(٢) دور التجار
تتَّفق جمهرة المؤرِّخين على الوجهة التي اتخذَتها تلك التغيُّرات، ولكنَّهم — حتى
الآن — لم يُلقوا بالًا إلى دور التجار في تلك العمَلية وموقفهم منها، فلا تذكر
المؤلفات الرئيسية عن الفترة التي كتبها شو Shaw، أو
هولت Holt، أو ونتر
Winter أي دور التجار في صراع السُّلطة الذي جرى
خلال تلك العقود. ولعلَّ هذا الإغفال لدور التجار يعني أحد أمرين: فإما أن يكون مرد ذلك
إلى أن ما كان معروفًا عن التجار والفترة الزمنية عامة، كان قليلًا بالدرجة التي لم
تُتح للمؤرِّخين فرصة تقديم افتراضات حول ذلك الدور، وإما أن يكون المؤرِّخون قد
قدَّروا عدم أهمية الدور الذي لعبه التجار في ذلك المجال. غير أن تقديم تقييم واقعي
لدور التجار في الحياة العامة وصراع السلطة أصبح ممكنًا على ضوء المادة التي توصَّلنا
إليها من سجلات المحكمة الشرعية، وهو في واقع الأمر دور على درجة عالية من الحيوية؛
لأنه يُساعدنا على فهم الكيفية التي دارت بها عجلة المجتمع عندما حدثت تلك التحولات
الاجتماعية والاقتصادية.
لقد كانت أحوال التجار تتغيَّر للأسباب المُختلفة سالفة الذكر، وواكب بروزهم كقوة
اقتصادية بُزوغ نَجمهم في المجتمع. كما أنه في أوقات الاضطراب الاجتماعي تزداد فرص
الحراك الاجتماعي، سواء بالنسبة للجماعات أو للأفراد الذين يَنتمُون إليها. ولذلك
يساعدنا تحليل علاقاتهم بهيكل السلطة على تحديد ملامح التغيير الذي أصاب وضعهم
الاجتماعي من ناحية، كما يُساعدنا على ملاحظة دورهم في إعادة بناء علاقات القوى عندئذٍ،
من ناحية أخرى. أي إنَّ بإمكاننا تحليل دور التجار كجماعة تأثرت بتلك التغيرات،
وكمشاركين في عملية التغيير بالغة التعقيد، استنادًا إلى أحوالهم الاقتصادية التي كانت
حديثة العهد بالازدهار، وسعيهم للاستفادة من الأوضاع الجديدة.
وعند إقدامنا على تحليل دور التجار، نستطيع اختيار عدد مِن النماذج المُختلفة، التي
صاغها المُؤرِّخون، فيما يتعلَّق بموقع التجار من التركيب الاجتماعي وعلاقاتهم بهيكل
السلطة في المُجتمَعات الحضرية بالشرق الأوسط فيما قبل الحداثة. ويرى أحد تلك النماذج
في التجار مصدرًا دائمًا من مَصادر إيرادات الدولة، أو الحكام، إما عن طريق حِرمانهم
من
المال ومُختلف أشكال الثَّروة التي كان باستطاعة الدولة مُصادرتها عندما تمرُّ بضائقة
مالية، وإما عن طريق قيام رجال الخزانة الجَشِعين بفرض الضرائب الباهظة عليهم، فلا
يُبقون للتجار إلا قدرًا قليلًا من الثروة. وهو نموذج التاجر — الذي صاغَتْه بعض
الدراسات — والذي تُحرِّكه القوى السياسية أكثر ممَّا تُحرِّكه القوى الاقتصادية، والذي
يُعدُّ أداةً في يد الدولة أو الحاكم، فهو شريك سلبي يَخضع لاستنزاف مالي ظالم بشكل أو
بآخر، وصلت ثروته إلى الآخرين كما وصلت إليه … فالتاجر — عندهم — يَتَّخذ دائمًا موقف
الدفاع، يحمي دائمًا نفسه من الحكام ومُوظَّفي الخزانة الجَشِعين الذين يسعون للحصول
على ما يستطيعون الحصول عليه ممَّا يُحقِّقه التاجر من الأرباح.
٢
ولكن هذه الصورة لا تدعمها المادة الوثائقية لتلك الفترة.
٣ فلا تُقدِّم لنا الأدلة الوثائقية المتعلِّقة بأبو طاقية ومعاصريه من
أساطين التجار صورة التجار الذين يَستبدُّ بهم الخوف مما قد يلحق بثرواتهم، بل يبدون
—
على نقيض ذلك — في غاية الراحة، يعرضون على الملأ نتائج نجاحهم في أعمالهم، ويَجهرون
بما يُنفقون من أموال، ويَستثمرون أموالهم في مختلف مجالات العمل؛ إذ تُوضِّح الدراسة
الدقيقة لمادة سجلات المحكمة الشرعية أن مثل هذا التعميم الذي قد ينسحب على حقب زمنية
معيَّنة، لا ينطبق بالضرورة على الحِقَب الزمنية الأخرى.
وثمَّة نموذج آخر يُشير إلى أن التجار كانوا على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة
للطبقات الحاكمة، جعلتْهم بمنأًى عن التهميش؛ إذ كان التجار يُمدُّون الحكام بالسِّلع
الثمينة المستوردة من أقطار بعيدة، ويجلبون لهم العبيد، ويُقدمون لهم ما يلزمهم من سلاح
وعتاد، فكانوا بذلك يُسْدون إليهم خدمات لا غِنى عنها. ولا يُقدم أي من النموذجين
سالفَي الذِّكر إلا دورًا سلبيًّا للتجار، فهم دائمًا في خدمة جماعات الحكام، ولا
يلعبون دورًا في تحريك السياسات، بأيِّ سبيل من السبل. وتتَّضح سلبيَّتهم وعدم قدرتهم
على الدفاع عن مصالحهم في غياب الطوائف القوية التي تُمثل مصالح التجار، على نحو ما
عرفته المدن الأوروبية.
وتبحث دراسة أبو طاقية وجيله من التجار في مدى انطباق تلك النماذج على حالتهم، من
خلال تحليل العلاقة بينهم وبين هياكل السُّلطة القائمة، ودورهم في التحوُّلات التي حدثت
في تلك الحقبة، والتساؤل حول مدى انخراط التجار المُعاصِرين لتلك التحوُّلات في الأحداث
التي قادت إليها، وما إذا كانوا قد ساعدوا على وقوعها أو لعبوا دورًا في توجيهها؛ أي
إننا سنتتبَّع آل أبو طاقية لنرى ما إذا كان التجار مجرَّد مراقبين سلبيين للصراع
الاجتماعي الذي نجمت عنه تلك التغيرات، أم إن صدامهم بالباشاوات أو المُلتزمين أو
المماليك قد وجَّه رياح التغيير وجهةً مُعيَّنة.
