الاقتصاد العثماني جاء
نتيجة لفقدان الدولة السيطرة على الاقتصاد.
١ أي إنَّ تلك النظرة ترى أن الاقتصاد العثماني قد انتقل من مرحلة تحكم
الدولة أو الخضوع للسلطة السياسية، إلى مرحلة السيطرة الرأسمالية الأوروبية. مما يَعني
أن المبادرات جاءت دائمًا من أعلى، وأن المساحة كانت محدودة للتحرك من أسفل إلى أعلى.
كما تعزف تلك النظرة على نغمة القوى الاقتصادية وعوامل تماسُكها. ويرى خليل إينالجك أن
الأدلة الوثائقية لا تدعم مثل هذه الرؤية، ويعتقد أن مرحلة تحكم السلطة في الاقتصاد
تليها مرحلة أخرى لعبت فيها القوى الاقتصادية دورًا كبيرًا.
٢ وتدعم سيرة أبو طاقية الرأي القائل أنَّ اختفاء سيطرة الدولة على التجارة
الدولية — الذي حدث في مصر في حقبة مُختلفة عن تاريخ حدوثه في غيرها من الولايات — قد
أدى إلى ظهور جماعة نشطة من التجار، أعادت الحيوية للنشاط التجاري. وإضافة إلى سعيهم
من
أجل زيادة ثرواتهم وتحسين أوضاعهم الاجتماعية، أدَّت المبادرات التي قاموا بها إلى
إدخال أنماط جديدة على العمل التجاري. وبذلك لم يُعانِ الاقتصاد من غيبة السيطرة
السياسية، على نحو ما يُقال.
أما الأمر الآخر، فيتصل بالتباين بين الولايات العثمانية وبعضها البعض. فإذا افترضنا
أن الدولة سيطرت على النشاط الاقتصادي سيطرة قوية، يعنُّ لنا سؤال حول مدى تَساوي تلك
السيطرة في كل ولاية من الولايات، آخِذين في الاعتبار سعة مساحة الدولة، ونوعية
المواصلات في ذلك الحين. فلا شكَّ أن التكنولوجيا الضرورية للتحكم في عدد كبير من
الأنشطة الاقتصادية، تَنتشِر على مساحة واسعة من ولايات الدولة، لم تكن قد ظهرت على نحو
ما نعرفه اليوم. ويَذهب بيرسون إلى أنه لم يكن ثمة وسيلة تستطيع الحكومة عن طريقها أن
تتحكم في أنشطة اقتصادية تتمُّ في بلاد متباعدة عن بعضها البعض، مثل جنوب شرقي أوروبا
وعدن، والبصرة، والمغرب.
٣ أضف إلى ذلك، أنَّ مصر كانت ذات وضع خاص، فمهما بلغت قوة تحكم الدولة في
الاقتصاد، فإنها لم تَصِل إلى ما كانت عليه في العصر المملوكي؛ فقد كانت الدولة
المملوكية شديدة المركزية، ومن الصعوبة بمكان الاحتفاظ بتلك المركزية مع بُعد الشُّقة
بين ولاية مصر ومركز السلطة في الدولة العثمانية. لذلك كانت درجة المركزية أقلَّ في مصر
منها زمن المماليك حتى خلال الحقبة التي اتسمت بالمركزية في الدولة العثمانية.
ودراسة سيرة أبو طاقية وغيره من التجار أبناء جيل أواخر القرن السادس عشر وأوائل
القرن السابع عشر، تَدحض النَّمطية التي اتَّسمَت بها بعض الدراسات، والتعميمات التي
توصَّلَت إليها، وتُؤكِّد فكرة التنوُّع والتباين بين ولايات الدولة العثمانية وبعضها
البعض. فعلى حين يذهب بعض المؤرِّخين إلى أن إدماج الاقتصاد العثماني في الاقتصاد
الرأسمالي الأوروبي يعود إلى القرن السادس عشر، تُشير الأدلة التاريخية إلى وجود
اختلافات — في هذا الصدد — من ولاية إلى أخرى، وأنَّنا إذا قبلنا بهذا الرأي فيما اتصل
بالبلقان أو الأناضول، فإن ذلك لا يَصدق على مصر؛ حيث تأخَّر ذلك الاندماج قرنًا آخر
من
الزمان.
ويُمكننا أن نقسم تلك الفترة إلى مرحلتَين رئيسيتَين؛ إحداهما مبكرة، تعود إلى أواخر
الحكم المملوكي والعقود الأولى من الحكم العثماني، والأخرى وقعت في النصف الثاني من
القرن السادس عشر، وحتى زمن أبو طاقية.
وارتبطت المرحلة الأولى بوقوع حدثَين؛ أولهما ضم مصر إلى الدولة العثمانية. ذلك الحدث
الهام الذي أدخل تغييرًا على أوضاع التجار بالقاهرة؛ فقد تخلَّصُوا من قبضة السلطة التي
فُرضت عليهم منذ القرن الخامس عشر؛ إذ فرض السلطان برسباي الاحتكار على التجارة في عام
١٤٣٢م، وأصبحت الدولة تَنفرِد ببيع وشراء بعض السلع الرئيسية من تجارة البحر الأحمر،
كالفلفل وغيره من التوابل. وحرم على التجار — منذ ذلك التاريخ — التعامل بهذه السِّلع
إلا عند نفاد المخزون فيها عند السلطان. وقد أدَّى ذلك — بالطبع — إلى إلحاق تغيير جذري
بأوضاع تجار الكارمية الذين احتكروا تجارة البحر الأحمر منذ القرن الثالث عشر؛ لأن
احتكار الدولة لتجارة البحر الأحمر، جعل الكارمية يَنحدِرون إلى مرتبة الوكلاء الذين
يَتجرون بالتوابل لحساب السلطان، ولا يَستطيعون بيع ما لديهم منها إلا عندما يتم تصريف
المخزون السلطاني. كذلك تعرَّضت أرباحهم للانخفاض؛ لأنَّ الدولة تولَّت تحديد الأسعار
لمصلحتها وليس لمصلحة التجار، وقيَّدت — تبعًا لذلك — حرية الكارمية في التحرك، كما
غلَّت أيديهم عن تحقيق ما يَطمحون إليه من ربح، وما لبثوا أن اختفوا من الساحة التجارية
بالقاهرة مع نهاية القرن الخامس عشر، وقد تابع خلفاء برسباي نظام الاحتكار لما كان
يُحقِّقه من موارد مالية.
وأدَّى الفتح العثماني لمصر عام ١٥١٧م إلى إنهاء احتكار تجارة الفلفل وغيره من سلع
البحر الأحمر، فلم يكن لدى الدولة العثمانية اهتمام معيَّن بالإبقاء عليه، وخاصة مع
بروز مشكلة الوجود البرتغالي بالهند، فكان ذلك تغيرًا كبيرًا في هيكل التجارة، أثَّر
على أوضاع التجار في العقود التالية؛ إذ ترك الحبل على الغارب، وأصبح الميدان خاليًا
أمام التجار الذين ما لبثوا أن جنوا الأرباح الطائلة من تجارة البحر الأحمر.
أما المرحلة الثانية، فاتسمت بعودة التجارة على طريق البحر الأحمر لأسباب عدة، بعد
استيعاب صدمة تغلغل البرتغاليين في أسواق التوابل الآسيوية، وبدأت تلك المرحلة نحو
منتصف القرن السادس عشر. ويذهب لين
Lane إلى أن حجم
تجارة التوابل بعد مُنتصَف القرن السادس عشر كان يفوق ما كان عليه قبل استقرار
البرتغاليين بالهند، ويُقدر حجم تجارة التوابل التي مرَّت عبر البحر الأحمر، بما يُماثل
ما كان يُشحن منها مباشرة إلى لشبونة، عن طريق رأس الرجاء الصالح. ويُؤكِّد برودل
Braudel أنه بحلول عام ١٥٥٠م، استعادَت تجارة
التوابل بالبحر الأحمر نشاطها، وكان البنادقة — الذين تحكَّموا في نحو نصف تجارة
التوابل المباعة بالإسكندرية — يَشترُون كميات هائلة منها. ووفق ما جاء بتقرير أحد
القناصل، اشترى البنادقة ١٢ ألف قنطار من الفلفل عام ١٥٦٤م، مما أدَّى إلى إصابة
منافسيهم البرتغاليين بالهلع.
٤
ويُمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب يعود بعضها إلى الطريقة التي مارس بها البرتغاليون
نشاطهم التجاري، وعدم مقدرتهم على تحقيق السيطرة الفعالة على تجارة التوابل؛ فقد حاولوا
فرض حصار على مصادر تجارة التوابل، ولكن إمكاناتهم حالت دون الاستمرار في الحصار لوقت
طويل. ومِن بين الأسباب أيضًا، أنَّ طريق البحر الأحمر، كان يُوفِّر لولايات الدولة
العثمانية البضائع الشرقية بشكل مُتزايد. وأدَّى ضم مصر إلى الدولة العثمانية إلى فتح
أسواق جديدة داخل الدولة نفسها، والبلاد التي تاجَرَت معها، بما ترتب على ذلك من زيادة
الطلب على السِّلَع المجلوبة عن طريق البحر الأحمر عبر مصر. أضف إلى ذلك أن زيادة
السكان في المراكز الحضرية العثمانية وفي أوروبا، وفي القرن السادس عشر، كانت مسئولة
جزئيًّا عن زيادة الطلب على تلك السلع. ولذلك كانت الأرباح التي حققها التجار، خلال
النصف الثاني من القرن السادس عشر، بالغة الارتفاع، واستطاع التجار أن يجمعوا — في
العقدين الأخيرين من القرن — أموالًا طائلة من اشتغالهم بتجارة البحر الأحمر، كانت —
بلا شك — تفوق كثيرًا ما حقَّقه التجار من ربح منذ بداية الحكم العثماني.
