تشكيل المعالم الحضرية للقاهرة
(١) القاهرة عام ١٦٠٠م
كانت القاهرة زمن أبو طاقية مدينةً مُتعدِّدة المستويات؛ فهي أكبر مدن الدولة العثمانية بعد إستانبول، يعيش فيها مجموعة مُتنوِّعة من الناس بمُختلف شرائحهم الاجتماعية، جاءوا من الولايات العثمانية المُجاورة كالشام، أو من بلاد أفريقية بعيدة، عاشوا فيها أو مرُّوا بها. ولما كان أبو طاقية تاجرًا، فقد تعامل — بالضرورة — مع الكثيرين منهم، وكانت له علاقة واضحة بتراثها المعماري الذي تميَّز بالثراء؛ فقد عاش أبو طاقية وعمل في جانب من المدينة تركزت فيه معظم الآثار المعمارية الكبرى. كذلك كان أبو طاقية باعتباره تاجرًا، يعيش في أحد المراكز التجارية الكبرى في زمانه؛ حيث كانت القاهرة مركز نشاطه التجاري لأنها تقع عند نقطة الْتقاء عدد من الطرق التجارية الرئيسية، وكانت مركزًا هامًّا للتبادل التجاري، سعى إليها التجار القادمون من البحر الأحمر وأفريقيا وبلاد الشام والبندقية والأناضول، حاملين معهم بضائعهم لبيعها في أسواقها، أو مبادلتها بغيرها من السِّلع، أو نقلها إلى وجهة أخرى. وكان الشارع الذي يصل الأبواب الشمالية للقاهرة — باب الفتوح وباب النصر — بالباب الجنوبي، باب زويلة، من أكثر شوارع المدينة نشاطًا وازدحامًا بالحركة، تمرُّ به الدواب المحمَّلة بالبضائع الواردة إلى الوكالات التجارية أو المتَّجهة إلى خارج المدينة في بداية رحلة طويلة إلى وجهات أخرى.
لذلك كله، كان أبو طاقية قاهريَّ الانتماء؛ لأن القاهرة ظلَّت مركز نشاطه وموطن مصالحه طوال سنوات عمره. وقد اتَّخذت علاقته بالقاهرة بُعدًا جديدًا في العقد الأخير من عمره، عندما بلغت مكانتُه في عالم التجارة شأنًا كبيرًا، فساهم في تشكيل معالمها الحضرية، وترك بها أثرًا معماريًّا حمل اسمه على مر الأجيال.
(٢) دور التجار في التنمية الحضرية
ونستطيع أن نضع تلك المساهمة في سياقٍ أوسع مدًى؛ فتَحليل العلاقة بين التجار من جيل أبو طاقية والتطور العمراني للمدينة، يقودنا — من ناحية أخرى — إلى التغير في العلاقة بين الدولة والمجتمع، عندما نرى التجار يقومون ببعض الأعمال التي كانت وقفًا على الحكام. والواقع أنَّ ذلك جاء نتيجةً للتطور الاجتماعي الاقتصادي الذي شهده نصف القرن الذي يقع بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر. فلم يُؤثِّر التطور الذي لحق بالتجار على أوضاعهم الاقتصادية فحسب، بل امتدَّ تأثيره إلى الكثير من مظاهر حياتهم، وكانت التنمية العُمرانية للمدينة إحداها. وكان أبو طاقية مُمثلًا لتيارٍ سِرِّي بين التجار من أبناء جيله، رمى إلى ترك أثر بارز على التطور الحضري للقاهرة. كما وقَع على عاتق التجار — من ناحية أخرى — تطوير البِنية الأساسية اللازمة لاستيعاب التجارة المُتزايدة في الحجم، مما كان يعني تحمُّلهم نفقات مالية كبيرة. ويُمكننا أن نتصوَّر الطريقة التي لجأ إليها التاجر لمُوازنة الاعتبارات المُتناقضة — أحيانًا — عند اتخاذ قرار من هذا النوع، للاستثمار في بناء خان أو وكالة، بدلًا من استخدام المال في توسيع تجارته.
