الحياة العائلية في بيت أبو طاقية
مقدمة
كان أبو طاقية يتَّجه إلى بيته عصرًا، بعد يوم عمل حافل، خلال الطريق المُزدحمة بالمارة والدواب، الحافلة بالضوضاء وصُراخ الحَمَّارة الذين يُطالبون الناس بإفساح الطريق لدوابهم، وعندما تقع عيناه على ضريح قلاوون بقبَّته الضخمة يدرك أنه أصبح على مقربة من بيته، وبعد دقائق معدودات يتَّجه يسارًا قرب جامع الأقمر إلى درب الشبراوي، حيث السكينة والهدوء. وما يكاد يدلف من الباب حتى يجد الصورة اختلفت عنها خارج البيت، فهناك صخب، الأطفال يَلعبون في الفناء، والألوان المتعدِّدة التي تُناقض اللون الحجري الذي شاهده طوال الطريق، والأشجار الباسقة، والنباتات المُورقة التي تعمر بها حديقة البيت، والعبيد والخدم يتولَّون أمر الحديقة، ويعنون بالإسطبل وما به من خيول ودواب، ويقومون بخدمة البيت، فتبعث الخضرة ونسمات الهواء على الإحساس بالانتعاش. وعندما يترجَّل أبو طاقية عن حصانه، ويدخل البيت، يجد الحصان من يعتني به بالإسطبل. كان الانتقال من السوق حيث المقابلات مع الشركاء والزبائن والتردُّد على المحكمة بما يُحيطها من ضوضاء، إلى البيت، يعني الدخول في عالم العائلة؛ حيث الأبناء والحياة الخاصة. وكانت سنوات توليه الشاهبندرية، قد حوَّلت أبو طاقية إلى شخصية عامة، فانعكس ذلك على مظهره، وملبسه، وبيته؛ إذ قام بتوسيع البيت وزخرفته وأحاطه بمظاهر الترف التي عرف بها الأثرياء، فتضمَّنت حجة التركة التي أُعدَّت بعد وفاته، الشمعدان الفضي، وعديدًا من الأدوات المنزلية النحاسية، والأطباق التي صُنعت من خزف أزنيك (بالأناضول) ذائع الصيت.
وأهم من تلك المظاهر المادية للترف، نُلاحظ عند دخولنا بيت أبو طاقية، الكيفية التي تغيَّر بها هيكل العائلة نتيجة لارتفاع مكانته الاجتماعية. فنقف على الحياة العائلية في بيت تاجر ثري، ونظامها في لحظة تاريخية معينة من حياة أبو طاقية، وخاصة في سنوات النضج والنجاح في السوق، وتصاعد مكانته الاجتماعية. ويتيح لنا ذلك الفرصة لدراسة الأدوار التي لعبها أفراد العائلة وعلاقاتهم به، وببعضهم البعض، وكذلك علاقاتهم بالآخرين خارج البيت. ومعالجتنا لهذه الزاوية تدحض مقولة انعزال الأسرة عن المجتمع. فقد تركت الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي أثرت على مجرى حياة التجار — على النقيض من تلك المقولة — أثرًا على هيكل العائلة والعلاقات بين أفرادها وبعضهم البعض، إضافة إلى تأثيرها على الأحوال المادية. وبذلك كان للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي أثرت على الحياة العملية لأبو طاقية، تأثيرها على بيته وعائلته.
وعندما بلغ أبو طاقية ذروة النجاح في العقد الأخير من عمره، أعيد ترتيب بيته وعائلته، فكبرت حجمًا، وازدادت عددًا، واكتسابًا للصفة الهرمية، ولعلَّ ذلك راجع إلى الثراء وكبر حجم العائلة؛ فقد كان الأب في النسق الأبوي للعائلة — الذي ساد الشرق الأوسط وبعض الثقافات الأخرى — يَحظى بمكانة أرفع من مكانة الزوجة (أو الزوجات) وبسُلطة واسعة على الأبناء. وكان ذلك شأن عائلة أبو طاقية، وغيرها من عائلات ذلك الزمان. ولكن الطريف هنا ما نلاحظه في حالة عائلة أبو طاقية التي اتخذ فيها النظام الأبوي شكلًا خاصًّا عندما ارتبط بالثروة والمركز؛ ومن ثم ملاحظة الكيفية التي صاغ بها أبو طاقية علاقاته مع أخيه وأخواته، وزوجاته، وجواريه، وأولاده، والطريقة التي تصرَّفوا بها حيال تصاعد مكانته الاجتماعية. وقد ساعد أبو طاقية — إلى حدٍّ ما — على تحديد الشكل الذي اتخذته تلك العلاقات بطريقة ضمنت له تدعيم مكانته العائلية وأبرزت صورته العامة كرب لعائلة هامة.