واستفادت المراكز التجارية — كالقاهرة والإسكندرية — من إحياء تجارة التوابل بالبحر
الأحمر، استفادةً كبيرة، وكذلك كانت الحال بالنسبة للبنادقة الذين جاءوا في مقدمة
المُنتفِعين بتلك التجارة؛ فقد ساعدهم ذلك على الاحتفاظ بموقعهم كمُوزِّعين للبضائع
الشرقية في أوروبا. ولم يكن تجار القاهرة المشتغلين بتجارة البحر الأحمر يقلون عن غيرهم
انتفاعًا بها، فساعدَهم مُعدَّل التعامل التجاري على توسيع نطاق نشاطهم. والواقع أن
دراسة جيل التجار الذي عاش في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، يدلُّ على أن اختفاء
الكارمية من الساحة بمصر كان مؤقتًا، فقد ظهر جيل جديد من التجار — في مُنتصَف القرن
السادس عشر — كانت لهم بعض ملامح الكارمية، وإن كانوا لا يَنتمُون إليهم. وبذلك يمكن
أن
نرى اختفاء الكارمية — الذي كثيرًا ما يُنسب إلى الاضمحلال العام للتجارة بالمنطقة —
على ضوء التطورات الأخيرة التي تلت تلك الحقبة.
وقد تزامنت المرحلة الثانية مع حياة إسماعيل أبو طاقية، وكانت التغيرات التي صاحبتها
لا تقلُّ أهمية عن تلك التي وقعت خلال المرحلة الأولى. فقد قام أبناء جيله من التجار
بإدخال تعديلات هيكلية على أنماط نشاطهم التجاري. ولا شكَّ أن الأموال التي تراكمت في
أيديهم من الأرباح الطائلة التي حقَّقوها قد ساعدتهم على ذلك. وتناولت التغييرات التي
أدخلوها على أسلوب ممارستهم للنشاط التجاري ظهور أنواع مختلفة من الاستثمار أتاحت لهم
فرصة التحكم في السلع التي زاد الطلب عليها. ويُلقي التحليل الدقيق، للأسلوب الذي اتبعه
أبو طاقية — وأبناء جيله من التجار — في ممارسة عملهم اليومي، الضوء على أبعاد النشاط
التجاري في تلك الحقبة؛ فقد ساعدهم الاستثمار في زراعة المحاصيل النَّقدية وفي الأنشطة
الإنتاجية الأخرى، على ربط مصادر الإنتاج في مصر بالطلب على السلع في السوق
الخارجية.
وبعبارة أخرى، كانت التعديلات التي أدخلها أبو طاقية — وجيله من التجار — على أنماط
العمل التجاري نابعة من مبادرتهم الذاتية، ولم تكن من وحي السلطة السياسية، أو استجابة
لتغلغل التجارة الأوروبية في المنطقة. وهي ذات التغيرات التي يربط المؤرخون عادة بينها
وبين إدماج بلاد الدولة العثمانية في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، بما ترتب عليه من
تهميش الاقتصاد العثماني. ولكن في هذه الحالة، كانت التعديلات التي أدخلت في نصف القرن
الذي يقع بين نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، تتم في إطار السوق
العثمانية، بمعزل تمامًا عن عملية التهميش سالفة الذكر، كما لم تكن جزءًا من عملية
تكوين اقتصاد تابع، أو خطوة في الطريق إليه. غير أننا نستطيع ملاحظة حدوث نفس الظاهرة
مع بداية التغلغل التجاري الأوروبي في المنطقة؛ تَتْجير الزراعة، وربط الزراعة والإنتاج
بالطلب على السِّلَع في السوق. ولكن التغيرات التي حدثت في الحقبة موضوع الدراسة كانت
مُستقلةً عن الرأسمالية الأوروبية، وسبَقَت عملية التهميش التي لحقت بالاقتصاد العثماني
بقرنَين من الزمان.
ونستطيع أن نتبيَّن بعض الأسباب المباشرة لتلك التغيُّرات، فالتاجر الذي يستثمر
أمواله في الزراعة أو الإنتاج السلعي، يحتاج إلى قدر مُعين من الضمانات، ليطمئن — مثلًا
— إلى أن أمواله ليست عرضة للمصادرة. وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية التي نعرفها،
لنا أن نفترض أن التجار أحسُّوا بالاطمئنان على ثرواتهم، وإلا كانوا قد أحجموا عن
التورط في تلك الاستثمارات الكبيرة. وأيضًا، لنا أن نَفترض أنهم كانوا قادرين على تحقيق
ثروات طائلة — اعتمادًا على ما لدينا من معلومات عن حالة أبو طاقية — مكَّنتهم من تحريك
جانب من رءوس أموالهم من ميدان التجارة مؤقَّتًا، لاستثمارها في مجالات تحتاج إلى وقت
أطول لتحقيق العائد.
ومن ناحية أخرى، أثَّرت التغيرات التي لحقت بالأسواق العالمية على أسلوب ممارسة
النشاط التجاري. وربما يكون تجار القاهرة قد أدخلوا تلك التعديلات على أنماط العمل
التجاري لمواجهة النقص في نشاطهم بالسوق الآسيوية. فقد كان قيام شركة الهند الشرقية
الهولندية عام ١٦٠٠م، واندماجها مع شركات أخرى عام ١٦٠٢م، علامة على بداية مرحلة جديدة
من تاريخ التغلغل الأوروبي في الأسواق الآسيوية، وبناء إمبراطورية تجارية هولندية في
آسيا. وكانت السياسة الواضحة التي اتبعتها تلك الشركة، والتزامها مبدأ حماية تجارتها
بالقوة المسلَّحة، قد جعلها تتحكَّم في مصادر تجارة التوابل بصورة أكبر مما فعله
البرتغاليون من قبل. واستغرقَت عملية إزاحة البرتغاليين من الميدان بعض الوقت حتى تمت
في منتصف القرن السابع عشر.
٥ وإن كان بعض المؤرِّخين يَذهبون إلى أن الهولنديِّين لم يتحكَّموا في تجارة
التوابل تحكمًا كاملًا، وإنَّ اقتصاديات آسيا ظلت تتسم بالحيوية.
٦ ولا شكَّ، أن التغلغل الهولندي في أسواق التوابل الأسيوية لم يضع حدًّا
لتجارة التوابل بالبحر الأحمر، غير أنه يُحدِّد بداية أوضاع جديدة تَحمل في طياتها
احتمالات ضياع وانكماش تلك السوق بالنِّسبة لتجار القاهرة؛ لأنَّ الهولنديِّين بدءوا
يُسيطرون على أسواق التوابل الأوروبية التي كانت — حتى ذلك الوقت — تحصل على التوابل
من
التجار البنادقة الذين كانوا — بدورهم — يَشترونها من الإسكندرية وموانئ الشام.
ويُحدِّد برودل عام ١٦٣٠م باعتباره التاريخ الذي تحوَّلَت عنده تمامًا تجارة التوابل
والفلفل المتجهة إلى أوروبا (أو غرب أوروبا على وجه التحديد) إلى طريق الأطلنطي.
٧
أضف إلى ذلك، أن الرخاء المتنامي الذي شهدته أوروبا، نتيجة التوسع الخارجي، أدَّى
إلى
زيادة في الطلب على سلع معيَّنة. ويعدُّ القرن السادس عشر معلمًا للتوسع في جميع قطاعات
التجارة، ومن مَظاهر ذلك التوسُّع، التنافس المتزايد على أسواق البحر المتوسط بين الدول
الأوروبية المعنية بالتجارة. وشارك في ذلك الإنجليز والهولنديون، والفرنسيون الذين
نافسوا البنادقة في ذلك الإقليم. فكانت تلك الظروف دافعًا للتجار الوطنيِّين للبحث عن
مجالات جديدة للنشاط التجاري؛ ومن ثم يمكننا أن نضع التطورات التي لحقت بالتجارة في
القاهرة في سياق ظاهرة التركُّز التي غلبت على التجارة العالمية عندئذٍ.