وسيُنوِّه التحليل أيضًا بمسألة أخرى كانت موضع جدل بين المؤرخين لوقت طويل؛ إذ يلاحظ
أن ثمة سؤالًا يُطرح دائمًا حول أسباب عدم قيام تجَّار الدولة العثمانية بتكوين طائفة
ذات شخصية مُستقلة تلعب دور جماعة الضغط التي تدفع السلطات لإجابة مَطالبهم، مثلما فعل
تجار أوروبا. وتَرجع إشكالية طرح مثل هذا السؤال — بصفة جزئية — إلى أن مَن يَفعلون ذلك
يضعون في اعتبارهم نماذج وأشكالًا من المؤسسات ظهرت في أوروبا وحدها نتيجة تطوُّر
تاريخي معين، نادرًا ما تتكرَّر ظروفه في موقع آخر. ولكن دراسة حالة أبو طاقية دراسة
دقيقة، تُبين لنا ما كان يتمتَّع به التجار من قدرة على المساومة، والطرق التي اتبعوها
لتحقيق أهدافهم، إلى غير ذلك من أمور، في إطار التركيب الاجتماعي الذي كانوا أحد
مُكوِّناته.
(٣) التجار وهيكل السلطة
ورغم أنَّ التجار لم يَلعبوا دورًا نشطًا في الصراع على السلطة الذي دارت رحاه بين
السُّلطات العثمانية والجماعات العسكرية المحلية، فلم يَسعوا للحصول على الالتزامات
التي تصارعت عليها الجماعات العسكرية، كما لم يكونوا طرفًا في أعمال العنف التي وقعت
بين الأطراف المتصارعة، إلا أنهم لم يكونوا مجرَّد مُراقبين سلبيِّين للأحداث التي
تبلورت صورتها في تلك الأيام. وعلى النقيض تمامًا، يُمكن القول إنَّ تأييد التجار لطرف
أو آخر كان يقلب توازُن القوى لصالحه، مما جعل الأطراف المُتصارعة تأخذ في اعتبارها
الوزن السياسي والاجتماعي للتجار. وكان للتجار صلات وروابط لا حصر لها بجماعات السلطة
بصورة دائمة منذ زمن بعيد، فعلى سبيل المثال، كان تجار الكارمية — في القرنين الثالث
عشر والرابع عشر — على صلة وثيقة بالطبقة الحاكمة. وكان السلاطين يُطالبون حكام البلاد
التي كان الكارمية يُتاجرون معها بالعمل على حماية مصالح أولئك التجار. وفي المقابل،
كان السلاطين يلجئون إلى التجار لتمويل حملاتهم العسكرية.
٤ وفي القرن الخامس عشر طرأ تغيُّر هام في وضع التجار الكارمية عندما أقدم
السلطان برسباي على احتكار تجارة الفلفل، فتحول الكثير منهم إلى مجرَّد وكلاء تجاريِّين
للسلاطين المُماليك، وبذلك غُلت أيديهم عن ذي قبل عن طريق الأوامر والسياسات التي نظمت
مجال عَملِهم التجاري، وقلصته إلى حدٍّ كبير.
ويُهمُّنا هنا فيما يتعلَّق بالتجار من أبناء جيل أبو طاقية أن نُحدِّد شكل العلاقة
بينهم وبين السُّلطة، أو أن نصفَ العلاقة بين المجموعة التي كانت بعيدة عن السُّلطة
والحكام؛ الباشاوات العثمانيِّين، ورجال الإدارة، والأوجاقات العسكرية، وملتزمي
الجمارك، وغيرهم. فقد استطاعَت عائلات النخبة التجارية من أمثال أبو طاقية، والرويعي،
والدميري، ويغمور، والشجاعي، والعاصي أن تُكوِّن ثروات طائلة من نشاطها التجاري، جعلت
منها قوة اقتصادية. ودخل التجَّار في علاقات مُختلفة مع جماعات السُّلطة من خلال
معاملاتهم التجارية وغير التجارية، فأدخلوهم شركاء في بعض أعمالهم، وأقرضوهم المال،
وتنافسوا معهم في بعض المشروعات التجارية الأخرى … فنجدهم يَتعاونون معًا أحيانًا في
مسألة تتَّصل بالمصالح المُشتركة، وأحيانًا أخرى نجدهم على طرفَي نقيض. وبعبارة أخرى
…
لم يَقتصِر دور التجار على تلبية حاجات الحكام، بل تعامَلُوا معهم كجماعة لها شخصيتها
المستقلة.
كان وضعُ التجار بالنِّسبة للسلطة زمن أبو طاقية يَمتاز بوجود تبادُل للمصالح لم يحظَ
به التجار قبل ذلك بقَرن من الزمان، وحتى لو كانت العلاقة غير ندِّية، فقد تمتَّع
التجار بقدرة على المساومة وفَّرتها لهم ثرواتهم المادية التي استخدموها كسلاح
للمُساومة حول التوصل لاتفاقات مع الحكام، فيُوفَّقون أحيانًا إلى ما فيه مصلحتهم،
ويُخفقون أحيانًا أخرى، ولكنهم في كلا الحالين لم يلعبوا دور التابع للسلطة
السياسية.
لقد كان من مصلحة التجار أن يَتبادلوا المصالح مع الحكام، عن طريق توكيد الجوانب
المشتركة في العلاقة بين الطرفَين. ويذهب بعض المؤرِّخين إلى أنَّ التجار الأثرياء
كانوا يتَّجهون إلى إخفاء مظاهر الثراء، حتى لا يَلفتوا أنظار الحكام إليهم ويتعرَّضوا
للمصادرة، ولكن لا يبدو ذلك صحيحًا بالنسبة لنخبة التجار في تلك الحقبة؛ فقد قام التجار
من أمثال أبو طاقية بصياغة نظام حياتهم بصورة مُشابهة لأسلوب حياة الطبقة الحاكمة،
وبذلك كانوا أندادًا للحكام من الناحية الاجتماعية، مما مكَّنهم من إقامة علاقات ندية
مع أفراد الطبقة العسكرية الحاكمة.