وتحليل وظائف وحدود الهيكل العائلي قد يُساعدنا على فهم العلاقات المركبة داخل العائلة. فقد ركز معظم الدراسات المتعلِّقة بالأسرة على الهياكل الرسمية لها، ومن ثم جاءت نتائج تلك الدراسات مستندة إلى تلك الهياكل، فأكَّدت أنه في الشرائح العليا للمجتمع، كانت الحياة العائلية أكثر تحديدًا، وأن القواعد الخاصة بالسلوك كانت الأكثر صرامة، وخاصة ما يتعلَّق منها بالنساء، غير أن متابعة العديد من القضايا المتصلة بالعائلة في سجلات المحاكم تشير إلى أن ذلك كان أحد جوانب الصورة، ولكنه لا يمثل الصورة كلها. وطبيعة المصادر التي استخدمناها في هذه الدراسة تكشف عن مستوًى من الواقع يتجاوز ظاهرة صرامة وتقليدية الهيكل العائلي. وتَسمح لنا تلك المصادر بإلقاء نظرة على مُستويات العلاقات الشخصية — والحميمة أحيانًا — بين أفراد العائلة وبعضهم البعض، ويُعد ذلك أمرًا ضروريًّا لفهم أوضاع العائلة لأسباب عدة؛ فهي تُساعدنا على أن نتعرَّف على الفرد، ومشاعره، ورد فعله تجاه ظروف وأحوال بعينها، كذلك تُتيح لنا رؤية مدى قُدرة الفرد على التحرك في إطار الهرم العائلي الذي يعد من مكوناته، ومدى مرونة أو تزمُّت هيكل العائلة عندما نراه من تلك الزاوية. وبعبارة أخرى، تُتيح لنا هذه الزاوية رؤية المخرج الذي يستطيع أفراد العائلة — بما فيهم إسماعيل — أن يجدوا القنوات التي يُعبرون من خلالها عن آمالهم ورغباتهم، أو يتَّخذون عن طريقها مُبادرات فردية، وذلك في إطار الهيكل الهرمي للعائلة. ونرى عندئذٍ العائلة على حقيقتها، كما عاشها الأفراد الذين كانوا ينتمون إليها.
ويبدو بذلك الهيكل العائلي الازدواجي، الذي قامت القوى الاجتماعية والاقتصادية الخارجية بتشكيله وتحديده بدرجات متفاوتة. فقد تركت الأحوال العامة لنخبة التجار بتلك الحقبة، وبُروزهم الاجتماعي في المجتمع الحضري أثرًا على هياكل عائلاتهم، فتوازت مكانتهم الاجتماعية الجديدة مع بروز نمط جديد من التراتب الاجتماعي داخل العائلة. غير أن الحياة العائلية تشكَّلت أيضًا على يد أفراد العائلة ذاتها؛ إسماعيل أبو طاقية، والبارزين من أفراد العائلة، كما تشكَّلت أيضًا على يد بقية أفراد العائلة الذين وجدوا الفرصة متاحة لدفع الأمور في اتجاه أو آخر في مختلف الأوقات والظروف.
ودراسة العائلة من هذا المنظور تقوم على أساس اعتبار العائلة كيانًا حركيًّا ومُتغيرًا؛ فقد تتأثَّر بنية العائلة بعدد من الظروف المحيطة بها تأثيرًا لا يقل أهمية عن روابط الدم، فلا يقع التغير فيها نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تطوعها لمُقتضيات المظهر الطبقي فحسب، بل يلعب الأفراد الذين صنعوا تلك الظروف دور أداة تشكيل ملامح التغيير.