ويَتناقض بروز دور التجار في المدينة مع صمتِ الحوليات التاريخية العربية المُعاصرة عن الحديث عن ذلك الدور، فلا نجد إشارة إلى أبو طاقية أو الدميري أو الرويعي أو غيرهم من التجار العديدِين الذين تظهر أسماؤهم من حين لآخر في السجلات الوثائقية، ويَبدو أن دورهم في الأحداث التي شهدتها الحقبة لم يكن على تلك الدرجة من الأهمية التي تُبرِّر ذكرهم في تلك الحوليات، غير أنَّ جيل أبو طاقية ترك بصماته على المدينة من خلال تشييد المنشآت العامة كالمساجد، مثل مسجد الخواجة كريم الدين البرديني (وهو صغير المساحة، لا يزال قائمًا بحيِّ الداوودية)، أو المسجد والكُتَّاب والسبيل الذي شيَّده الخواجة إبراهيم المنصوري بمصر القديمة، كذلك خلَّد التجار أسماءهم من خلال الشوارع التي لا تزال تَحمل تلك الأسماء مثل شارع أبو طاقية، أو الأحياء مثل حي الرويعي الذي يُعد اليوم من المناطق التجارية الكثيفة النشاط التي تُباع فيها الأدوات والمُنتجات المصنوعة من الألومنيوم.
وثمَّة عامل آخر، سمح للتجَّار من جيل أبو طاقية أن يَستثمروا بعض أموالهم في العمران الحضري، هو أنهم لم يتورَّطوا تورطًا مُباشرًا في صراع السلطة بين الفئات العسكرية وعناصر الإدارة العثمانية، ولم يُؤيِّدوا علنًا طرفًا من أطراف الصراع ضد غيره. كما كانت لديهم أسباب أخرى للاستثمار في العمران، فامتلاك وكالة أو مصنع أو رَبع يُدرُّ على التاجر دخلًا مُنتظمًا مما يقوم بتحصيله من إيجار تلك المنشآت، وكان ذلك النوع من الاستثمار مطلوبًا بصفة خاصة في الأوقات التي تتذبذب فيها قيمة العُملة. والواقع أن زمن أبو طاقية شهد تحوُّلات نقدية هامة، ففي بداية حياته العملية كانت العملة الشائعة الاستخدام هي الدينار الذهبي المعروف بالشريفي (يُساوي ٤٠ نصفًا) وإلى جانبه عملة فضية محلية هي النصف، وعند وفاة أبو طاقية، أصبح الدينار الشريفي عملة نادرة الاستخدام، وحل محلَّه القرش الفضي (يُساوي ٣٠ نصفًا)، ولعلَّ التحول من الذهب إلى الفضة وما صاحبه من أزمة نقدية، أدى إلى حالة عدم استقرار نسبي في أسعار العُملة، ولم يكن من الحكمة الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة لفترة زمنية طويلة حتى لا تَتناقَص قيمتها؛ ومن ثم كان الاستثمار في العمائر الحضرية يميل إلى الزيادة في مثل تلك الأزمات.
وإلى جانب ذلك، كانت مِلكية العقارات الحضرية وسيلة لتنويع الأصول والحماية من المصادرة؛ إذ كانت الحكومة تَميل إلى مصادرة الأموال عندما تتعثَّر أحوالها المالية، وقد مرَّ جيل أبو طاقية بتلك التجربة عندما صادر مصطفى باشا نحو ثلاثين ألف قرش من أموال التجار. وعندما حدث ذلك كان أبو طاقية قد فرغ لتوِّه من بناء وكالته الثانية التي كلفته الكثير من المال، ففي ٢٠ من المحرَّم عام ١٠٢٩ﻫ، عندما صادر مصطفى باشا بعض أموال التجار، أوقف أبو طاقية وكالتَيه ليقيَ نفسه خطر المصادرة. ولعلَّ الأخبار قد بلَغَته عن نية الباشا الاتجاه إلى مُصادرة مال التجار، فسارع إلى اتخاذ هذا الإجراء الوقائي. ومهما كان الأمر، فقد جاء تصرُّفه في الوقت المناسب؛ فقد كلفه إنشاء الوكالتين أموالًا طائلة، ولعله لم يتبقَّ لديه مبالغ نقدية كتلك التي توفَّرت عنده في الظروف المعتادة. وكان وقف الأملاك يَحميها من المصادرة؛ لأن الشريعة كانت تُحرِّم ذلك.