وقد أحسَّ تجار القاهرة بتبعات تلك التغيرات من نَواحٍ مختلفة، يتضح ذلك من مقارنة
المجال الجغرافي لتجار الكارمية في العصر المملوكي بنَظيره الخاص بالتجار العثمانيين
المُعاصرين لأبو طاقية؛ فقد امتدَّ نشاط الكارمية — الذين تحكموا في تجارة طريق البحر
الأحمر لأكثر من قرنين من الزمان — إلى الصين وسمرقند وهيرات. وكانت أبعد نقطة وصل
إليها نشاط أبو طاقية أو الرويعي عند نهاية القرن السادس عشر، الديبل وجوا على الشاطئ
الغربي للهند. وبعد ذلك بقليل، أصبح بلوغ تلك المنطقة عسيرًا، حتى إذا جاء القرن الثامن
عشر، أصبح التجار القاهريُّون لا يتعاملون مع أي بلاد تقع إلى الشرق فيما وراء جدة
ومكة.
ويبدو أنَّ التجار قد واجهوا صعوبة في الحصول على الكميات المطلوبة من السِّلع التي
التمسوها في أسواق جدة أو جوا. وربما كان شراء الأوروبيِّين البضائع مباشرة من أسواق
آسيا قد أدَّى إلى ارتفاع أسعارها، مما أدَّى إلى حدوث مشاكل بتلك الأسواق. ويَنقل
برودل عن بيرار دي لافال قوله (عام ١٦١٠م) إنَّ التوابل التي اشتراها البرتغاليون قبل
ذلك ببضع سنوات مقابل سو واحد، كان الهولنديون يدفعون أربعة أو خمسة ثَمنًا لها.
٨ وإضافة إلى ذلك، أصبح البنادقة — العملاء التقليديون لأسواق القاهرة
والإسكندرية — يَشترون كميات أقل من ذي قبل، فتوفَّر عند تاجر كأبو طاقية جانب من
البضائع لم يَستطِع بيعه بالسعر الذي كان يتطلع إليه، ربما اضطر إلى تخزينها بحواصل
وكالته، أو التخلُّص منها بسعر زهيد يزيد من حجم النقود عنده. ونظرًا للتضخم الذي شهدته
السنوات الأولى من القرن السابع عشر، كان الإسراع في إنفاق النقود على شراء البضائع
أفضل من الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة. كل ذلك كان يُمثل مشكلة بالنسبة للتجار من أمثال
أبو طاقية، ورغم أن التجارة مع أوروبا كانت تُمثل جزءًا من نشاطه التجاري الدولي، فقد
كان عليه أن يُغيِّر من إطار إمبراطوريته التجارية للتوافق مع الأحوال التي تفرضها
الظروف عليه.
وكان التغيُّر في الأذواق، وتزايد الطلب على سلع معينة، وراء التعديلات التي أدخلها
التجار من أمثال أبو طاقية على تجارتهم … فالتاجر الماهر يشعر بنبض السوق، ويتجاوب معه،
وهو أمر كان ميسورًا عندئذٍ من خلال الشبكات التجارية التي كانت موجودة في القاهرة
والمراكز الحضرية الأخرى التي تعامل التجار معها. وكان أبو طاقية واحدًا من بين التجار
القلائل الذين تتوفَّر لديهم إمكانيات تغيير نمط التعامل التجاري؛ من حيث وفرة رأس
المال، وأدوات العمل التجاري، والهيكل التنظيمي، ثم بُعد النظر والحنكة. فقد كان موقعُه
بالنسبة للمراكز التي تعامل معها، وكان له فيها شركاء ووكلاء؛ كإستانبول، ومكة، وجدة،
يعطيه ميزة الإحساس بالتغير في نسق الطلب، أو في معدلات الأسعار، ويتيح له فرصة إعادة
تقويم أسلوب الأداء التجاري. وكان باستطاعته أن يتمهَّل في اجتناء الربح حتى يستقرَّ
نمط جديد من أنماط الاستثمار الذي ارتاده، ويأتي أُكله بعد حين. ولا بد أن تكون
الوكالات التي قضى بها معظم وقته، والتي يؤمها التجار من أصقاع بعيدة، قد زودته بقدرة
على تحديد الاتجاه فيما يتعلَّق بالتغيُّرات التي تطرأ على السوق، فاستفاد أبو طاقية
من
إقامته الدائمة بالقاهرة، في التنسيق مع التجار الذين يُمارسون نشاطهم بالوكالات،
والوقوف على المعلومات الخاصة بالعرض والطلب في مختلف المراكز التجارية التي تعامل
معها، من خلال شركائه ووكلائه العديدِين، الذين يَفِدون إلى القاهرة من مختلف
الأنحاء.
(٣) إنتاج السكر
غير أن أهم نشاط يتَّصل بالتوافق مع ما طرأ على السوق من تغيُّرات، يتمثل في دخول
أبو
طاقية ميدان زراعة القصب وصناعة السكر. فنرى من خلال تتبع نشاطه والتجار من أمثاله
ارتباطهم بزراعة القصب وصناعة السكر ثم تصديره إلى السوق الخارجية. كما تقودنا الدراسة
الدقيقة للمعلومات الخاصة بهذا النشاط إلى إلقاء الضوء على المظاهر الخاصة بعلاقة
الدولة والطوائف بالإنتاج.
لقد كان السكر من أهم الأنشطة الاقتصادية في الفترات السابقة على الحقبة موضوع
الدراسة؛ أي قبل الفتح العثماني لمصر؛ إذ كان القصب يُزرع في الصعيد والدلتا، وقام عديد
من معامل تكرير السكر بالفسطاط ثم بالقاهرة (فيما بعد)، وببولاق. وكان السكر الذي ينتج
في مصر بمختلف أنواعه يحظى بشهرة كبيرة في الأسواق العالمية، ويزيد الطلب عليه في
أوروبا. ويُقال إن صناعة السكر قد أصابها بعض الكساد في القرن الخامس عشر، فانخفضت
معدلات الإنتاج، وتمَّ استيراد كميات معينة من الخارج،
١٩ وأنَّ عدد معامل التكرير قد تناقص تناقُصًا شديدًا في مصر.
٢٠ ولكن مع حلول القرن السابع عشر عاد السكر ليحتلَّ — مرة أخرى — مكان
الصدارة في النشاط الاقتصادي بالقاهرة، تعويضًا لما أصابه من تدهور في أواخر العصر
المملوكي. وتُشير دراسة أندريه ريمون إلى أن السكر استمر يحتفظ بمكان الصدارة في
الاقتصاد المصري طوال القرن السابع عشر.
٢١
ولا بدَّ أن يكون أبو طاقية ومُعاصرُوه قد أدركوا تلك الأهمية الاقتصادية للسكَّر
قبل
زمانهم بقرن ونصف القرن، رغم أن العديد من معامل التكرير، مثل تلك التي كان يَملكها
السلطان الغوري في باب زويلة وبولاق وغيرها من المعامل كان بعضها منتجًا، والبعض الآخر
مُتوقفًا عن النشاط، إلا أنها كانت جميعًا ماثلة للناظرين. فاتَّجه كبار التجار من
أمثال أبو طاقية إلى عادة تشغيل تلك الطاقة الإنتاجية المعطَّلة.
ولم يكن ذاك التغيُّر عند أبو طاقية يعني زيادة صادراته من السكر، بقَدر ما كان يعني
أن تحولًا هيكليًّا قد حدث بالنسبة لشبكته التجارية، التي امتدَّت إلى المراكز التجارية
الرئيسية كإستانبول، ودمشق، ومكة، وجدة، وتضمَّنت التجار والعاملين الذين يقدمون له ما
يحتاج إليه من الخدمات. وكان أبو طاقية على يقين أنه كلما امتدَّت شبكته التجارية
تكاثرت أرباحه، ومع دخوله مجال تجارة السكر في مطلع القرن السابع عشر، كان عليه أن يعدل
من أسلوب عمله. فقد أقام شبكات جديدة في الريف، وخاصة منطقة الدلتا، تعاملت مع مجموعات
جديدة من الناس مثل شيوخ القُرى والمُلتزمين، كما شغلته مشاكل النقل والتخزين التي
احتاجها ذلك المشروع الاستثماري، الذي جرَّه إلى الزراعة والإنتاج الصناعي، مما يُعدُّ
تحولًا كبيرًا في مجرى نشاطه؛ لأن تجارة السكَّر جعلته يهتم بزراعة القصب، وصناعة
السكر، وأسواق التصدير، اهتمامًا تداخلت فيه تلك المراحل مع بعضها البعض، مما يَعني
تدفق رأسماله على تلك المجالات الثلاثة، وارتباطه بالاقتصاد المصري بشتى قطاعاته،
ومختلف مظاهره.
ولا بد أنَّ إقامة أبو طاقية لمثل هذا المشروع كان يحدوها الأمل في تحقيق أرباح
وفيرة، وخاصة أن الطلب على السكر أخذ في التزايد، سواء داخل الدولة العثمانية أو في
أسواق أوروبا، وكانت هناك إمكانيات لتصدير السلعة عن طريق البحر الأحمر إلى جدة ومكة
ومخا؛ فقد كانت مصر أهمَّ مصدر للسكر في الدولة العثمانية، وكانت صادرات السكر تتمُّ
بكميات كبيرة. ونظرًا لزيادة السكان في الأناضول في القرن السادس عشر، لا بد أن يكون
الطلب على السكر قد تزايَد في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر. ولم
تنفرد مصر وحدها بإنتاج السكر في الدولة العثمانية، فقد كانت قبرص تساهم في الإنتاج،
غير أن إنتاجها كان مخصَّصًا لتزويد المطابخ السلطانية في إستانبول، على نحو ما تذهب
إليه الدراسات الحديثة.