(١) العائلة الممتدة
تأرجَحت علاقة إسماعيل بأخيه وأخواته صعودًا وهبوطًا، حتى تجمَّعت العائلة حوله مع مرور الزمن؛ ففي سنوات الشباب، شهدت علاقتهم أزمة وانقسامًا، فتنازع إسماعيل وياسين أمام المحكمة، وذهبَت بدور وسيدة الكل وليلى في مخاصمتهنَّ لإسماعيل حدَّ اتهامه أمام المحكمة بالتدليس فيما يتَّصل بتركة أبيهن، وهو أمر مُستهجَن كان يُمكن حله في نطاق العائلة لتجنب إذاعة النزاع على الملأ. ومن الصعوبة بمكان معرفة ما وراء ذلك الاتهام، طالما كان باستطاعة إسماعيل أن يُثبت براءته أمام المحكمة، ولكنَّنا نستطيع أن نتصوَّر مدى تعاسة أخوات إسماعيل لعدم استطاعتهن تقديم الدليل على اتهامهن لأخيهن. ولعلَّ قدرًا من الغيرة كان وراء إفساد علاقة الأخوات بأخيهن، وهم يَرون ثراءه يتجاوَز ما لديهنَّ وما كان لدى والدهن من ثروة.
ولكن الثروة التي انهالت على إسماعيل في السنوات التي تلَت تلك الأحداث المؤسِفة، لم تُؤثِّر على علاقته بأقاربه، بل أدَّت إلى إعادة ترتيب تلك العلاقات على أساس هرمي. فعندما بلغ إسماعيل ذروة النجاح والمكانة الاجتماعية، أصبح على أخيه وأخواته أن يعترفوا له بالمكانة التي كانت موضع اعتراف المجتمع. فشهدت علاقاتهم ببعضهم البعض تغيرًا، وعبَّرت العلاقات الجديدة عن نفسها بسُبُل مُختلفة. فقد رغب إسماعيل في الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع ياسين دون الدخول معه في علاقات مالية، وكان أحد مظاهر تلك العلاقة هو القربى في السكن؛ إذ حرص الأخوان على أن يتَّخذا بيتين يقعان بنفس الجيرة، فكان بيت إسماعيل يقع بدرب الشبراوي، واختار ياسين أن يَبني بيته عام ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م بخط الخرشتف، وكانت له واجهة تقع على درب الشبراوي، فكان البيتان مُتقاربين وليسا متجاورين؛ مما سهَّل الانتقال من أحدهما إلى الآخر. وكانت ليلى أيضًا تُقيم بخط الخرشتف، مما قد يعني أنها حرصت على الإقامة بالقرب من أخويها. وبذلك عاش الثلاثة في بيوت تقع على مرمى حجر من بعضها البعض.
وكان هناك مظهر آخر للعلاقات المُتغيِّرة بين الأخوَين … فإسماعيل — الأكبر والأغنى — جعل ياسين وأولاده من مُنتفعي الوقف الذي أقامه. ولما كان صاحب الوقف حرًّا في تحديد المُنتفِعين بالوقف، جاء ضم ياسين وأولاده دليلًا على ترابط العائلة الذي حرص على إظهاره، وإبراز دوره كربٍّ للعائلة، يُوزع العطايا على أفرادها. وفي وقفِه الكبير الذي شملَ الوكالتَين ومطبخ السكر، ضمَّن إسماعيل حُجَّة الوقف النصَّ على أن يكون الريع مُناصفة بينه وبين ياسين، فيُقسم ريع مطبخ السكَّر مناصفة بينهما، وريع الوكالة الأولى مناصفة بين أولاد إسماعيل وأولاد ياسين، وريع الوكالة الثانية يُقسم بين أولاده وأولاد ياسين وأحمد بن عريقات (صهره وابن شقيقته ليلى). وبمَنحه تلك العطايا للعائلة، أكد إسماعيل وضعه كربٍّ للعائلة؛ لأنَّ مَن يَمنح يملك زمام أمور العائلة في يده.