ولا عجب أن نجد إسماعيل أبو طاقية — في العقدَين الأخيرَين من حياته — وقد أحاط نفسه
بمظاهر الحياة «الأرستقراطية» القاهرية، وكان قد أصبح شاهبندر التجار، ممَّا ارتقى
بمكانته الاجتماعية. فأقام في بيت كبير مليء بالأتباع والعبيد والخدم والحشم، واستخدم
مباشرًا لتولي مهمة ضبط حساباته. وكانت عائلته الكبيرة؛ بزوجاته وجواريه وأبنائه، تكمل
مظاهر الأبهة الاجتماعية، وبيته الكبير كانت تتوفَّر فيه وسائل الراحة والخدمة، ويؤمُّه
الزوار من عِلية القوم، الذين يُستقبَلون في بهو كبير تزينه أعمدة من الرخام الملوَّن،
يُضاء مساءً بشمعدان فضي، ويقدم لهم الطعام في أطباق من خزف أزنيك (ورد ذكرها في وثيقة
التركة عند وفاته)،
٥ ويَقف على خدمتهم عدد كبير من الخدم والعبيد. وبذلك بدا التجار أندادًا
للحكام، وإن لم تتوفَّر لهم السلطة السياسية أو القوة العسكرية؛ إذ كانت العلاقات
الاجتماعية سبيلًا للاتصال بذوي السُّلطة، يعود نفعها على التجار أحيانًا.
ويُمكننا أن نرى منظورًا ثقافيًّا مختلفًا لمسألة المظاهر الاجتماعية والأموال التي
تتكلَّفها، مقارنة بالمنظور البروتستانتي أو الكالفني الذي يدعو إلى التقتير في
الإنفاق، حتى عندما تتوفَّر أسباب الثروة. فالثقافة التي انتسب إليها أبو طاقية تسمح
بالتباهي بالثروة لمن كانوا في مثل وضعه الاجتماعي (من باب التحدُّث بنعمة الله)،
ويُوضِّح ذلك العلاقة الوثيقة بين الثقافة والطبيعة الاقتصادية؛ فالعوامل الثقافية قد
تلعب دورًا حيويًّا حتى في المواقف المتصلة بالمصالح المادية. وبنفس القدر لعبت المثل
البروتستانية كعامل ثقافي، دورًا في تطور الرأسمالية في أوروبا، مما يجعلنا نرى بُعدًا
ثقافيًّا يُضفَى على التوجُّه الاقتصادي للتجار.
وكانت جماعات السُّلطة الرئيسية التي ارتبط بها أبو طاقية، ورفاقه التجار هي كبار
رجال الإدارة العثمانيِّين؛ كالباشا وقاضي القضاة. ولعلَّ الباشاوات العثمانيِّين في
النصف الثاني من القرن السادس عشر كانوا ينافسون أبو طاقية في تجارته؛ فقد كان الواحد
منهم يشغل المنصب لمدة عام أو عامين في أغلب الأحوال، ولكن الغريب أنهم كانوا مُهتمِّين
بالحياة الاقتصادية للبلاد، ويتَّجهون إلى الاستثمار في التجارة ذات الأرباح المُجزية
بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكنَّنا لا نعرف على وجه التحديد أبعاد نشاطهم التجاري،
ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنهم لم يستخدموا سجلات المحكمة الشرعية في نشاطهم على نحو ما كان
يفعل التجار، ونجد — أحيانًا — نصوصًا تاريخية تُشير إلى ذلك النشاط، مثل حالة بيرم
باشا (١٠٣٥–٣٨/ ١٦٢٦–٢٨)، فيذكر المؤرِّخ أحمد شلبي أنه كان له ميل إلى التجارة.
٦ كما نَعلم علم اليقين أن بعض الباشاوات مثل إسكندر باشا، وسنان باشا —
مثلًا — كانوا يمتلكون سفنًا بالبحر الأحمر،
٧ واستثمروا أموالًا كثيرة في بناء الوكالات بالمدن الرئيسية المشتغلة
بالتجارة الدولية؛ كبولاق ورشيد والإسكندرية والسويس.
٨ وكان وكلاؤهم يَرعون مصالحهم التجارية في مصر بعد تركهم لمناصبهم، بوقت
طويل.
كذلك كان الباشاوات العثمانيُّون ولاة اليمن يمارسون نشاطًا في التجارة الدولية
باليمن، والحبشة (بدرجة أقل)، وأحيانًا كان باشاوات الولايات المختلفة يَتعاونون معًا
في نشاطهم التجاري، كما كانوا يَتعاونون — غالبًا — مع تجار القاهرة. وتُشير إحدى
القضايا التي نظرتها المحكمة الشرعية أنَّ أحمد باشا والي الحبش كان مدينًا بمبلغ من
المال للخواجة كريم الدين البرديني وثلاثة غيره من تجار القاهرة، وضمنَه إبراهيم باشا
والي مصر، الذي استطاع أن يردَّ للتجار أموالهم عام ١٠٢٣ﻫ/ ١٦٢٢م.
٩ وهكذا لم يكن الباشاوات يَتنافسون مباشرة مع التجار من أمثال أبو طاقية،
والرويعي، والذهبي فحسب، بل كانوا مُنافسين أقوياء بفضل ما توفر لهم من مال وجاه لم
يُتح للتجار. وهناك بعض الأمثلة التي تُشير إلى مقدار ثروة الباشاوات العثمانيِّين،
فعندما فتحت الحواصل التي خزنت بها بضائع محمود باشا والي الحبش، بعد وفاته، قدرت قيمة
التوابل المُودعة بها بنحو نصف المليون نصف.
١٠ وباع وكيل حسن باشا والي اليمن المقيم بالقاهرة إلى القنصل الفرنسي
بالقاهرة توابل، بلَغَت قيمتها عشرة آلاف دينار، أي ما يَقرُب من نصف المليون نصف.
١١ وإلى جانب منافسة الباشاوات للتجار، كانوا يقومون أحيانًا باستخدام
صلاحياتهم لدعم المشروعات التجارية الناجحة الخاصة بهم، ونظرًا لصعوبة الاختصام معهم
أيام المحكمة، فإنَّ مركز التجار كان أضعف منهم، في حالة وقوع نزاع يتطلب اللجوء إلى
القضاء.
وكان الباشاوات يُمارسون التجارة — أحيانًا — من خلال الوكلاء، ولجئوا — أحيانًا أخرى
— إلى التجار ذوي الخبرة والشبكات التجارية المُمتدة إلى المراكز التجارية الرئيسية،
لتصريف أمورهم التجارية. وقد تأخُذ العلاقة التجارية بين الباشاوات والتجار أحد أمرين،
فيلعب التاجر دور الوكيل، أو دور الشريك، وفي كلا الحالين يَضمن التاجر لنفسه هامشًا
من
الربح، ولكن هذه العلاقة لم تتَّسم بالندية، كما كانت الحال في صيغة عقد الشركة. ويبدو
أن التاجر كان عُرضة لتحقيق أرباحٍ أقل عند مُشاركته لأحد كبار رجال السلطة في
التجارة.