وقد أثار موضوع استثمار التجار أموالهم في العقارات الحضرية، بدلًا من الاحتفاظ بسيولة نقدية تُستثمَر في التجارة، اختلافًا في الرأي بين الباحثين. فيذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا النوع من الإنفاق يُعدُّ استهلاكًا فجًّا للمال الذي قد يكون من الأفضل استثماره في التجارة، بدلًا من إنفاقه على بناء العمائر الدينية والخيرية التي لا جدوى منها وتتكلَّف أموالًا طائلة. واستخدم نفس الرأي في التعليق على العمائر التي أقامها سلاطين المماليك بالقاهرة. ولكن تلك الظاهرة لا يُمكن تفسيرها من الزاوية الاقتصادية أو من منطلق ما يمكن تحقيقه من عائد مُباشر لاستثمار رأس المال؛ إذ يجب تفسيرها في إطار الثقافة التي انتمى إليها أولئك الذين ساهموا في العمران الحضري حتى نستطيع فهم الدوافع التي كانت وراء هذا النموذج أو السلوك. ويجب أن نفهم هذه الظاهرة في سياق المجتمع الحضري الذي يلعب فيه الأفراد — وليس الدولة أو الحكومة — دورًا هامًّا في إقامة المنشآت العامة بدافع إحساس الأثرياء بالمسئولية تجاه تنمية البنية الأساسية للمجتمع الحضري. ولكن الأمر لم يَخلُ من المنافع التي عادت عليهم من جراء ذلك.
وعلى كلٍّ، كانت الأسباب الكامنة وراء اهتمام التجار من أمثال أبو طاقية وأبناء جيله بإقامة العمائر ذات النفع العام، تُعبر عن اتجاه اجتماعي عامٍّ كانوا طرفًا فيه. فقد كانت الفئة الاجتماعية الصاعدة في مدارج الحراك الاجتماعي، مثلما كان شأن التجار في تلك الحقبة، تتَّخذ من الظهور والتألق سبيلًا للشهرة والمكانة الاجتماعية المرموقة. وكما ساعدت الشاهبندرية بما صاحبها من طقوس احتفالية على إبراز الشخصية العامة لأبو طاقية، تركَت عمائره بصمةً على المعالم العمرانية للقاهرة؛ فبعد وفاته بسنوات طويلة، ظلَّت الأجيال المتعاقبة من القاهريِّين تذكره من خلال ما أقامه من آثار معمارية، كما ظلَّ زميله الرويعي يعيش في ذاكرة سكان المدينة لارتباط اسمه بالحي الذي أنشأه بالأزبكية. وهكذا ساهمت العمائر التي أقامها التجار في إبرازهم كشخصيات عامة، إضافة إلى ما حقَّقته لهم من مكاسب اقتصادية.
ولما كان التجار عنصرًا فعالًا في العمران الحضري، فقد كان باستطاعتهم أن يَلعبوا دورًا في توجيه التحوُّلات التي شهدها التطور الحضري. وكان هناك اتجاهان واضحان في التطور العمراني للقاهرة في زمن أبو طاقية، أولهما التوسُّع في القطاع التجاري للمدينة، وثانيهما التوسُّع في الأطراف الغربية لها تجاه الأزبكية. ونَستطيع أن نُميز الدور الملحوظ الذي لعبه التجار في الاتجاهَين، وقد شارك فيهما أبو طاقية لأسباب مختلفة، واستخدم في ذلك طرقًا مُتعدِّدة.
(٣) تشييد وكالات جديدة
ويُمكن إرجاع الفضل في حدوث تغيُّر ملحوظ في مجال العمران الحضري إلى إسماعيل أبو طاقية وشريكه عبد القادر الدميري. فلم تكن الوكالتان اللتان شُيِّدتا بأموالهما بخط سر المارستان مُجرَّد مُنشأتين تجاريتين، بل كانتا بداية لتحويل الشارع من منطقة سكنية إلى شارع تجاري رئيسي. وقبل أن يُقدِم الشريكان على بناء الوكالتين كان خط سر المارستان شارعًا سكنيًّا هادئًا تقع البيوت على جانبَيه، وبعد إتمام بناء الوكالتَين، دبَّ النشاط في الشارع وتحوَّل إلى شارع تجاري.