(٢) تحالُف الزوجات والجواري
اختلفت علاقات المُصاهَرة التي أقامها إسماعيل في شبابه عنها في السنوات المتأخِّرة من عمره، ووجَّهت هذا الاختلاف حقيقتان: ارتفاع قدره، واندماجه التام في المُجتمَع القاهري؛ فقد بدأ باختيار زوجاته من دائرة محدودة النطاق هي دائرة العائلة وجماعة الشوام، وخاصة الحمصيِّين. ولكن علاقات المصاهرة اتسع نطاقها فيما بعد، واتخذت طابعًا أكثر انفتاحًا على المجتمع القاهري. وتُقدِّم لنا المصادر الوثائقية مادة غنية حول الطابع الذي اتخذته تلك الزيجات التي يُمكن رصدها خلال الحقبة ففيما بين الثمانينيات والتسعينيات من القرن السادس عشر، كانت العائلات الشامية والحِمصية تُمثل دائرة الأصدقاء والأقارب التي تحرَّك داخلها إسماعيل أبو طاقية، ويبدو أن علاقاتهم التجارية قد سارت على نهج مُتماثل خلال تلك العقود من الزمان، ممَّا ترك انعكاسًا على بيت أبو طاقية. فعندما بلغ إسماعيل سنَّ الزواج، كان الاختيار محصورًا بالضرورة في العائلات وثيقة العلاقة بهم. وخلال سنوات قلائل، تزوج إسماعيل وأخواته ليلى وبدور وسيدة الكل من أزواجٍ يَنتمون إلى مجموعة محدودة من ذوي القُربى، أبناء الخئولة والعمومة، وخاصة أبناء عمهم عبد الرازق، وبعض العائلات التجارية الأُخرى التي كانت — مثلهم — حديثة العهد بالإقامة بالقاهرة، ومِن هؤلاء عائلة ابن عريقات — التي عُرفت فيما بعد بعريقات — وهي عائلة من تجار حمص المعروفين، وكان لها فروع عديدة، وصل أحدها إلى مصر في وقت مُتزامن مع وصول أبو طاقية إليها.
فعندما تزوَّج إسماعيل أبو طاقية من بدرة ورومية، كان يَدفعه عندئذٍ إحساس بالواجب، والرغبة في أداء ما يلزمه الواجب اجتماعيًّا تجاه الدائرة التي انتمى إليها. وهو إحساس كان أقل توفرًا عند ياسين الذي انفرد بالبقاء خارج تلك الدائرة على عكس أخيه وأخواته. وعندما قرَّر إسماعيل الزواج من عطية الرحمن بنت الخواجة أبو بكر الأحيمر — وتنتمي إلى عائلة من التجار المصريِّين — كان يقف عندئذٍ على أرض صلبة ماليًّا واجتماعيًّا، كتاجر كبير ناجح ذائع الصيت في القاهرة، ولم يكن مَدفوعًا لتلك الزيجة بأيِّ واجب اجتماعي، ولعله عرف العائلة — وخاصة والدها وجدها — من خلال السوق أو الجيرة في السكن، وربما نشأت الصلات بينه وبينهم من خلال سوق الوراقين، فقد كان لإسماعيل حانوت هناك، كما كان لجد عطية الرحمن لأمِّها حانوت هناك أيضًا، وربما كان لوالدها أيضًا متجر بالسوق ذاته. وكان الجد يَمتلك المنزل الذي عاش فيه إسماعيل عدة سنوات، وهو المنزل الذي كان من أوقافه. ولعلَّ إسماعيل سمع بمزايا العروس التي اتَّضحت فيما بعد، مثل قُدراتها الثقافية وشخصيتها القوية. وكانت عطية الرحمن — التي عُمِّرت طويلًا بعد وفاة إسماعيل — الوحيدة بين زوجاته التي رُزق منها بابنٍ قُدر له أن يعيش، ومِن ثم احتلَّت مكانة خاصة في العائلة.