ومن الصعوبة بمكان معرفة ما إذا كان للتاجر حرية الاختيار للدخول في علاقة تجارية
مع
الباشا إذا ما طلب منه ذلك. وربما كان التاجر لا يعدم مخرجًا إذا لم يكن يرغب في
التعاون مع الباشا، كما أنَّ التاجر الذي يدخل في علاقة عمل مع الباشا يسعى لتجنب
الوقوع تحت سيطرتِه، ويُحاول أن يُحقِّق لنفسه قدرًا من الفائدة؛ فالعلاقة الوثيقة
بالسلطة قد ترقى بمَكانته وتدعم مركزه، باعتباره شريكًا تجاريًّا للباشا، كذلك توفر مثل
هذه العلاقة الحماية للتاجر من المصادرة إذا أحسن تدبير أمره مع الباشا.
وعندما دخل أبو طاقية دائرة الاتصال بالحكام العثمانيِّين، أصبح مُنغمسًا في سلسلة
من
المجامَلات والخدمات المُشترَكة، كانت في الأغلب لا صِلة لها بالتجارة، أو بأيِّ فائدة
مادية مُباشرة؛ فقد طلب منه قاضي القضاة ذات مرة أن يُحوِّل له مبلغًا من المال إلى أحد
أقاربه بإستانبول من خلال وكيل أبو طاقية هناك. واختاره محمد أفندي (قاضي قضاة آخر)
ليكون وكيلًا عنه في إدارة غيط الجعبري، وهو مزرعة كانت للقاضي بالقرب من القاهرة، وذلك
بعد أن نُقل من منصبه، وقد شغل فيما بعد أرفع مناصب القضاء في الدولة وهو منصف قاضي
عسكر الرومللي.
١٢ ولا شك أن الخدمات التي كان باستطاعة قاضي القضاة أن يقدمها لأبو طاقية
تفوق الحصر، إذا وضعنا في اعتبارنا اتصاله المباشر بالمحكمة وخاصة محكمة الباب
العالي.
وتُصوِّر علاقة إسماعيل أبو طاقية بأحد الباشاوات هذا النوع من تبادل المنافع؛ فقد
ارتبط أبو طاقية — في السنوات الأخيرة من عمره — بعلاقة وثيقة مع فضلي باشا (ويُسمى
أيضًا فضل الله باشا) والي اليمن، كما ارتبط بعلاقة أقل متانةً مع أحمد باشا والي الحبش.
١٣ ولعلَّ إسماعيل أبو طاقية لم يَلتقِ أبدًا بفضلي باشا، ورغم ذلك بلغت
تجارته معه حجمًا كبيرًا، ويبدو أن فضلي باشا كان مُهتمًّا بالحصول على البضائع
المصرية. وتشير سجلات شركة الهند الشرقية الهولندية أنَّ ميناء مخا — المركز الهام في
تجارة العبور — كانت تستقلُّ سنويًّا سفينةً واحدة قادمة من السويس تَحمل بضائع ينتظرها
الناس بفارغ الصبر.
١٤ وعُرف فضلي باشا باتِّساع دائرة نشاطه التجاري؛ فقد لاحظ بعض التجار
الهولنديِّين الذين وصلوا إلى مخا بسفينتهم أن الباشا يتعامل في كميات كبيرة من
البضائع، وعلى حدِّ تعبير أولئك التجار في تقريرٍ رفعوه إلى شركة الهند الشرقية
الهولندية جاء الباشا إلى اليمن فقيرًا، وغادرها ثريًّا.
١٥ وعند وفاة أبو طاقية، كان فضلي باشا من بين المدينين له بالمال. ولا نعرف
تفاصيل العلاقة التجارية بين أبو طاقية وفضلي باشا، ولكن نظرًا لأهمية مخا التجارية،
ربما كان أبو طاقية يمد الباشا بالبضائع المصرية التي يزيد الطلب عليها في الأسواق
الشرقية، أو ربما كان يُعاونه على تصريف البُن والتوابل في المراكز التجارية التي كان
له فيها وكلاء وموظَّفون يَرعون تجارته.
١٦
والجماعة الأخرى التي ارتبط بها التجار ارتباطًا وثيقًا هم مُلتزمو الجمارك، الذين
كان معظمهم من اليهود في تلك الحقبة. وهنا أيضًا كان تبادُل المنافع هامًّا في تلك
العلاقة. وكان ابتزاز ملتزمي الجمارك للتجار أمرًا تؤكده المصادر، فيعطينا يوهان فيلد
(الذي زار مصر في ١٦٠٦–١٦١٠م) صورة واضحة عن الطريقة التي قد يُعامَل بها التجار
بالجمارك عندما يصلون ببضائعهم، فيَذكر أن مُلتزم الجمرك سأل التاجر الفارسي (الذي كان
فيلد بصُحبته) عن محتويات شحنته، ولم يَقتنع برد التاجر الذي أقر أن بضاعته من الفلفل.
واتَّهمه بأنه يخفي في الزكائب الأحجار الكريمة واللؤلؤ. وقام بفتح الزكائب، رغم اعتراض
التاجر، وسكب محتوياتها من الفلفل لكنه لم يَعثُر داخلها على أحجار كريمة أو لؤلؤ.
١٧ غير أنَّ هذه المُضايقات لم تذهب سدًى، فقد لجأ التاجر إلى المحكمة مدعيًا
أن بضاعته قد أصابها التلف نتيجة تصرُّف ملتزم الجمرك، فتمَّ إلزام المُلتزم بتعبئة
الفلفل ودفع غرامة جزاء ما فعل. والحادثة التي رواها فيلد بالغة الأهمية؛ لأنَّها تُشير
إلى حدود سلطات ملتزم الجمرك، كما تبيَّن — مرةً أخرى — دور المحاكم في مثل تلك
القضايا.