وكان خط سر المارستان — الذي يقع خلف مارستان قلاوون — قريبًا من المركز التجاري للمدينة في بين القصرَين وسوق النحَّاسين وسوق الصاغة. وكان شارع بين القصرين أكثر شوارع المدينة ازدحامًا، يقع به عدد من المنشآت الهامة: المستشفى، ومحاكم الصالحية النجمية، والقسمة العسكرية، والقسمة العربية، ووقعت بالقرب منه محكمة الباب العالي، مما جعل الشارع مقصد الناس من مختلف أنحاء المدينة. فإذا أراد إسماعيل أبو طاقية تفادي زحام شارع بين القصرين عند العودة إلى بيته، ما كان عليه إلا أن يتجه يسارًا عند سوق الصاغة، فلا تمر دقيقتان إلا ويجد نفسه في خط سر المارستان ومنه إلى خط الخرشتف حيث يقع بيت أخيه ياسين وأخته ليلى، فإذا انحرف يمينًا عاد إلى الطريق الرئيسي بالقرب من بيته. وبذلك كان خط سر المارستان يتمتَّع بميزة القرب من مركز المدينة، وسهولة الوصول إليه من الشارع الرئيسي، وهي ميزة يجب توفرها في موقع الوكالات التجارية الكبرى، التي تصل إليها الدواب المحملة بالبضائع، ليتم تخزينها هناك. كما كان موقع الوكالتين قريبًا من بيت أبو طاقية بخطِّ الأمشاطيين.
وخلال السنوات الطويلة التي استغرقها البناء، شُيِّدت الوكالة الصغرى على الجانب الغربي للشارع، ثم أقيمت الوكالة الكبرى على الجانب الشرقي، وكان أبو طاقية يُراقب العمل المُتواصِل، وهو في طريقه من البيت إلى السوق، بدءًا بهدم البيوت، وإعداد الموقع لوضع الأساسات، وانتهاءً بارتفاع البناء. وبعد سنوات، كان باستطاعته أن يُشاهِد مدخلَي الوكالتين اللتين وقفتا شامختين متقابلتين على جانبَي الشارع. ومنذئذٍ لم يَعُد خط سر المارستان شارعًا يُستخدم للتخلُّص من ضوضاء وزحام بين القصرَين، بل أصبح مقصد الناس من مختلف أنحاء المدينة. أما بالنسبة للتجار، فقد أضافت الوكالتان نحو ١٢٠ حاصلًا جديدًا للإيجار، وسارع التجار — مثل الرويعي — باستئجار ما يَلزمهم من الحواصل على الفور؛ حيث توفرت بالوكالتين مرافق لخدمتهم وخدمة زبائنهم؛ كالمسجد، والمقهى، والسبيل الذي كان يقع على ناصية الوكالة الكبرى. وانتقل عبد القادر الدميري للإقامة في بيت صغير بُني على ناصية الوكالة، وجعل به مدخلًا مباشرًا إلى الحاصل الخاص به داخل الوكالة، حتى يتحرَّك بيسر بين البيت والمتجر، دون حاجة للمرور بالشارع. واستخدم أبو طاقية — أيضًا — ما يحتاج إليه من الحواصل لتخزين بضاعته من التوابل والبن والسكر. أما بالنسبة للناس العاديين، فقد وفرت الطوابق العليا للوكالتين وحدات سكنية للإيجار، بلغ عددها ١٦ وحدة بالوكالة الصغرى، و٢٩ وحدة بالوكالة الكبرى، ونتج عن ذلك قدوم المزيد من الناس للسُّكنى بالشارع.