وكان زواجه الرابع مختلفًا عن الزيجات الثلاث الأخرى؛ إذ اتبع النسق المرتبط بالنخبة العسكرية، وهو الزواج من الجواري المُعتَّقات اللاتي جئن من أصولٍ شرق أوروبية. فبعد عام ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م تزوَّج إسماعيل من زوجته الأخيرة هناء عندما تجاوز الأربعين من عمره. وكانت هناء جورجية الأصل، معتوقة وزوجة زميله الخواجة أبو النصر الطرابلسي الذي كثيرًا ما تعامَل معه من قبل. وبعد وفاة أبو النصر في ١٠١٧ﻫ/ ١٦٠٨م استمرَّ إسماعيل أبو طاقية في التعامل مع محمد بن أبو النصر الطرابلسي. ولكن لماذا رغب في الزواج في تلك المرحلة من عمره، رغم وجود أزواجه الثلاث وعدد من الجواري، ورغم أنه كان — عندئذٍ — أبًا لعدد من الأبناء؟ لعلَّ السبب الذي دفع إسماعيل لذلك هو جمال هناء وافتتانه بها. ويبدو أن ابنتها الوحيدة ستيتة التي أنجبتها من إسماعيل كانت تُماثلها جمالًا؛ لأنها طُلبت كثيرًا للزواج قبل أخواتها الأخريات اللاتي كنَّ يَكبرنها سنًّا.
والواقع أن طريقة الاختيار وعدد الزيجات تُوضِّح لنا أن إسماعيل أبو طاقية قد وضع معالم حياته الخاصة، في زيجاته وبيتِه، باتساق تامٍّ مع حياته العامة، كتاجر تتصاعد مكانته بين نخبة التجار. وبالإضافة إلى قُدرته على رعاية عائلة كبيرة، بما يتطلبه ذلك من مساحة وخدمات وتكلفة، كان موقفه كربٍّ لتلك العائلة يُضفي عليه مكانة خاصة. فقد دعم من وضعه الاجتماعي امتلاك بيت كبير مليء بالخدم والعبيد، يَلفت أنظار المارة، ويشار إليه بالبنان.
(٣) التراتب الاجتماعي في بيت العائلة
رُتِّبت الحياة في بيت العائلة على نسَقٍ هرَمي وعلى أساس تقسيم مساحة البيت، وهي سمة غلبت على بيوت العائلات الثرية المتَّسعة الأرجاء، وكلَّما كانت العائلة أكبر حجمًا وأوسع ثراءً، جاء التراتب الاجتماعي الهرمي الطابع داخلها أكثر وضوحًا، ويتجلَّى ذلك في أسلوب استقبال الضيوف، وفي شغل مختلف أفراد الأسرة لمساحات معينة من البيت.
وكان التنظيم المساحي للقسم الخاص من البيت، يسمح لإسماعيل أن يقرر عند عودته للبيت المكان الذي يتجه إليه حسب الأحوال، فإذا كان بصحبته ضيوف اتجه إلى الجزء المخصص للضيوف من البيت، وإذا عاد وحيدًا اتجه إلى الأماكن المخصصة لأهل البيت. فكانت هناك قاعات صغيرة حول فناء البيت لاستقبال الضيوف. ومع زيادة مشروعاته التجارية، وارتفاع قدره بين التجار، كَثُر زُوَّاره من عِلية القوم بما في ذلك الأمراء والمماليك، الذين دخل معهم في علاقات تجارية، وكذلك زملاؤه الذين كان يَلتقي بهم في السوق من خلال نشاطه التجاري. وعندما يَفِد على بيته أناس من علية القوم، كان يستقبلهم بالقاعة الكبرى التي تقع بالدور الأرضي من البيت، وهي قاعة فسيحة، ذات سقف مُرتفع، جيدة التهوية، مُزدانة بالرخام، توحي بالأبهة والترف، وكانت في الغالب قريبة من مدخل البيت، على مسافة بين الجزء المخصص لإقامة أهل البيت. فإذا كان الوقتُ صيفًا، وأراد إسماعيل أن يستمتع بالهواء الطلق مساءً، صعد إلى المقعد الذي يُطلُّ على الفناء من فوق سطح البيت، فيرى القادمين والغادين. أما الضيوف الذين يَبيتون بالبيت، فكانوا ينامون بغرفة ملحقة بالقاعة عُرفت بالخزنة النومية، حيث كان الخدم يفرشون أرض الحجرة، ويُرتبون الحشيات لنوم الضيوف.