٢٢ ولعلَّ الكميات التي أنتجتها معامل السكر بقبرص كانت غير كافية لتلبية
الطلب على السِّلعة مما جعل السكر المصري يشقُّ طريقه إلى العديد من الأسواق.
كما أنَّ السكر ظلَّ يُعد من السلع الكمالية في أوروبا حتى مطلع القرن السادس عشر،
على نحو ما يَذهب إليه برودل، واقتصر بيعه على الصيدليات لمداواة المرضى، وعُدَّ من
الهدايا القيمة التي تُقدَّم للأمراء وعِلية القوم. ثم أخذ استهلاك السكر في الانتشار
حتى أصبح مُتوفرًا على جميع الموائد في بلاد أوروبا. وحدث ذلك عندما كان سكان أوروبا
يَتزايدون، فقيل إن عدد السكان قد تضاعَف عند نهاية القرن. وبعبارة أخرى، كانت هناك
زيادة في الطلب على السكر في مختلف الأسواق، ولا بدَّ أن يكون أبو طاقية قد علم بذلك
من
وكلائه في إستانبول، ومن التجار الأوروبيِّين الذين يَفِدون إلى القاهرة، ومن اليهود
ملتزمي الجمارك الذين كانوا على صلة وثيقة بالتجار الأوروبيين، وخاصة البنادقة، والذين
كان لهم وكلاء يترددون على البندقية … فرغم استمرار الحاجة إلى السكر في الأسواق
الخارجية، يبدو أن تلك الفترة شهدت قفزة في الطلب العالمي على السلعة.
وأصبح تجار القاهرة طرفًا في مختلف مراحل تجارة السكر، فقام أبو طاقية — من خلال
وكلائه في الريف — بالتعاقُد مع زُراع القصب بوثيقة مكتوبة تسمى «سَلَم شرعي» يتمُّ
بموجبها دفع مقدم للمُنتج، ويُنصُّ فيها على موعد تسليم القصب الذي يتمُّ تصنيع السكر
منه مباشرة. وكانت زراعة السكر التي تبدأ في يناير وفبراير، ويحصد المحصول في أكتوبر
ونوفمبر، تتطلَّب استثمارات مالية كبيرة، وخاصة عند بداية الموسم الزراعي؛ ومِن ثم كانت
المقدمات التي دفعها أبو طاقية للزراع مَوضع ترحيب من جانبهم، كما كانت تضمَن له الحصول
على حاجته من المحصول في موسم الحصاد. ولدينا نماذج قليلة من الأسعار التي تعامل بها
أبو طاقية، فكان يدفع ما بين خمسة وعشرة قروش ثمنًا لقنطار السكر عند تعاقُده على
الشراء. وبالطبع كان يَبيع السِّلعة بسعر أعلى. أي إنَّ السَّلَم الشرعي كان شراءً
مُقدمًا لسلعة يتسلمها التاجر مُستقبلًا، فكان يتم الشراء عند بداية الموسم الزراعي،
ويتم تسليم السلعة بعد الحصاد. فدفع أبو طاقية — على سبيل المثال — ٤٥٠ دينارًا في
المحرَّم عام ١٠١٣ﻫ/ ١٦٠٤م، قيمة ١١٥ قنطارًا من السكر يتسلَّمها في شوال من نفس العام.
٢٣ وكذلك دفع في صفر من نفس العام ١٦٢٤م دينارًا قيمة سكر خام ليتسلَّمه في رمضان.
٢٤ وكانت تلك الاتفاقات تُدوَّن بسجلات المحكمة، وأحيانًا كان أبو طاقية يحصل
على رهنٍ لأحد المُمتلكات العقارية (بيت مثلًا) كضمان يُغطي قيمة ما دَفع مقدمًا في
حالة عجز الطرف الآخر عن الوفاء بالتزامه.
٢٥
وإلى جانب السَّلَم الشرعي، تضمَّنت سجلات المحكمة الشرعية تسجيلًا لقروض دفعها أبو
طاقية لبعض زُراع القصب، كان بعضها كبيرًا، كالقرض الذي دفعه — مثلًا — لمُلتزم
المنوفية، الذي كان يزرع قصبًا، وبلغت قيمة القرض ١٤٨ ألف نصف.
٢٦ كما أقرض ٣٥٠٠ قرش (١٠٥ ألف نصف) للشيخ محمد الشنواني.
٢٧ وقد قدَّم أبو طاقية تلك القروض لأولئك الزُّرَّاع الكبار حتى يُشجعهم على
توفير حاجته من السلعة. وربما استخدم المدينون تلك القروض في توسيع إنتاجهم الزراعي أو
شراء التزامات أخرى مثلًا، أو للغرضَين معًا.
واهتمام أبو طاقية — والتجار من أبناء جيله — بزراعة القصب له مغزًى كبير؛ فقد أتاح
لهم الحصول على القصب بكميات كبيرة قبل ظهور الملكيات الزراعية الكبيرة في القرن التاسع
عشر. إذ ربط المؤرِّخون بين حيازة الأرض والتوسع في إنتاج المحاصيل النقدية، وذهبوا إلى
أن نظام الحيازة في العصر العثماني جعل الفلاحين يُنتجون ما يكفي بالكاد لحاجتهم ولسداد
الضرائب، وأن تَتْجير الزراعة قد تمَّ على نطاق واسع عند تغيير نظام حيازة الأراضي
الزراعية في القرن التاسع عشر.
٢٨ ولا تستطيع تلك الآراء أن تَصمد في مواجهة الأدلة الوثائقية، فإنتاج
المحاصيل النقدية لم يَقتصر — في الفترة موضوع الدراسة — على قصب السكر وحده؛ إذ كانت
مصر تُصدِّر كميات كبيرة من الأرز إلى الولايات العثمانية الأخرى، والأرقام المبالغ
فيها لصادرات تلك السلعة — التي أورَدَها فانسلب
Vansleb عام ١٦٧٢/ ١٦٧٣م — تُشير إلى أن عدد السفن
المحملة بالأرز، والتي اتَّجهت إلى تركيا قد بلغ خمسمائة سفينة سنويًّا. ويُمكن أن يقال
نفس الشيء عن الكتان الذي كان يُزرع بكميات كبيرة ويُصدَّر في صورة منسوجات كتانية. فقد
قدر يوهان فيلد — الذي زار مصر بين ١٦٠٦ و١٦١٠م — أن عدد السفن التي كانت تَقصد
إستانبول مُحمَّلة بالمنسوجات الكتانية المصرية تُراوح بين ١٥–١٨ سفينة سنويًّا.
٢٩ وذهَب كينيث كونو إلى أن بعض الحيازات الزراعية الكبيرة نسبيًّا كانت
موجودة بالفعل في أواخر القرن الثامن عشر.
٣٠ ويرى أنَّ الظاهرة تَرتبِط بالفترة التي درسها، ولكن القرائن هنا تُشير إلى
أن تلك الظاهرة كانت امتدادًا لما كان موجودًا في فترات سابقة. ورغم عدم وجود دراسات
—
حتى الآن — عن حيازة الأرض الزراعية في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، تشير المصادر
التي استخدمناها — إشارة واضحة — إلى أن التجار كثيرًا ما تعاملوا مع مُزارعين كانت
حيازتهم الزراعية كبيرة نسبيًّا، بما يَتجاوز ما يحتاجون إليه لسد حاجات عائلاتهم. ولعل
الدراسات التي يتم القيام بها مُستقبلًا تُحدِّد لنا مدى انتشار تلك الظاهرة.
غير أنه باستطاعتنا أن نُناقش هذه المسألة من منظور آخر، فاستنادًا إلى الأدلة التي
تُشير إلى تَتجير عدد من المحاصيل بدرجة كبيرة خلال فترة الدراسة، كان الإنتاج الزراعي
العالَمي عندئذٍ يتجاوز حد سد الحاجة؛ وذلك بغض النظر عن نظام حيازة الأراضي الزراعية
الذي كان سائدًا. ومن ثم نَفترض أن حائزي الأراضي الزراعية تأثَّروا بالعرض والطلب، أي
بقوى السوق، وأنهم استطاعوا في الأوقات التي اتَّسمَت بالرخاء النِّسبي، أن يُحولوا
جانبًا من زراعتهم في اتجاه إنتاج المحاصيل النَّقدية. ويذكر ستانفورد شو أنَّ أواخر
القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر شهدت زيادة في الرُّقعة الزراعية نتيجة
التوسع في نظام الري.
٣١ كما أنَّ الزيادة الكبيرة في إنتاج السكر في تلك الفترة ترتبط — بالضرورة —
بالتوسُّع في زراعة القصب. ولا شك أن قيام التجار من أمثال أبو طاقية والرويعي
بالاستثمار في هذا المجال، كان حافزًا لتحويل مساحات أكبر من الأرض الزراعية لإنتاج
القصب، وجاء ذلك التطور استجابةً لزيادة الطلب على السكر في الأسواق العالَمية. وبعبارة
أخرى، لم يكن نظام حيازة الأرض الزراعية يقف حائلًا دون تأثُّر الزراعة بقوى
السوق.