ولم تكن مثل تلك التحوُّلات كثيرة الحدوث لما يَكتنِف مثل تلك المشروعات العمرانية من صعاب، وما تتكلَّفه من أموال. وغالبًا كان الحكام هم الذين يَضطلِعون بعبء تغيير الشكل العمراني للمدينة، فقبل ذلك ببضع سنوات — مثلًا — أصدر السلطان العثماني الأَوامر بنقل المَدابغ من باب زويلة إلى أطراف المدينة عند باب اللوق، لقربها من أماكن السُّكنى، ولما تُسببه من ضوضاء وما ينبعث منها من روائح كريهة تُؤذي الناس. وكانت التنمية العمرانية تتم — عادة — من خلال تقسيم مساحة كبيرة من الأراضي إلى قِطَع صغيرة تقام عليها المباني. وقام بعض الحكام الأقوياء مثل رضوان بك بهذا العمل أحيانًا، فنجده يُحوِّل المنطقة الواقعة جنوب باب زويلة — بعد عقدَين من وفاة أبو طاقية — إلى منطقة توسُّع عمراني، من خلال إنشاء مجموعة معمارية ضخمة اشتملَت على قصر، وسوق، ووكالة، وبعض العمائر الأخرى. ولكن مشروع أبو طاقية والدميري بما له من مغزًى تم بمُبادرة من جانب التجار، ولم يكن عملهما وحيدًا في ذلك المجال؛ ففي بولاق، المرفأ النهري للقاهرة حدثت نفس الظاهرة على يد الشاهبندر عبد الرءوف العاصي الذي أقام وكالتَين كانتا حجر الزاوية في تطور الشارع الموازي للشارع التجاري بتحويل المناطق السكنية إلى منطقة تجارية. ولهذَين المثلَين من أمثلة التنمية العمرانية الحضرية أهميتها في فَهمِنا لكيفية وأسباب التوسُّع العمراني بالقاهرة خلال تلك الحقبة.
لقد قام أبو طاقية والتجار من أبناء جيله بتركيز جُهودهم وأموالهم في هذه المشروعات التي كانت تتصل بنشاطهم التجاري. وكانت هناك أسباب عدة لتفسير ارتباط أبو طاقية خاصة، والتجار عامة بوسط المدينة أكثر من غيرهم من سكان القاهرة.
كذلك يجدُ التجار هناك الخدمات العديدة التي يحتاجون إليها؛ كالنقل والتخزين والقبانة. ورغم وجود حمام خاص في بيت أبو طاقية، إلا أنَّ ذلك لم يمنع أفراد الأسرة، رجالًا ونساءً، من ارتياد حمَّام السلطان إينال، وهو حمَّام عام يقع بالقُرب من البيت. كما أنَّ وجود مارستان قلاوون بالقُرب من البيت، جعَل استدعاء الطبيب عند الحاجة أمرًا ميسورًا. وبعبارة أخرى، كانت الإقامة بوسط المدينة، أفضل من السكن بالحارات السكنية المُغلقة؛ حيث توفرت المرافق العامة الكثيرة لخدمة سكان القاهرة على مقربة من المنطقة.
ولذلك نستطيع أن نتصوَّر أن علاقات أبو طاقية بالمدينة انحصرت بتلك المنطقة؛ حيث كان يُقيم ويعمل، ويزور أصدقاءه وأقاربه وزملاءه. فقد ظلَّ وسط المدينة مركزًا لنشاطه. ولكن علاقته بالمدينة لم تكن وقفًا على التجارة وحدها، فكانت ذات أبعاد تجاوَزَت نطاق الحرفة، ولم تَرتبِط بها بصورة مباشرة. ورغم حيوية العلاقة بوسط المدينة، لم يكن أبو طاقية مُنغلقًا تمامًا على تلك المنطقة من المدينة؛ فقد دفعَتْه ظروف مُختلفة إلى إقامة صِلاتٍ مع الأحياء الأخرى.
وبصورة عامة، كان قرار نخبة التجار من أبناء ذلك الجيل بشراء أو بناء بيت آخر للعائلة على ضفاف بِركة الأزبكية مبعثه الثراء الذي تحقَّق لهم، وجعلهم يُنفقون المال الوفير على الكماليات والتسلية وأسباب الوجاهة. وبانتقالهم إلى ضفاف تلك البركة، في أوقات الراحة القصيرة أو الطويلة، إنما كانوا يُقلِّدون بذلك ما فعله الحكام من قبل من الاستمتاع بذلك المُنتجَع.
واختار إسماعيل مَوقِعًا لبيته على ضفة بركة الأزبكية في الجانب الشمالي الغربي من القاهرة، وكانت بِركة الفيل أكبر البِرَك حول القاهرة تقع جنوب المدينة، بينما وقعت بركة الرطلي شمالها. فكانت تلك البِرَك تمتلئ بالماء وقت الفيضان، وتتحول إلى منطقة يتنزه فيها سكان القاهرة للاستمتاع بالحدائق والحقول المحيطة بها، والتنزه بالقوارب على صفحة الماء حاملين معهم طعامهم وآلات الطرب.