أما الضيوف من المعارف والأصدقاء، كالدميري أو جماعة الشوام، فكانوا يُستقبَلون بالقاعات الصغرى، ولعلَّ الشوام عامة والحمصيِّين خاصة كانوا أكثر الزوار تردُّدًا على بيت أبو طاقية، ربما لصِلة القرابة أو لوجود علاقات تَضرب بجذورها إلى موطنهم الأصلي؛ حمص، أو لأنهم يعتبرون إسماعيل كبيرهم أو عميدهم، لما كان له من مكانة في المجتمع.
وعندما يَنصرف الضيوف مساءً، يتَّجه إسماعيل نحو مكان المعيشة بالأدوار العليا للبيت، مستخدمًا أحد الدرجين أو الثلاثة. وفي ذلك القسم من البيت كان ثمة نظام تراتبي هرمي النَّسق للمساحة المخصصة للمعيشة؛ إذ قُسِّمت المساحة إلى عدد من المساكن تختلف اتساعًا وتأثيثًا، وتعكس التراتب الاجتماعي في محيط العائلة. فقد يكون المسكن مجرَّد حجرة واحدة، أو شقة مكونة من حجرتين أو ثلاث حجرات، إضافةً إلى المنافع والمرحاض. فكان كل فرد من أفراد العائلة يُقيم في مسكن يتوافَق مع مكانته في العائلة.
والواقع أن بيت العائلة الذي ضم الزوجات الأربع، وعديدًا من الجواري والأتباع والخدم والعبيد، كان يَخضع لتقسيم مساحي يتَّفق مع الأوضاع الاجتماعية المُختلفة للمقيمين فيه، ولا يخضع للتقسيم على أساس النوع، إلى جناحٍ للذكور وآخر للإناث. كما أن هذا التقسيم المساحي أتاح لأبو طاقية إمكانية التوجه إلى القسم الذي يُريد التوجه إليه، بقدر ما أتاح لكلِّ فرد أن يتحكم في المسكن الخاص به داخل البيت بحرية تامة.
أما المعيار الآخر للتمييز بين الجواري فيقوم على الأصل العرقي، فهناك تمييز بين البيضاوات (ذوات الأصول الأوروبية كالبوسنيات والروسيات والجورجيات)، والحبشيات، والسود (ذوات الأصل الزنجي). وكانت هناك فروق في أسعار الجواري بسوق العبيد تبعًا للون البشرة والأصل العرقي، مما كان له انعكاسه على المكانة الاجتماعية داخل العائلة.
وبذلك تحكَّمت مجموعة من المعايير في تحديد مكان الزوجات والجواري في التراتب الاجتماعي للعائلة، والسُّلطة والامتيازات في بيت العائلة. ولكنَّنا نَستشفُّ من وراء هذا الإطار الرسمي للعلاقات داخل البيت، حقائق تتَّصل بالعلاقات الحميمة التي كانت لإسماعيل أبو طاقية، فقد مرَّ بظروف صعبة في أواخر أيام عُمرِه. ومُنيَ بخسائر فادحة، من بينها فقد زوجته الرابعة هناء بنت عبد الله البيضاء، الجورجية الأصل، التي تزوَّجها نحو عام ١٦١٥م، عندما مات عنها زوجها الخواجة أبو النصر الطرابلسي، زميل أبو طاقية. ولعله وجد السلوى عند جاريته صايمة البيضاء؛ لأنه كان يَقضي عندها وقتًا طويلًا خلال تلك السنوات، واستولدها بنتيه صالحة التي ماتت بعده بوقت قصير، وعند وفاته كانت صايمة البيضاء حاملًا، وما لبثت أن وضعت طفلتها الثانية فاطمة بعد وفاة إسماعيل عام ١٦٢٤م.
وانعكس التراتب الاجتماعي داخل بيت العائلة على طريقة استخدام البيت. ومِن المؤكَّد أن عطية الرحمن — مثلًا — كانت تعيش في مسكن كبير، تتوفَّر فيه وسائل الراحة، ولا يعود ذلك إلى ثرائها الشخصي الذي عزَّز مكانتها، ولكن إلى كونها أمًّا لخمسة من الأطفال، فكان طبيعيًّا أن تُقيم في أكثر مساكن البيت اتساعًا. وكانت إقامتها في أفضل مسكن بالبيت تُعطيها مكانًا خاصة بين سكانه. ولكن بمرور السنين، أحسَّت عطية الرحمن بتحوُّل مشاعر زوجها عنها إلى غيرها من حريمه، وكانت تراه يوميًّا عندما يُحيط به أطفالها فيما عدا طاهرة التي كانت آخر مولودةٍ لها.