وقد تنوَّعت الآليات التي حدث عن طريقها هذا التحوُّل؛ ففي كثير من الأحوال تعامل
التجار مع المُلتزمين. وكان المُلتزمون يتولَّون جباية الضرائب من الفلاحين دون التدخل
في تحديد نوع المحاصيل التي يَزرعها هؤلاء. ولكن نظرًا إلى أنَّ الملتزم كان يقوم
أحيانًا بإقراض الفلاح مالًا ليَشتريَ البذور والأدوات اللازمة للزراعة، وإصلاح
القنوات، فمِن المُحتمل أن يكون قادرًا على إقناع بعض الفلاحين بتغيير نوع المحاصيل
التي يزرعونها. أضف إلى ذلك وجود مَزارع خاصة بالمُلتزمين عُرفت بالوسية، كان
باستطاعتهم زراعتها وَفق هواهم.
٣٢ ومِن ثم كان هناك مجال لتنويع المحاصيل الزراعية، وأحيانًا كان التجار
يَتعاملون مع حائزي الأراضي الزراعية من الفلاحين تعاملًا مباشرًا، مثلما حدث مع الشيخ
محمد الشنواني الذي كان يَزرع ستين فدانًا من القصب بالمنوفية.
٣٣ وربما كانت هناك آليات أخرى استخدمت لتحقيق التحوُّل في الإنتاج تلبية
للطلب على السكر، لا تتوفَّر لدينا معلومات كافية عنها.
وكان اهتمام التجار بالاستثمار في الزراعة يعني أن تجارتهم تداخلت مع الإنتاج، وأنهم
كانوا يَستثمرون أموالهم في إنتاج محصول يعلمون أن الطلب عليه يتزايد في الأسواق
العالَمية، وهي ظاهرة يزعم بعض المُؤرِّخين أنها لم تحدث في مصر إلا على يد محمد علي
باشا نتيجة الاتصال بالغرب، وجاءت المبادرة في هذا الاتجاه من جانب الدولة.
٣٤ ومن الواضح أنَّ النظام قد أدخل في وقت مُبكر ببعض قطاعات الإنتاج الزراعي،
ثم اتَّسع نطاقُه في القرن التاسع عشر ليَشمل قطاعات أخرى. وأن المبادَرة في هذا
الاتجاه لم تأت من جانب الدولة، كما حدَث بعد ذلك عندما تحكَّم محمد علي في الإنتاج
الزراعي، وأصبح باستطاعته تحديد أنواع المحاصيل التي تتمُّ زراعتها.
وقد أعطى هذا النظام لأبو طاقية وغيره من التجار الوسائل التي تُمكِّنهم من ضمان
الكميات التي احتاجوا إليها من السكر، ومواعيد استلامها للاتِّجار بها. فكان باستطاعة
التاجر أن يَحصل على أكبر كمية من الإنتاج إذا زاد مِن استثماراته في هذا المجال. ورغم
أن بعض اتفاقات السَّلَم الشَّرعي التي أبرمها أبو طاقية كانت تَتناول كميات محدَّدة
من
السكر بلغت ١١٠ أو ١١٥ أو ٢٥٠ أو ٣٣٦ قنطارًا،
٣٥ فإنَّ بعضها الآخر كان يتناول كميات أكبر كثيرًا مثل ٨٢٠ أو ٩٥٢ أو ١٠٥٠ قنطارًا.
٣٦ فبدلًا مِن أن يُقيم أبو طاقية حساباته على المجهول، استطاع أن يضمن كميات
كبيرة من السِّلعة بأسعار حُددت مقدمًا، وبذلك كان في موقف يسمح له بحساب عائد استثماره
حسابًا دقيقًا. وكان ذلك يعني — على صعيد آخر — ربط العرض بالطلب، أو العرض في السوق
الخارجية بالطلب على مصدر الإنتاج. وكان باستطاعته أن يُحدد ما يستثمر من أموال في
المقدمات والقروض التي يُقدمها للمنتجين، وهو مُطمئنٌّ إلى سلامة ودقة توقعاته.
وكانت القروض وصكوك «السلم الشرعي» تعني أن التجار من أمثال أبو طاقية والرويعي وجمال
الدين الذهبي، استطاعوا — إلى حدٍّ كبير — السيطرة على سوق السكر بالقاهرة، وكان
السكَّرية — الذين يشتغلون بتجارة السكر — يعملون من خلالهم، وتُبيِّن دراسة أندريه
ريمون عن السكرية أنهم أصبحوا بدورهم من أثرياء القاهرة مع مطلع القرن السابع عشر.
٣٧ ولعلَّهم كانوا يقومون ببعض عمليات الاستثمار في الإنتاج على نحو ما فعل
غيرهم من التجار. وبفَضل وضعه المُتميز، كان أبو طاقية — في واقع الأمر — يَبيع السكر
جملة للسكرية من إنتاج معامله الخاصة. مما يُشير إلى صلته الوثيقة بإنتاج السلعة إضافة
إلى دوره في تجارتها. كما أن التجار المشتغلين بتصدير السكر إلى الأسواق الخارجية كانوا
يحرصون على تخفيض أسعاره حتى تتَّسع دائرة الأسواق التي يَتعاملون معها.
ومن الأهمية بمكان، أن تلك الظروف أدَّت إلى انتشار إنتاج السكر بالمناطق الريفية،
إلى جانب ما كانت تُنتجه معامل القاهرة، لمواجهة الطلب المُتزايد في الأسواق العالمية.
مما يجعلنا نفترض أن ذلك التوسع في الإنتاج ارتبط بنقل الخبرة الفنية الخاصة بتلك
الصناعة من المدينة إلى الريف؛ إذ يذكر أشتور
Ashtor أن
معامل السكر كانت تقع دائمًا بجوار مناطق زراعة القصب
٣٨ في عصور سالفة، فإذا لم تكن الخبرة قد انتقَلَت إلى الريف، فإن إقامة
المعامل هناك غير ذات جدوى. ولعلَّ تجار القاهرة كانوا وراء توسيع نطاق مشاركة الريف
في
العملية الإنتاجية.
فقد شارك أبو طاقية والرويعي بصورة غير مُباشرة في عملية إنتاج السكر التي كانت تتم
بالرِّيف بجوار مناطق زراعة القصب. ويَبدو أن زُراع القصب كانوا يقومون ببعض المراحل
الأولية في إنتاج السكر، ثم يتمُّ التكرير وصناعة المنتج النهائي بالقاهرة، ولعب أبو
طاقية دورًا في التشجيع على إتمام الخطوات النهائية للإنتاج بالريف، فقام بإرسال معدات
التكرير إلى مناطق زراعة القصب بالغربية والمنوفية لخدمة هذا الغرض، فنجده يؤجر تلك
المعدات لبعض المنتجين عام ١٠٣٣ﻫ/ ١٦٢٣م وكان اسمه منقوشًا عليها.
٣٩ وعندما مات الرويعي تضمَّنت تركتُه معدات إنتاج السكر في إقليم المنوفية بالدلتا.
٤٠ وكان ما ينتج بالريف يُعرف بالسكر الخام، وهو نوع يستهلك محليًّا ويصدر
بعضه للخارج. ولكن السكر المكرر كان أجود نوعًا وأغلى ثمنًا، ولا ينتج إلا بالقاهرة،
ولعله كان النوع المُستخدَم بالقصور السلطانية في إستانبول.
وقد استفاد أبو طاقية من إنتاج السكر بالريف استفادة واضحة؛ فقد سهَّل نقل الإنتاج،
ووفَّر من كلفة النقل، وربما كانت أجور العمال بالريف تقلُّ عنها بالقاهرة، وحتى لو كان
الفرق في الأجور ضئيلًا بين القاهرة والريف، فإنَّ حاجة إنتاج السكَّر إلى المزيد من
الأيدي العاملة يبرر خفض التكاليف. وكان ما يهمُّ التاجر الذي يَتعامل بكميات كبيرة من
السلعة، أن يكون ما يَحتاجه منها جاهزًا عند الحاجة لتصدير الشحنات عبر البحر المتوسط
أو البحر الأحمر. ومِن ثم كانت الاتفاقات التي يُبرمها مع زراع القصب وصناع السكر تعطيه
الأفضلية في التعامل.
ولا نعرف على وجه التحديد الكميات التي كان يتمُّ إنتاجها بالريف، وتلك التي كانت
تُكرر بالقاهرة. وعلى كل، كان إسماعيل أبو طاقية يَمتلك معمل تكرير (مطبخ سكر) بخط
الأمشاطيين وسط القاهرة بالقُرب من منزله،
٤١ كان يُعرف بمطبخ القواص، ويُشير الموقع إلى أن إنتاج السكر كان يتم وسط
المدينة. يُبين وصف ذلك المعمل في حُجة الوقف أن الإنتاج كان يمرُّ بعدة مراحل، فكان
مطبخ القواص ينتج العسل الأسود، والسكر الخام، والسكر المُكرر بمُختلف أنواعه وفق
الطريقة المستخدمة في التكرير. وتولى إدارة المطبخ لحساب أبو طاقية واحد من السكرية،
ولا بد أن ثمَّة اتفاقية أبرمت بينهما أعطَت للسكري حق بيع جانب من الإنتاج مقابل قيام
أبو طاقية بتصريف باقي ما ينتج من السكر.