وكانت الأزبكية أقرب البِرَك موقعًا إلى بيت أبو طاقية، يصل إليها عبر سوق مرجوش وباب الشِّعرية، وكان موقعها في ذلك الوقت بعيدًا بدرجة كافية عن موقع حوادث الشغب، تتسم بالهدوء والراحة، كما كانت الإقامة في بيت على ضفاف البركة تعني تمتَّع العائلة بالماء والخضرة والهواء العليل، بغضِّ النظر عن فكرة البعد عن الاضطرابات. واختلفت البيئة المحيطة بالأزبكية عن درب الشبراوي حيث يقع بيت العائلة؛ إذ كان بيت أبو طاقية بالأزبكية يُطلُّ على البركة مباشرة، يقع خلفه غيط الحمزاوي، فحظيت الأسرة هناك بما كان الحكام يتمتَّعون به من رفاهية، حيث التنزه بالقوارب، التي غالبًا ما كان سكان البيوت المحيطة بالبركة يَمتلكونها، ويجوبون بها صفحة الماء حول ضفاف البركة.
خلاصة
لقد أتاح التغيُّر في العلاقات بين الدولة والمجتمع الفرصة لقيام جماعات جديدة ساهمت في التوسُّع العمراني للمدينة. فقد أعقب اختفاء سلاطين المماليك فترة من التنمية العمرانية قام بها بعض الباشاوات العثمانيين، ونجم عن ذلك اتجاه سكان القاهرة إلى المساهمة الفعالة في تطوير البنية الأساسية للمدينة. ولم تحاول المنشآت التي شيدها التجار والعلماء — والتي كان معظمها متواضعًا — أن تناطح الأعمال المعمارية الرائعة التي أقامها سلاطين المماليك أو تلك التي أقامها الباشاوات العثمانيُّون. ولكن المغزى الاجتماعي لتلك المنشآت المعمارية كمساهمة من الفئات الاجتماعية الصاعدة من التجار الأثرياء في عمران المدينة، وما تُمثله تلك المساهمة من دليلٍ مادي على هذه الظاهرة الاجتماعية الهامة، أمر لا يُمكن تجاهله. وكان التغيُّر في العلاقات بين الدولة والمجتمع يعني — بالنسبة لأبو طاقية وغيره من أساطين التجار — تحمل أعباءً مالية لتطوير البنية الأساسية للتجارة. ولكن ذلك أتاح لهم الفرصة لتحقيق الوجاهة الاجتماعية، بما ترتَّب عليها من اكتسابهم مكانة اجتماعية مرموقة دعمتها الثروة التي جلبها لهم نشاطهم التجاري.
ومن السهل أن نتصوَّر أبو طاقية، وقد بلغ ذروة حياته العمَلية بتولي منصب الشاهبندر، وحقَّق لنفسه شهرة بين سكان المدينة، لا كواحد من كبار التجار، بل كأحد أعلامها البارِزين، تجري على يدَيه الحسنات للفقراء، على نحو ما نرى من تقديمه الطعام للمَرضى بمارستان قلاوون، ويحظى بنفوذ اجتماعي كبير، وعرفه الناس عند تنقله من بيته بدرب الشبراوي أو بيته الآخر بدرب الطاحون، أو عندما تنتقل أسرته عبر طريق المرجوش إلى بيت بركة الأزبكية، من هيئته وملبسه، وزمرة الخدم والحشم التي أحاطت بموكبه. ولعل موكبه كان نموذجًا مُصغرًا لموكب رجال الحكم كالباشا وقاضي القضاة، مُحاطًا بالأبهة والهيبة. ولعل عامة الناس ربطوا بينه وبين العمائر الضخمة التي أقامها قربَ وسط المدينة، فقد أصبحت من العلامات العُمرانية المميزة في المدينة والتي تنتسب إليه، كما أنَّ البيت الذي يُقيم به الشاهبندر كان من المعالم البارزة بالمدينة. وكان بدوره يعكس مكانة صاحبه بما يتميَّز به من سعة وفخامة بالنسبة لغيره من البيوت المحيطة به.