وتميل النظريات التي صيغت حول ابتزاز ملتزمي الجمارك للتجار إلى تقديم صورة الملتزم
كمُستبد، والتاجر كضحية للاستبداد، ولا وسط بينهما. ولا شكَّ أن الصورة تضمنت بعض
الحقيقة، وخاصة بالنسبة للتجار المتوسطين والصغار الذين لا تتوافَر لهم القوة التي
تُتيح له مخرجًا من ذلك العسف، غير أنَّ التجار الذين كان لهم وزن اجتماعي واقتصادي
كبير دخلوا في علاقات حيوية مع مُلتزمي الجمارك لمصلحة هذا الطرف أو ذاك. ومقابل عدم
التعرض للمضايقات والابتزاز، شارك أبو طاقية بعض ملتزمي الجمارك في تجارته؛ ففي كثير
من
الحالات باع إليهم بعض البضائع التي استورَدَها عبر البحر الأحمر والسويس فور وصولها،
ربما بسعر أقل من أسعار الجملة بأسواق القاهرة. كما كان أولئك المُلتزمون يشترون بعض
البضائع التي يُصدِّرها التجار إلى أوروبا، وبذلك يشاركون التجار بعض الربح الذين يسعون
إلى تحقيقه. وتُشير سجلات المحكمة الشرعية إلى أن إسماعيل أبو طاقية أقرض مُلتزمي
الجمارك مبالغ كبيرة من المال. وعلى سبيل المثال، أقرض عام ١٠١٣ﻫ/ ١٦٠٤م مبلغ ٢٧٢٠
دينارًا لاثنين من ملتزمي جمرك التوابل على أن يتم استيفاء القرض من الجمارك التي
تستحقُّ عليه مستقبلًا لمدة زمنية معينة، وتغطية ثمن بعض التوابل التي اشتراها لحسابه.
١٨ وقد جاء تسجيل تلك المعاملات بالمحكمة ليُعطيها بُعدًا قانونيًّا يوفر
الضمان للتاجر. ولكن مُلتزمي الجمارك لم يُعدموا السبيل للضغط على التجار من أجل الحصول
على مكاسب أكثر خارج الإطار القانوني؛ فنجد اثنين من ملتزمي جمرك السويس هما بايزيد بك
مير لوا، والمعلم موسى بن خلفا يُقنعان إسماعيل أبو طاقية — التاجر الكبير مُستورِد
التوابل — بأن يَشتري منهما ١٠٦ قناطير من الفلفل بسعر يَقترب من سعر السوق، هو ١٥
دينارًا للقنطار الواحد.
١٩
وهناك نموذج آخر لتعامل أبو طاقية مع جمرك الإسكندرية؛ حيث كان يُعيد تصدير السلع
التي جلبها عبر البحر الأحمر وبعض المنتجات المحلية كالسكَّر. فنجد أبو طاقية يُقرض
مُلتزمي الجمرك مبلغًا من المال ليستغلُّوه في التجارة، فأقرض المعلم شالوم بن موردخاي
١٧٠٠ قرش على أن يتمَّ استيفاء القرض من العوائد الجمركية المستحقَّة على ما يُصدِّره
إسماعيل أبو طاقية إلى البندقية من بلاد الروم وما يَستورده منها.
٢٠ كذلك كان مُلتزمو الجمرك يشتغلون بالوساطة التجارية في استيراد البضائع
الأوروبية وبيعها إلى التجار في القاهرة مثل المعادن والنحاس، وقماش المخمل.
٢١ وعندما حدث ذلك، لحقت الخسارة بالتجار الأوروبيِّين الذين رأوا في ملتزمي
الجمارك منافسًا خطيرًا يصعب الصمود أمامه.
ومن بين الأبعاد الحيوية لعلاقة التجار بملتزمي الجمارك، توسيعُ الشبكات التجارية،
وهو من الأبعاد التي خدَمَت مصالح الطرفين في مختلف الاتجاهات. وجاء — مرة أخرى — على
أساسٍ تبادُلي. وتحتوي الوثائق التاريخية — وخاصة ما اتَّصل منها بالقرن السادس عشر —
على عدد من الحالات التي لجأ فيها مُلتزمو الجمارك اليهود إلى التجار، ليلعبوا دور
الوكلاء عنهم في تصدير بضائعهم إلى مكة وتصريفها هناك، ثم يشترون التوابل لحسابهم
ويُصدرونها إلى القاهرة.
٢٢ وبذلك استطاع اليهود أن يُمدُّوا شبكتهم التجارية إلى مكة وغيرها من بلاد
الحجاز، التي لا يسمح لغير المسلمين بدخولها. وحدث ما يُماثل ذلك في الاتجاه الآخر،
اتجاه البندقية عبر البحر المتوسط؛ إذ استفاد أبو طاقية — وغيره من كبار التجار — من
صلات مُلتزمي الجمارك اليهود بالمراكز التجارية الأوروبية وخاصة البندقية، فاستطاع أبو
طاقية أن يَصِل بتجارته إلى البندقية من خلال الوكلاء اليهود لملتزمي الجمارك فتعامل
من
خلالهم مع الأسواق الأوروبية؛ إذ لعب اليهود دورًا بارزًا في التجارة بين الدولة
العثمانية والموانئ الإيطالية عامة، والبندقية خاصة خلال القرنين السادس عشر والسابع
عشر.
٢٣ ويبدو أنه لم يكن هناك شريك أو وكيل لأبو طاقية يُقيم بالبندقية، فكان
يتوجَّه بمَطالبه التجارية إلى هارون أو أحد أخويه نهارون وشوعا، الذين كانوا — على ما
يبدو — يرتبطون بشبكة تجارية يهودية ينتمي إليها ملتزمو الجمارك في مصر، فكانوا
يُسافرون ببضاعة أبو طاقية إلى البندقية، يَصرفونها هناك، ثم يشترون لحسابه بضائع أخرى
من أسواق البندقية ويُصدِّرونها إلى الإسكندرية.
٢٤ ولا بدَّ أن يكون ما عاد عليه من نفع من وراء مدِّ شبكته التجارية إلى
البندقية أمرًا ذا بال، وخاصَّة أن قطاعات التجارة الدولية الأخرى كانت تُعاني أزمة من
جراء دخول التجار الهولنديِّين أسواق التوابل الآسيوية، ومُحاولتهم السيطرة على التجارة
مع شمال أوروبا.
وهناك مجال آخر لانتفاع التجار من علاقتهم بمُلتزمي الجمارك تمثل في الامتيازات
الأجنبية التي منَحَتها الدولة العثمانية للدول الأوروبية، وتمتَّع بمُقتضاها التجار
من
رعايا تلك الدول بتسهيلات جمركية في الموانئ العثمانية. وكانت الامتيازات التي حصلت
عليها الدول الأوروبية في القرن السادس عشر والعقود الأولى من القرن السابع عشر، تعطي
تجار تلك الدول — كالفرنسيين والإنجليز مثلًا — حق سداد عوائد جمركية أقل قيمة من تلك
التي كان يدفعها التجار الوطنيون.