٤٢
وتُعدُّ دراسة ارتباط التجار بالإنتاج فتحًا
جديدًا، لما تلقيه من أضواء على ميدان لم نعرف عنه من قبل إلا القليل، وخاصة طريقة
تنظيم الإنتاج وعلاقة ذلك بطوائف الحرف. ويذهب الكثير من المؤرِّخين إلى أن الإنتاج لم
يتطوَّر تطورًا ملموسًا في ذلك العصر بسبب الضوابط الصارمة التي فرضتها الدولة عليه،
وكذلك الطوائف، ويبدو أن البِنية الهيكلية للطائفة قد قويت عشية الفتح العثماني لمصر،
وأن الطوائف مارست بعض الاختصاصات التي كانت للمُحتسب من قبل مثل الرقابة على جودة المنتج.
٤٣ ولكن معرفة ما إذا كان ذلك قد أدَّى إلى تقوية قبضة الدولة على الطوائف، أو
كان على عكس ذلك يُعد مسألة أخرى. ويعتبر الباحثون الذين ينتمون إلى المدرسة القديمة
مثل جابرييل بير
Gabriel Baer، أنَّ الطوائف كانت — إلى
حدٍّ بعيد — خاضعة لسيطرة الدولة في العصر العثماني. ولكن بعض الباحثين الشباب من أمثال
بسكال غزالة يُعارضون تلك المقولة استنادًا إلى مصادر وثائقية، ويعتبرون أن سيطرة
الدولة كانت قائمة فعلًا، ولكنها لم تكن شاملة.
٤٤
ولا زال الغموض يُحيط بالضوابط التي فرضَتْها الطائفة على أعضائها؛ إذ يُشاع أن
الطوائف أعاقت أي مُحاولة للابتكار، وقصرت مُزاوَلة الحِرفة على أعضائها، وحرمت
الاشتغال بها على أولئك الذين لا يَنتمُون إليها. كما يقال أيضًا إنَّ الطائفة تحكَّمت
في المواد الخام اللازمة للإنتاج، فكان شيوخ الطوائف يقومون بتوزيعها بأنفسهم على
الأعضاء. وتُؤكِّد سجلات المحكمة الشرعية في القرن السابع عشر حقيقة وجود نُظُم وضعتها
الطوائف لحماية مصالح أعضائها أو حماية المستهلك، وكان على أفراد الطائفة أن يلتزموا
بها. وعلى سبيل المثال، كان تجار المنسوجات بوكالة المرأة عند باب النصر، مُطالَبين
بالالتزام بقواعد الجودة وقياس عرض القماش، فإذا لم يلتزم البعض بذلك كان عُرضة للعقاب.
٤٥ وهناك حالة أخرى يَرجع تاريخها إلى عام ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٤م تتعلَّق بمسألة عضوية
الطائفة، اتصلت بطواقجي (صانع قلنسوات) منعه شيخ تلك الطائفة من ممارسة الحِرفة. فإذا
قلَّ الطلب على سلعة مُعينة، كانت القيود تفرض — غالبًا — على عضوية الحرفة، وتقوم
محاولات لمنع غير المُنتمين إلى الحِرفة من مزاولة الإنتاج. أما إذا زاد الطلب أو كان
يتزايَد باطراد، فإنَّ الالتزام بتلك القاعدة لم يكن — على ما يبدو — واردًا. ولم تكن
القواعد الخاصة بحرمان غير الأعضاء من الاشتغال بالحرفة تطبق — بطريقة أو أخرى — عندما
يتعلق الأمر بأفراد من أصحاب الجاه مثل أساطين التجار كأبو طاقية والرويعي والذهبي. ولا
يبدو أن أبو طاقية والرويعي كانا عضوَين بطائفة السكرية، كما أن تجار الصابون بالقدس
الذين امتلكوا وِرَشًا لإنتاج الصابون، لم يكونوا من بين أعضاء طائفة الصبَّانين.
٤٦
ومن المظاهر الهامة المتَّصلة بتلك المسألة، الحصول على المواد الخام، الذي كان أمرًا
حيويًّا بالنسبة لبعض الطوائف، فكان يتمُّ تنظيمه للتأكُّد من حصول كل عضوٍ على نصيبه
من الخامات. غير أنه لا يبدو أن تلك القاعدة طُبقت عند كل الطوائف في حالة وفرة المواد
الخام اللازمة للإنتاج. فلا نجد في وثائق تلك الفترة أي إشارة إلى قيام الطوائف بفرض
قيود على مُلاك معامل تكرير السكر بالقاهرة، أو معامل الصابون بالقدس، لتحديد كميات قصب
السكر في الحالة الأولى، أو زيت الزيتون في الحالة الثانية، التي يحصل عليها هؤلاء من
الزراع؛ ومِن ثم نستطيع القول إن تنظيم الطوائف لم يكن ثابتًا صارمًا، وإنما استجاب
للأحوال المُتغيرة كوفرة العرض أو تزايد الطلب في الأسواق العالمية على إنتاج
معين.
وكان إنتاج معمل تكرير السكر الذي امتلكه أبو
طاقية، إضافة إلى ما كان يحصل عليه مباشرة من الأقاليم الريفية، يُوفر له كميات كبيرة
من السلعة لتصديرها إلى الخارج. وليس لدينا سبيل لمعرفة حجم الكميات التي كانت تصدر إلى
الخارج وتلك التي تُستهلك في السوق المحلية. ولكنَّنا نعلم تمامًا أن صادرات السكر
اتجهت إلى مختلف الأسواق والبلاد، إلى جدة،
٤٧ ومخا،
٤٨ ودمشق،
٤٩ والبلاد الرومية (الأناضول)،
٥٠ والبندقية.
٥١ والواقع أن فانسلب — الذي زار مصر بعد مرور نصف قرن على وفاة أبو طاقية —
عند رصده للبضائع التي صدرت من الإسكندرية إلى أوروبا، أورَدَ قائمة تضمَّنَت أنواعًا
مختلفة من السكر: أقماع كبيرة، وأقماع صغيرة، وملبس مصنوع من السكر، وسكر سلطاني، وشربات.
٥٢ كما بيعت كميات كبيرة من السكر بالسوق المحلي، ذهب بعضها إلى تجار كانوا
يُصدِّرونها — غالبًا — إلى الخارج.
٥٣ ويُوضِّح ذلك لنا، أن أبو طاقية استفاد من شبكاته التجارية، التي أقامها في
المرحلة الأولى من حياته العملية، في تصدير السكر.
ولعلَّ قيام تجار كبار من أمثال أبو طاقية والرويعي وجمال الدين الذهبي بالاستثمار
في
زراعة القصب وصناعة السكر، أدَّى إلى تحقيق عدد من النتائج. فلا بد أن تكون الأموال
التي استُثمرت في هذا المجال قد شجَّعت على التوسع في إنتاج السكر بالدلتا، وساعدت هذه
الصناعة على الانتعاش بعدما أصابها من الركود خلال القرن الخامس عشر، الذي كتب عنه الكثير،
٥٤ وربما أدَّى ذلك أيضًا إلى توفير السلعة بسعر مُناسب؛ لأن قيام أبو طاقية
ببيع السكر للتجار البنادقة يعني أن الأسعار التي عرضها كانت مُغريةً، بالنسبة لأسعار
السكر الذي أُنتج في أماكن أكثر قربًا إلى البندقية مثل صقلية — مثلًا — أو قبرص.
٥٥
ويبدو أن دخول التجار مجال الإنتاج قد استمرَّ حتى القرن الثامن عشر، في صناعة
المنسوجات، وربما امتدَّ إلى غيرها من الصناعات. إذ يذكر على الجريتلي أن التجار كانوا
— حتى مطلع القرن التاسع عشر — يستوردون القطن من الشام، ويستخدمون النساء في غزله، ثم
يُقدمون الغزل للنسَّاجين ليَصنعوا منه قماشًا، وتولَّوا الإشراف على مراحل الإنتاج.
٥٦ ويُشابه ذلك نظام الإنتاج الذي كان سائدًا في مختلف أنحاء أوروبا عندئذٍ،
وخاصة في قطاع المنسوجات. ورغم أنه لا تتوافر لدينا معلومات كافية عن مدى اتساع حجم هذا
النشاط في مصر، يدعونا وجود هذا النمط الإنتاجي، وما له من مغزًى، إلى أن نعيد النظر
في
قضية التصنيع في عصر محمد علي باشا، لنرى ما إذا كانت انقلابًا أو تطورًا؛ فقد بدا جانب
من تلك العملية في وقتٍ مبكر، ولولاه لما استطاع الباشا أن يُنفذ سياساته الجديدة. ولم
يكن ذلك النوع من التوافُق مع المتغيرات في عالم التجارة — الذي شهدناه يتم على يد أبو
طاقية وأبناء جيله من التجار — فريدًا في نوعه بأيِّ حال من الأحوال، فقد شهدت بعض
الولايات العثمانية الأخرى نفس الظاهرة. وتذكر ثريا فاروقي أن تجار الأناضول كانوا
يَستثمرون أموالًا في الريف — في القرن السادس عشر — للحصول على المنتجات اللازمة
لتجارتهم، أو يَستثمرون في إنتاج المنسوجات التي يَتجرون بها. وعلى سبيل المثال، كان
النِّسوة بالأناضول يقمن — في مُنتصَف القرن السادس عشر — بإنتاج الصوف الموهير لحساب
تجار أنقرة، وكان صناع الحملة (منسوجات وبر الإبل) في قرى إقليم أنقرة يَعتمدون في كسب
عيشهم على تجار أنقرة الذين كانوا يَبيعون السلعة في البندقية. كما أن صناع الحرير في
بورصة — موضوع دراسة حاييم جربر
Haim Gerber — الذين
صدروا المنسوجات الحريرية إلى مختلف البلاد، كانوا يُزوِّدون النساجين بالحرير الخام.