وسكن الخدم والعبيد في مكان آخر من البيت، يَبعد قليلًا عن مساكن العائلة، ويبدو أن ثمة تراتب اجتماعي كان موجودًا بين مختلف الجماعات التي انتموا إليها، رغم أننا لا نَعرف إلا القليل عن نظام حياة الخدم والعبيد، والأماكن التي خُصِّصت لهم في بيت العائلة على نحو ما نَعرف عن الزوجات. وكانت بعض البيوت تشتمل على مكان مخصَّص للجواري، أو حجرة كبيرة لهنَّ، ولعلهنَّ كن من اللاتي خُصصن للخدمة المنزلية، ممَّن لا يوليهن السيد اهتمامًا خاصًّا.
ويقودنا ذلك إلى تناول مسألة ذات مغزًى بالنسبة للعائلة، هي فكرة المجالين الخاص والعام. فقد طبق بعض الباحثين هذا المفهوم على الأسرة الإسلامية بطرق مختلفة: فالخاص عندهم يعني البيت وأفراد الآسرة الذين يضمُّهم ذلك البيت، والعام يعني عندهم المجال الذي يقع خارج البيت. وربط البعض الآخر الخاص بالنساء، والعام بالرجال، ورأوا أن الفصل بينهما كان صارمًا مع وجود أو عدم وجود إمكانية محدودة للاتصال بينهما. والواقع أن تلك النماذج للمَجالين الخاص والعام، لا يقوم على ملاحظة ما كانت عليه الحال في مجتمع معين أو طبقة معيَّنة، ولكن على تعميمات شملت المجتمعات الإسلامية جميعًا، بغضِّ النظر عن الزمان أو المكان، أو الوضع الطبقي.
وتحليلنا لعائلة أبو طاقية يَدحض هذه الآراء فيما يتَّصل بالفصل بين النساء والرجال، وما يتَّصل بالفصل بين المجالَين؛ الخاص والعام في الحياة العائلية. وعلى سبيل المثال، ليس هناك دليل على أنَّ النساء كن معزولات في قطاع خاص من البيت؛ فلم يتضمَّن بيت إسماعيل أبو طاقية أو أخيه ياسين أو أيٍّ من بيوت التجار المُعاصرين، وصفًا لمكان محدَّد للحريم في حجج الوقف. وكانت الخصوصية من حيث المكان، والفصل بين الخاص والعام، أكثر مرونة مما يظن. ويُمكن تصور هذه المرونة من خلال التراتب الاجتماعي المكاني، من المسكن الخاص، إلى المنافع العامة للبيت، مثل الفناء والحمام، إلى شبه العام (الدرب المسدود الذي يقع فيه البيت)، إلى العام (الطريق الرئيسي). ويماثل ذلك ما اتصل بالناس الذين ترددوا على البيت، أو حتى على مساكن العائلة داخل البيت، حيث يمكن أن نرصد بضع درجات من الخصوصية التي ارتبطت بهم. وبعبارة أخرى، لم تكن الحركة منقطعة بين المجال الخاص والمجال العام، ولم تكن الحواجز منيعةً بين المجالَين؛ فبَين الأبيض والأسود، كانت هناك دائمًا مساحة واسعة للظلال الرمادية، واعتمدت الحركة بين المجالين العام والخاص على اختلاف المعايير والظروف، وكان الضبط واردًا عند الضرورة لاستيعاب وضع معين، دون المساس بخصوصية أي من أفراد العائلة.