٢٥ وكان مقدار العوائد التي يدفعها التجار الأوروبيُّون يعتمد — إلى حدٍّ ما —
على تقدير مُلتزمي الجمارك المحليِّين؛ ومن ثمَّ كان على الملتزم أن يُوازن بين عدة
اعتبارات؛ كأن يُحاول التهرُّب من تطبيق المزايا الجمركية التي منَحَتها إستانبول
للتجار الأجانب، ويقوم بتحصيل عوائد أعلى قيمة مما نصَّت عليه الامتيازات الأجنبية، وهو
أمر كان ميسورًا في حالة ضعف السلطة المركزية؛ أو أن يُحاول أن يُعوِّض النقص في
العوائد الجمركية ذات الفئات المخفَّضة التي يدفعها التجار الفرنسيُّون، عن طريق زيادة
العوائد على غيرهم من التجار، أو أن يُقدر ما يعود عليه من منافع من علاقته بالتجار
المحليِّين، فيتجه إلى معاملتهم من حيث العوائد الجمركية بصورة أقل أضرارًا بمَصالحهم.
لذلك كان على التجار أن يقيموا علاقة متوازنة مع السلطات، قد تتَّسم أحيانًا بالتعادل،
فيُعوض التجار عن بعض ما يخسرونه بالحصول على مكاسب بديلة، اجتماعية أو اقتصادية، أو
مزيج منهما معًا.
ولم يكن أبو طاقية وكبار التجار عامة، يتورَّطون بصورة مباشرة في الصراع الذي دار
بين
السلطات العثمانية والقوات العسكرية الذي اتَّسم بالعنف في الثمانينيات من القرن السادس
عشر، وإن كانت الظروف قد جذبتهم إلى هذا الصراع على السلطة بطريقة غير مباشرة، فورطتهم
في العملية التي ربما كانوا — أو لم يكونوا — يُريدون التورط فيها. ولعل تورطهم في
الصراع على السلطة ساعد على اختلال التوازن بين الأطراف المتصارعة لصالح طرف على حساب
غيره من الأطراف الأخرى.
وساعدت ظروف عدة على قيام صلات مباشرة بين أبو طاقية والمماليك والعسكر من رجال
الأوجاقات ممن كانوا من ملتزمي الأراضي الزراعية، الذين كان باستطاعتهم أن يمدوا التاجر
بما يحتاجونه من المحاصيل الزراعية كالأرز وقصب السكر. وكان بعض أولئك المماليك والعسكر
قد شقوا طريقهم في ميدان الالتزامات الحضرية منذ مطلع القرن السابع عشر، بما في ذلك
التزام جمرك السويس الذي عُرف بمقاطعة التوابل. ففي ١٠١٤ﻫ/ ١٦٠٥م — على سبيل المثال —
حصل بايزيد بك على هذا الالتزام مشاركةً مع موسى بن خلفا المُلتزم اليهودي.
٢٦ فكان من مصلحة أبو طاقية أن يكون على علاقة طيبة به. ومن ناحية أخرى، كان
للعسكر دور في الإشراف على الجمارك، فيذكر «شو» أن الباشا أرسل بعض رجال أوجاق المتفرقة
للإشراف على عمل الجمرك ومراقبة تصرُّفات الملتزمين.
٢٧ وربما لم يكن للتجار تعامل مباشر مع العسكر، غير أنه كان من مصلحتهم الحفاظ
على اتصال حبل المودَّة معهم.
وكان من بين مظاهر الصراع الذي دار بين العسكر والوالي العثماني، الصراع على التحكم
في الموارد المالية للولاية، وخاصة الالتزام. وكان على الملتزم أن يدفع سنويًّا مبلغًا
من المال لبيت المال حتى يحصل على الْتزام مقاطعة بعينها. وشهد أوائل القرن السابع عشر
تغيُّرات ملحوظة في هذا النظام؛ إذ دخله المماليك والعسكر؛ فقد كانت الجماعات العسكرية
تسعى في تلك السنوات إلى السيطرة على الالتزامات. ففي العقد الأول من ذلك القرن دخلوا
ميدان الالتزامات الحضَرية في مجالات الضرائب والعوائد المفروضة على الإنتاج والخدمات
والنقل، فيما عدا الجمارك التي بقيَت تحت سيطرة اليهود. كذلك جلب القرن السابع عشر معه
تغيرات هامة أصابت الفئات العسكرية.
٢٨
فقد كان بعض المماليك ورجال الأوجاقات، الذين تطلَّعوا إلى اغتنام المكاسب الكبيرة
من
وراء الالتزامات، لا يَملكون المال الكافي لدفع قيمتها — التي كانت تُمثل مبالغ طائلة
—
لبيت المال، أو كانوا يُفضِّلون اقتراض الأموال اللازمة للحصول على الالتزام من التجار
أمثال أبو طاقية، بدلًا من أن يدفعوا قيمتها من مالهم.
وشهد العقدان الأوَّلان من القرن السابع عشر، اعتماد المماليك ورجال الأوجاقات —
بدرجة ما — على التجار كمَصدر لاقتراض الأموال. ولم تَقتصِر القروض التي قدمها التجار
على ملتزمي الجمارك الذين تعاملوا معهم وحدهم، بل قدموا القروض للمماليك والعسكر أيضًا.
وبذلك وجد أبو طاقية وغيره من كبار التجار أنفسهم حلفاء للمَماليك والعسكر من رجال
الأوجاقات، على أمل تحقيق المنافع من وراء تلك العلاقات. وفي المقام الأول، ربطت تجارة
السكر أبو طاقية وغيره من كبار التجار بروابط وثيقة مع الملتزمين في الريف، فنجد أبو
طاقية يتعامل معهم للحصول على القصب، ويقدم لهم قروضًا كبيرة في مُناسبات مختلفة، ربما
لتشجيعهم على توفير حاجته من القصب في الوقت المناسب. وإلى جانب ذلك العامل المباشر،
ربما كان أبو طاقية مدفوعًا إلى معاونة الفئات العسكرية في صراعها مع الباشا العثماني
بعدم الارتياح لمنافسة الباشاوات التجار في مجال التجارة الدولية، وهي مُنافسة لم تكن
تتَّصف بالعدل في أغلب الأحوال.
وتعدَّدت معاملات أبو طاقية مع أمراء المماليك، فنجده يتعامل مع الأمير نصوح بن عبد
الله المتفرقة — كاشف الغربية والمنوفية — تعاملًا مُستمرًّا طوال العقد الأول من القرن
السابع عشر؛ إذ كان الأمير ينتج المحاصيل التي يحتاج إليها التجار، ويدفعون ثمنها
مقدمًا، كما يقرضونه الأموال التي يحتاج إليها،
٢٩ وكانت مبالغ طائلة؛ ففي ١٠٢٩ﻫ/ ١٦١٩م أقرض أبو طاقية الأمير يوسف بن حسين
جاويش — أحد مُلتزمي المنوفية — ١٤٨ ألف نصف.