٥٧
وقد شهدت مصر ظاهرة مُماثلة في حقبة زمنية تالية، عند نهاية القرن الثامن عشر وبداية
القرن التاسع عشر تحت حكم محمد علي. فقد سعى المماليك — في القرن الثامن عشر — إلى
زيادة أرباحهم التجارية، واستثمروا أموالًا في الزراعة لتوفير الغلال اللازمة للتصدير
إلى فرنسا. وبمقارنة ذلك النشاط، بالنشاط الذي مارسه أبو طاقية، يتضح الاختلاف بينهما
من عدة جوانب أساسية؛ ففي نهاية القرن الثامن عشر، حدث تعارض بين مصالح التجار واقتصاد
العالم الرأسمالي الذي كان آخذًا في الاتساع، مما جعل مصر والبلاد المناظرة لها تتجه
إلى تصدير المحاصيل الزراعية والمواد الخام إلى العالم الرأسمالي. كما أنَّ التغيُّرات
التي أدخلها محمد علي على الاقتصاد بربط عرض المحاصيل الزراعية بالطلب في السوق
الأوروبية، أدَّت إلى إيجاد رابطة أوثق مع اقتصاد أوروبا على حساب العلاقات التجارية
مع
اقتصاد العالم العثماني، وقد أدَّت هذه العملية إلى خلق اقتصاد هامشي في مصر — بعد
منتصف القرن التاسع عشر — سيطرت عليه المصالح الرأسمالية الأوروبية المُتنامية. غير
أنَّ مشروعات أبو طاقية — التي قامت قبل ذلك بقرنين من الزمان — كانت مُختلفة تمامًا؛
إذ قامت على التوسع في إنتاج السكر وتصديره إلى الأسواق الخارجية؛ أي كان يُصدر إنتاجًا
صُنِع محليًّا، ولم يكن يُصدِّر محاصيل زراعية أو خامات. وبذلك لا يكون التدهور قد حدث
بمجرَّد غياب السيطرة على التجارة والصناعة، على نحو ما يذهب إليه بعض المؤرخين، كما
أنه ليس من الضروري أن يُؤدي تنشيط التجارة مع أوروبا إلى إضعاف الهياكل التنظيمية
المحلية. فعندما اضمحلَّ دور الدولة في النشاط الاقتصادي، حلَّت محلَّها جماعات أخرى،
أتاح لها هذا التغير فرصة الظهور.
ورغم أن تجارة مصر — خلال تلك الفترة — كانت تصبُّ في إطار اقتصاد العالم العثماني،
لا زال باستطاعتنا أن نجد الدليل على وجود تطور ملحوظ في التجارة مع أوروبا، التي نلمح
بعض مظاهرها في العلاقات التجارية مع البندقية؛ فقد أتاحت ظروف الفترة لأبو طاقية أن
يُوسِّع علاقاته المباشرة مع البندقية، ففتح بذلك مجالًا للتجارة المصرية في مناطق لم
تُتح للتجار المصريِّين فرصة ارتيادها. لقد كانت العلاقات التجارية مع البندقية والتجار
البنادقة علاقات بالغة القدم، فكان البنادقة — فيما نعلم — يفدون دائمًا إلى القاهرة
أو
الإسكندرية لابتياع ما يحتاجونه من السلع، ولم يكن تجار مصر أو وكلاؤهم يقصدون البندقية
لتسويق بضائعهم. وقبل الفتح العثماني، لعب البنادقة دور موزِّع السلع الشرقية عامة
والتوابل خاصة في الأسواق الأوروبية. وبعد الفتح العثماني بقليل، حصل البنادقة على
تصديق من جانب الدولة العثمانية أصبح للتجار البنادقة بموجبه حق الاحتفاظ بكل المزايا
والتسهيلات التي كانت لهم في عصر سلاطين المماليك. وبذلك استمرَّت علاقاتهم التجارية
بالمنطقة نشطة طوال القرن السادس عشر، فكانوا يجلبون إلى مصر مختلف السلع الأوروبية
ليتم تسويق بعضها محليًّا، ويُصدر بعضها الآخر إلى جهات مختلفة خارج مصر عن طريق جدة
ومكة على وجه الخصوص، ولذلك تأثر البنادقة كثيرًا ببروز الهولنديين كمُوزِّعين للتوابل
في أسواق أوروبا، فاهتزت مكانتهم اهتزازًا شديدًا. وإذا كان البنادقة قد فقدوا السيطرة
على سوق التوابل في أوروبا، فقد جربوا حظهم في تجارة السكر لتلبية الطلب المتزايد عليه
في الأسواق الأوروبية. ونجد مِن حينٍ لآخر إشارات بالمصادر إلى تجار بنادقة مارَسُوا
نشاطهم بالقاهرة، وعملوا كوسطاء بين تجار بلادهم وبعض تجار القاهرة الذين كانوا يرغبون
في تصدير البضائع إلى البندقية أو يَستَورِدون سلعًا منها.
وشهد مَطلع القرن السابع عشر مُنافسة حامية الوطيس بين الدول الأوروبية التجارية
للسيطرة على تجارة البحر المتوسِّط، فبدأ البنادقة يَفقدون سيطرتهم — تدريجيًّا — على
تلك التجارة التي كانت من قبل وقفًا عليهم، في حين شقَّ مُنافسوهم الهولنديون
والفرنسيون طريقهم إلى أسواق مصر والشام. واتخذت تلك المنافسة عدة مُستويات؛ فعلى مستوى
الدولة، دارت اتصالات بين تلك الدول والسلطات العثمانية في إستانبول، للحصول على
امتيازات من السلطان للتجار التابعين لبلادهم، كتخفيض العوائد الجمركية، وتأمين التجار
على أرواحهم وأموالهم، والمُوافقة على إقامة قنصليات لرعايتهم. وعلى مستوى الميدان
التجاري دارت منافسة من نوع آخر بين التجار وبعضهم البعض، استعرضوا فيها قدراتهم على
المناورة في السوق، وهو وضع أتاح للتجار المحليين فرصة تحقيق بعض المكاسب بحكم خبرتهم
بأوضاع بلادهم.
غير أنه عندما قام أبو طاقية بمدِّ نشاطه التجاري إلى البندقية، لم يسعَ لاتخاذ وسطاء
من التجار البنادقة، ولكنه اتخذ لنفسه وكلاء ومعاونين من اليهود الذين كانوا يعملون
مُلتزمين للجمرك، أخذوا بضاعة أبو طاقية معهم وسافروا إلى البندقية فباعوها لحسابه
هناك، وعادوا يَحملون بضائع أخرى طلب منهم شراءها لحسابه من البندقية، ثم قدموا له عند
وصولهم القاهرة بيانًا بحساب تلك العمليات التي قاموا بها هناك نيابة عنه. ويعني ذلك
أن
أبو طاقية قام بمدِّ شبكته التجارية إلى البندقية. غير أن الغموض لا زال يلفُّ بتاريخ
التجار العثمانيين عامة والمصريين خاصة، الذين تعاملوا مع الأسواق الأوروبية، ولا تزال
بحاجة إلى دراسة نوع العلاقات المباشرة التي أقاموها، والسُّبُل التي اتبعوها لتوسيع
نطاق شبكاتهم التجارية. ومِن الجدير بالالتفات أن أبو طاقية والتجار من أبناء جيله
قاموا بمد شبكاتهم التجارية إلى البندقية في وقتٍ غلب فيه الظن أن نشاط مثل هؤلاء
وغيرهم من تجار الشرق الأوسط قد تقلَّص بسبب اتِّساع التجارة الأوروبية، كما تُشير إلى
أنَّ تجارتهم اتسمت بقدر كبير من الحيوية التي تحتاج إلى إلقاء المزيد من الضوء عليها.
فقد ساعدهم هذا النشاط الاقتصادي على تعويض ما فاتهم من تجارة التوابل بالاشتغال بتجارة
السكر. وقد قام أبو طاقية بتغيير وجهة نشاطه حوالي العقد الأخير من حياته في مجال
استثمار رأس المال، والمشروعات والمعاملات المتَّصلة بإنتاج وتجارة السكر. ولم تكن
نتائج إعادة هيكلة النظام التجاري اقتصادية فحسب، بل كانت اجتماعية أيضًا. فبمُجرَّد
قيام النظام الجديد، وما ارتبط به من شبكة العلاقات التي تكوَّنت في القاهرة والريف،
والسيطرة التي حققها التجار على تجارة السكر في السوق المحلية والأسواق الخارجية،
تعرَّض عدد كبير من المشروعات الصغيرة للخطر، أو لم تتمكَّن من تدبير رأس المال
لاستثماره على نحو ما فعل الرويعي وأبو طاقية، ومن ثم كان التطور الجديد في غير صالحهم.
وكان عدد التجار القادرين على التحكم في سلعة هامة مثل السكر محدودًا للغاية، ورفع ذلك
التحكم في السِّلعة من قدرهم بين التجار. وبذلك أدَّى ذلك التغير الهيكلي إلى دعم مركز
حفنة من التجار الأقوياء احتلُّوا قمة الهرم الاجتماعي للحِرفة، وحقَّقوا مغانم أكثر
من
غيرهم من التجار. وهكذا ارتبط عدد من أساطين التجارة؛ مِثل علي الرويعي، وإسماعيل أبو
طاقية، وجمال الدين الذهبي بالشاهبندرية، فقد ساعدهم نجاح مشاريعهم التجارية على الوصول
إلى مرتبة الشاهبندر في تلك الفترة.
وكان التجار الأقل حجمًا ومَقدرة على تتبع أحوال العرض والطلب في الأسواق الخارجية،
يستثمرون أموالًا أقل حجمًا في المجالات الجديدة. ولذلك كانوا أقل انتفاعًا بالتغيير
من
كبار التجار؛ ومن ثم أقل مقدرة على تغيير نظام تجارتهم. وبعبارة أخرى، كان التجار من
أمثال أبو طاقية في قمة الهرم الاجتماعي، أقدر من غيرهم من التجار على مواجهة ما قد
يحدث لتجارتهم من أزمات، فقد أدَّت الأوضاع الجديدة إلى حدوث استقطاب داخل جماعة
التجار، حقَّق فيه من استطاعوا توفيق أوضاعهم مع التغيُّرات الجديدة مكاسب طائلة، بينما
عجز غيرهم عن ذلك ووجدوا أنفسهم في وضع أقل مما كانوا عليه من قبل. ولعلَّ هناك عدد
أكبر من التجار قد تأثروا بشكل غير مباشر، كالمشتغلين بتصدير الأرز أو الكتان، أو أولئك
الذين قصروا تجارتهم على التبادل التجاري بين مصر والشام؛ أي إنَّ آثار ذلك التغيُّر
الهيكلي لم يشمل التجار بنفس الدرجة.
كما أنَّ الروابط التي أقامها التجار مع المُشتغِلين بإنتاج السكر والأموال التي
استثمَرُوها في زراعة القصب، أضرَّت بصغار مُنتجي السكر بالقاهرة من أصحاب المعامل.
فرغم ازدهار الإنتاج، لم تتوفَّر لهم الأموال التي تُمكِّنهم من الحصول على الخامات
بسعر مناسب، ولعلَّهم كانوا يَدفعون ثمنًا أكبر لشرائها، مما زاد من تكلفة إنتاج السكر
عندهم عنه عند كبار التجار من أمثال أبو طاقية؛ ومن ثم حدث تمييز بين مُنتجي السكر،
ارتبط بدرجة القدرة على توفير الخامات بسعر معقول.
والواقع أن ما فعله أبو طاقية والرويعي والذهبي وأمثالهم من التجار عندما ربطوا
نشاطهم بالزراعة والإنتاج، لم يكن جديدًا؛ فقد حدثت مبادرات مماثلة قبل ذلك بقرن ونصف
القرن أو قرنين من الزمان على يد بعض سلاطين المماليك والأمراء الأقوياء، مثل قوصون
وابن زنبر.
٥٨ واهتمَّ السلطان برسباي بالسكر — على وجه الخصوص — فاحتكر زراعة القصب
وإنتاج السكر (كما رأينا). وشاع امتلاك السلاطين لمعامل تكرير السكر، فكان الغوري يمتلك
عددًا كبيرًا منها، وكذلك فعل الأمراء الذين اشتغلُوا بإنتاج السكر وتجارته، فكانوا
يستثمرون في مجالٍ أرباحه مضمونة وكبيرة. وعندما اختفى أولئك الحكام من المسرح السياسي،
وحل محلهم العثمانيُّون، لم يهتمُّوا بالاستثمار في ذلك المجال. والجديد فيما حدث في
القرن السابع عشر يتمثَّل في الدور الحيوي الذي لعبه التجار في عملية الإنتاج؛ فقد قام
ذلك النشاط الهام على أكتاف جماعة من التجار المحليِّين، ولم يَقُم به الحكام.
ويُمكن أن يُصور لنا إنتاج السكر وتجارته جانبًا من السبل التي أتاحت تدخل الدولة
في
مثل ذلك النشاط الاقتصادي الرئيسي، وتلك التي هيأت الفرصة أمام القوى الاقتصادية لتلعب
دورًا في دفع عجلة هذا النشاط؛ فقد رأينا كيف كان الطلب كبيرًا على السكر محليًّا، وفي
أسواق الدولة العثمانية وأوروبا، وكيف قامت تجارة خاصة نشطة في السكر بين مصر
والأناضول، إضافةً إلى ما كانت تَطلُبه الحكومة في إستانبول من كميات مُحدَّدة من السكر
كلَّ عام لسدِّ حاجة المطابخ السلطانية، ويُقدم ستانفورد شو أرقام شحنات السكر التي
اتجهت إلى إستانبول تلبية لطلب المطابخ السلطانية بإستانبول؛ إذ كان يصدر ٨٠٠ قنطار من
السكر سنويًّا فيما بين ١٥٧٢–١٥٨٦م، ثم تضاعفَت الكمية في ١٥٨٦م لتُصبح ١٤٠٠ قنطار.
٥٩ وكان شيخ الطائفة يتولى تدبير الكميات التي تَطلُب الدولة شراءها، ويُتابع
التزام أعضاء الطائفة بالتوريد، الذي كان يتمُّ بنفس أسعار السوق، على نحو ما تُبينه
معاملات أبو طاقية مع الموظفين العثمانيين الذين كُلفوا بالشراء. ففي عام ١٠٢٩ﻫ/ ١٦١٩م
باع أبو طاقية ١٢٠ قنطارًا لأمين السكر ليُصدَّر ضمن إرسالية إستانبول بسعر ٢٠ و٣٠
قرشًا للقنطار،
٦٠ وهو ما كان يُطابق سعر السوق، وبمُجرَّد حصول الحكومة على حاجتها من
السِّلعة كانت لا تهتمُّ بفرض ضوابط على الصفقات الخاصة أو على الإنتاج، سواء في السوق
المحلية، أم فيما يتعلَّق بصادرات السكر إلى الأسواق الخارجية.
ولعلَّ موقف الدولة في هذا الصدد يعود إلى أن إنتاج السكر قد فاق حاجتها إليه. وربما
كانت كمية الثمانمائة قنطار التي صدرت سنويًّا لإستانبول، والتي زادت إلى ١٤٠٠ قنطار
عام ١٥٨٦م تُمثل قدرًا مُتواضعًا من إنتاج السكر، فقد كان ما يَشتريه أبو طاقية من
السكر الخام من منطقة ريفية واحدة يقرب من الألف قنطار، وإن كان ما يتمُّ إرساله إلى
إستانبول من السكر المكرَّر، وربما كان التجار الآخرون يَتعاملون في كميات مُماثلة أو
أكبر حجمًا؛ ومن ثم كان الوضع مُختلفًا تمامًا عما ذكره بعض المؤرِّخين فيما يتَّصل
بإنتاج سلع معينة في إستانبول أو الأناضول،
٦١ حيث كانت الدولة تهتمُّ بالحصول على كميات معينة من المنسوجات والقنب
لتلبية حاجات الترسانة أو صناعة ملابس جنود الإنكشارية،
٦٢ ولكن علاقة الدولة بالتجارة والصناعة في مصر كانت أكثر مرونة لبُعد الشقة
واختلاف الأحوال عما كانت عليه بالأناضول.
وكما حدث بالنسبة لتجارة التوابل التي احتكرها سلاطين المماليك، أدَّى سقوط الدولة
المملوكية إلى بُروز دور التجار ومُمارستهم للنشاط بحرية أكبر من ذي قبل. فالاستثمارات
الكبيرة التي وجَّهها السلاطين المماليك إلى صناعة السكر، أصبحت بعد قرن تقريبًا تقدم
من جانب التجار، والدليل على نجاح تلك الاستثمارات يتمثَّل في صادرات السكر إلى موانئ
البحر المتوسِّط والبحر الأحمر. وبعبارة أخرى، لم يكن التوسُّع التجاري في فترة الدراسة
مطابقًا لنموذج الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ حيث كانت المواد الخام تمثل
إجمالي الصادرات، بينما كانت المنتجات الصناعية تمثل غالبية الواردات. فقد لعبت صناعة
السكر — التي دعمتها تلك الاستثمارات — دورًا في الحفاظ على التوازن على النحو المشار
إليه.