٣٠ وكثيرًا ما كانت تلك المبالغ الطائلة تُقدَّم من التجار أمثال أبو طاقية
والرويعي قروضًا للأمراء المماليك وكبار رجال الأوجاقات.
وعندما بدأ أمراء المماليك ورجال الأوجاقات سعيهم إلى حيازة القسط الأكبر من
الالتزامات الحضرية، التي كانت بأيدي مُلتزمين مدنيين من قبل، حصلوا من التجار على قروض
كبيرة أعانتهم على المضيِّ قدمًا في الاستحواذ على تلك الالتزامات الحضرية، ولعل دعم
التجار لهم، كان وراء سيطرتهم على المزيد من الالتزامات التي كانت من الموارد المالية
الأساسية، وما لبثَت الالتزامات الحضرية أن وقعت تمامًا في أيديهم.
وخلال بضعة عقود من السنين، أصبحوا يُسيطرون على الكثير من الموارد المالية، ولا بد
أن تكون بوادر هذا التطور سابقة على ذلك. وأدَّى بروز أهمية الفئات العسكرية — بمُساعدة
أثرياء التجار أحيانًا — إلى اختلال توازن القوى بين الباشا العثماني والعسكر بعد أن
كان مُستقرًّا معظم عقود القرن السادس عشر، فبدأت سلطة الباشا تضعف لصالح القوى
العسكرية الصاعدة. ومال التوازن بين الولاية ومركز السلطة في الدولة، أو بين الأطراف
والمركز، بعض الشيء تجاه الأقاليم الخارجية.
ولا عجب أن يؤدي ذلك إلى إثارة حنق الباشا على التجار الذين كان لهم معهم علاقة نشاط
مُشترك، ويُفسر ذلك سخط مصطفى باشا (١٠٢٨-٢٩/ ١٦١٩-١٦٢٠) — قبل وفاة أبو طاقية ببضع
سنوات — على التجار الذين قدموا الدعم المالي للفئات العسكرية التي تحدت السلطة
العثمانية، وهو ما كان ظاهرًا للعيان، وعد الباشا ذلك نوعًا من الخيانة، ووعد مصطفى
باشا عسكر الأوجاقات بزيادة رواتبهم حتى يُحقِّق بعض التوازن، وقرَّر مصادرة بعض
الأموال الطائلة من تجار القاهرة.
٣١ ويُشير المؤرخ ابن أبي السرور البكري إلى أن الباشا صادَرَ مبلغ ٣٣ ألف قرش
من أموال التجار، دون أن يذكر أسماء مَن تعرَّضت أموالهم للمُصادَرة، وإن كان واضحًا
أنها تبدأ بالأثرياء من التجار أمثال أبو طاقية والرويعي والذهبي. وردَّ التجار على ذلك
بتوثيق الحُجج لإثبات ما حدث وإرسالها مُرفَقة بالالتماسات إلى السلطان في إستانبول.
وكانت النتيجة مُشجِّعة؛ فقد تم استدعاء مصطفى باشا إلى إستانبول، ولعل ذلك كان موضع
سرور العسكر؛ لأن الباشا كان لا يدفع لهم رواتبهم بانتظام. ولا شك أن التماس التجار قد
قُبلَ من جانب السلطان بفضل تأييد العسكر لهم، ولعلَّهم يكونون قد تلقَّوا دعمًا أيضًا
من بعض الشخصيات المتنفِّذة بإستانبول الذين كانوا على صلة بهم، كما كانت الحال بالنسبة
لأبو طاقية.
٣٢ وتُبيِّن تلك الحادثة، كيف استطاع التجار استخدام قوى السلطة ضد بعضها
البعض.
وبعد تلك الحادثة بوقتٍ قصير، برزت قوة البكوات المماليك على زمن زكريا بن إسماعيل
أبو طاقية. ففي ١٦٣١م — بعد وفاة إسماعيل أبو طاقية بستِّ سنوات — قام موسى باشا
باغتيال قيطاس بك أحد أمراء المماليك. وتعكس النتائج التي ترتَّبت على هذا الحادث
التوازن الجديد للقوى الذي تحقَّق خلال أربعة عقود من السنين؛ إذ هب البكوات المماليك
على الفور مطالبين بمُعاقبة موسى باشا على ما اقترف من جُرمٍ، وحاول بعضهم قتله، غير
أنهم أقالوه من منصبه في نهاية الأمر. وانتقل زمام السُّلطة إلى أيديهم خلال العقدَين
التاليَين في شخص رضوان بك، على حساب سلطة الباشا العثماني.
٣٣ ويُمكن أن نستنتج من ذلك أن قصة بروز قوة المماليك التي تردَّدت على
الأسماع كثيرًا، كان لها أبعاد أخرى؛ فلم يكن الصراع على السلطة قاصرًا على الباشا
العثماني في جانب، والفئات العسكرية في الجانب الآخر. وكانت هناك — في الوقت نفسه —
نتائجُ أخرى للصلات التي أقامها زكريا أبو طاقية، ولعلَّ صلاته بأوجاق المتفرِّقة كانت
وراء حصوله على لقب أمير بالأوجاق الذي أصبح واحدًا من رجاله.
٣٤ ولا نعرف مدى استحقاقه لهذا اللقب، الذي يبدو أنه قد اشتراه بماله. ولكن من
المُلفت للنظر أيضًا، أن السنوات التي تلَتْ وفاة إسماعيل أبو طاقية، أدَّت علاقات
المصاهرة بين عائلة أبو طاقية ورجال أوجاق المُتفرِّقة إلى قيام نوع من التحالف بينهما
كان بمثابة تطوير للروابط التي كان إسماعيل أول مَن أقامها. فقد تزوَّجت ستيتة بنت أبو
طاقية (الشهيرة بفاطمة)
٣٥ مرتَين من بين رجال أوجاق المتفرِّقة؛ إذ كانت ثروة أبو طاقية تتوازى — من
بعض النواحي — مع الجاه الذي كان للنخبة العسكرية. وإذا كان زكريا أقل نجاحًا من والده
إسماعيل في مجال التجارة؛ فقد استطاع أن يخطو بعائلته خطوة واسعة تجاه النخبة العسكرية،
بلغت حدَّ الاندماج معها، وبذلك لم يكن الحراك الاجتماعي من فئة لأخرى أمرًا عسيرًا،
وكان أكثر حدوثًا في الحقب التي شهدت تحوُّلات اجتماعية كبيرة كتلك الحقبة.
فقد تمَّ الوصول إلى مرحلة جديدة في العلاقة بين السلطات العثمانية والقوى المحلية
في
مصر، ثم تحقيقها — إلى حدٍّ ما — نتيجة بروز التجار كفئة اجتماعية. كما شاركت في
تحقيقها عوامل أخرى أوسع مدى، من أهمها تغيُّر العلاقة بين المركز والأطراف في الدولة
العثمانية، وضعف السُّلطة المركزية في إستانبول لصالح إبراز هوية الولايات. ولا شك أن
العوامل المحلية التي كانت وراء تلك التحوُّلات اختلفت من ولاية إلى أخرى داخل الدولة
العثمانية، ولا زلنا في حاجة إلى دراسة التكوين المعقَّد لتلك العوامل، فإذا تمَّ
التوصُّل إلى أن التجار لعبوا دورًا في الولايات العثمانية الأخرى يُماثل ما قاموا به
في مصر، كان ذلك أمرًا له مَغزاه، ويتطلَّب ذلك أيضًا معرفة القوى الاجتماعية الأخرى
التي ساهمَت في التحوُّل.
خلاصة
ويُمكننا أن نخرج بعدَّة استنتاجات حول دور التجار في المجتمع في تلك الحقبة. فقد
ساعدت الأحوال المعقَّدة لتلك الحقبة — بالدرجة الأولى — على تغيير وإبراز أوضاع
التجار. وتميَّزت تلك الأوضاع بالاستقلال هيكليًّا عن السلطة الحاكمة كقوة اقتصادية
واجتماعية معًا، فلم يكونوا أدوات في يد السلطة تُحرِّكهم وفق هواها. وكونوا فئة أصبحت
قوة اجتماعية اقتصادية يُعتدُّ بها ويحسب حسابها، فلعبوا دورهم على الصعيدَين الاقتصادي
والاجتماعي.
وكانت مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية ركيزة المساومات التي دارت بينهم وبين مختلف
قوى السلطة لتحقيق أهدافهم. وبينما كانت الطوائف في أوروبا وراء المغانم التي حقَّقها
التجار في صراع السلطة، لا تتضمَّن المصادر الوثائقية إشارة إلى دور لعبته طوائف
القاهرة في هذا المجال. وكل ما نستطيع الخروج من القرائن التاريخية المتاحة لنا؛ أن قوة
التجار كانت تَرتكز على أساسٍ فردي إلى حد كبير، وأنهم حقَّقوا الكثير من أهدافهم بجهد
فردي وليس من خلال الطوائف، ولعلَّ المزيد من الدراسة يُلقي الضوء على تلك
القضية.
ولعلَّ المكانة المرموقة التي احتلها الشاهبندر تعود إلى تلك الحقبة؛ فقد كان هناك
دائمًا تنظيم هرمي يجمع التجار ويرأسه عضو بارز من أعضائه، نعلم بوجوده منذ عصر سلاطين
المماليك. ولكن أهمية المنصب برزت في العصر العثماني عندما تجاوَزَ نفوذ الشاهبندر
دائرة التجار والمشتغلين بالتجارة ليشمل نطاقًا أوسع. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن
العقود التي تلَت الفتح العثماني في ١٥١٧م، يغلب الظن أن قوام تلك المكانة قد تكون مع
التغيرات الهامة الاجتماعية الاقتصادية التي أصابت التجار خلال نصف القرن الذي تُغطيه
هذه الدراسة.
لقد أثَّرت التغيُّرات التي لحقت بالتجار والتحالفات التي أقاموها مع النخبة العسكرية
على هيكل السلطة في مصر. فقد ساعد التجار — بطريقتهم الخاصة — على تشكيل الأحداث التي
وقعت، وعملية إعادة الهيكلة التي أعقبتها. وحقَّقوا ذلك نتيجة تأثيرهم على تصرُّفات قوى
السلطة؛ ومن ثم ساهموا في توجيه التحولات الوجهة التي اتخذتها. وتتساوى مع هذا الدور
في
درجة الأهمية، معرفتنا للكيفية التي دارت بها عجلة المجتمع في تلك الحقبة، والقوى
الاجتماعية المُختلفة التي ارتبطت بعضها البعض برابطة المصالح المشتركة، تلك المعرفة
التي تعد محدودة. وبعبارة أخرى، لم تَقُم السلطات العثمانية ورجالها أو القوى العسكرية
المحلية التي تناطحت معها، وحدها بتشكيل تاريخ تلك الحقبة، ولكن التجار أيضًا لعبوا
دورًا في صياغة ذلك التاريخ. ولا شكَّ أن إعادة تقييم دور التجار في مُجتمَع ما قبل
الحداثة بالشرق الوسط يلقي الأضواء على أبعاد جديدة لا تخلو من أهمية.
ويُمكن أن نضع دراسة التغير في أوضاع التجار في سياق التغيرات الاجتماعية الأخرى
في
الولايات العثمانية؛ إذ يذهب رفعت أبو الحاج — مثلًا — إلى أن الحقبة ذاتها شهدت تغيرات
موازية عند القوى الاجتماعية الأخرى، فظهرت طبقة من ملاك الأراضي الزراعية عندما
تحوَّلت أراضي المشاع إلى مِلكية عامة.
٣٦ ويَتشابه ذلك — بدرجةٍ ما — مع الظاهرة التي عرَفَتها القاهرة في الدلالة
على حدوث الحراك الاجتماعي في الأوقات التي تَشهد تغيُّرًا في هيكل السلطة، كما تدلُّ
على تحرُّر النشاط الاقتصادي الذي خضَع من قبل لسيطرة الإدارة العثمانية، ولعلَّ ما حدث
لتجار القاهرة كان يُمثل بُعدًا واحدًا في صورة أرحب للتغير الاجتماعي في الدولة
العثمانية وقع نحو تلك الحقبة. ويَحتاج الأمر إلى دراسات أكثر قبل أن تتَّضح لنا صورة
التغيُّرات التي لحقت بمُختلف القوى الاجتماعية في سائر أنحاء الدولة العثمانية خلال
تلك الحقبة.
تدفعنا هذه الاستنتاجات إلى ضرورة إعادة النظر في بعض الآراء التي أثيرت حول مجتمع
تلك الحقبة باعتباره مجتمعًا يَنقسِم إلى مجموعتين: الحكام، والرعية، ويعني ذلك أن
العلاقة بينهما كانت تَسير في اتجاه واحد، فيقدم الرعية فائض الإنتاج نقدًا أو عينًا
للحكام الذين يُعولونهم. ومثل تلك الآراء تتجاهَل بعض المظاهر الفعالة للعلاقة بين
الطرفين، كروابط المصالح، والنزاعات، والمنافسات، والتأثيرات، والمنافع المتبادلة، التي
ربطت بين رجال السلطة الحاكمة والتجار.