ولا يَعني قضاء الزوجات مُعظم الوقت في مساكنهن — بالضرورة — أنهنَّ عِشنَ مُنعزلات؛ لأنهن كن يتحكَّمن تمامًا في الأماكن الخاصة بهن. فكان لبعض الزوجات مثل: عطية الرحمن، أو بدرة عريقات عبيدهنَّ الخصوصيون الذين تمَّ شراؤهم بِحُرِّ مالهنَّ للوقوف على خدمتهن. وحصلت ليلى — أخت إسماعيل — على تعهُّد من زوجها بأن يوفر لها جارية، واستبدالها بغيرها في حالة وفاتها. وكان لمثل تلك الزوجات أتباعهن الخصوصيُّون الذين يعملون في خدمتهن. وبذلك كان للزوجات من ذوات المكانة الاجتماعية، من يعملون لحسابهن بمعزل عن أولئك الذين يخدمون الزوج.
وكانت نسبة الزوار الشوام لمساكن زوجات أبو طاقية مرتفعة نوعًا ما، وتضم الأقارب والأصهار وأصدقاء العائلة. ونستطيع أن نتبين ذلك مما حدث عند وفاة إسماعيل أبو طاقية تاركًا وراءه عددًا كبيرًا من الورثة الإناث: زوجات ثلاث، وثلاث بنات بالغات، سعت كل واحدة منهن إلى اختيار وكيل يمثل مصالحها أمام المحكمة عند النظر في توزيع التركة على الورثة، لتحديد نصيب كل واحدة منهن في البضائع والأموال التي كانت في القاهرة وغيرها من المراكز التجارية التي تعامَل معها في حياته. وكان اختيار مُعظَم الوكلاء من ذوي الأصول الشامية، سواء أكانوا يمتُّون للعائلة بصلة، أم كانوا غير ذلك. فوكَّلت بدرة — مثلًا — قريبها عثمان علي الدين عريقات الذي أدَّى مهمَّته على خير وجه. ووكلت فردوس أبو طاقية زوجها عبد المعطي عريقات، وتولى رعاية مصالح رومية والدها أولًا، ثم خلفه في ذلك أحمد عريقات، وأخيرًا، عندما أحسَّت أن مصالحها التجارية لا تلقى الرعاية الكافية من أحمد عريقات، وكَّلت شخصًا آخر يُدعى أحمد بن صديق الحمصي، الذي لم يكن — على ما يبدو — من أقاربها. ومن ثم كانت العلاقات بين الشوام وبيت أبو طاقية متينة، في نفس الوقت الذي كانت الحياة العامة لأبو طاقية تتَّجه إلى الاندماج بالمجتمع القاهري بصورة واضحة.
ولما كانت مساكن الزوجات غير مُستقلة تمامًا عن بعضها البعض، قامت الصلات بينها. فقد اشترك الجميع في الاستفادة من المنافع العامة للبيت؛ كالفناء حيث يلعب الأولاد، والبئر الذي يُزودهم بالماء، والإسطبل حيث الدواب التي تُستخدم في الانتقال. وكان للبيت حمام خاص، وهو من سمات الترف؛ لأنَّ معظم البيوت كانت تستخدم الحمامات العامة، ويتكوَّن الحمام من حجرتين أو ثلاث حجرات، تزداد درجة حرارته باطراد عند دخوله حتى تبلغ أقصاها عند المغطس الذي يَستخدمه أكثر من شخص في وقتٍ واحد. وتوقف الأمر على الزوجات وعلاقتهنَّ ببعضهنَّ البعض، فإما يُخصَّص يوم لكل واحدة منهن لاستخدام الحمام، أو يَجتمعنَ معًا للاستمتاع بالحمام والثرثرة في مختلف الموضوعات، وهو مثال جيد للمرونة التي اتسم بها المجال الخاص داخل بيت العائلة.
(٣-١) أبناء أبو طاقية
ومن المؤكد أن العائلة كانت تُميِّز بين أبناء الزوجات وأبناء الجواري، وكان خمسة — على الأقل — من أبنائه من أمهاتٍ مُستَولَدات، منهم فردوس، وفاضلة ابنتا هاجر البيضاء، وفاطمة وصالحة ابنتا صايمة البيضاء، وآمنه بنت رازية البيضاء. ودعم التنظيم المساحي للبيت هذا التراتب الاجتماعي؛ حيث كان الأبناء يقيمون مع أمهاتهم في المساكن التي خُصِّصت لهن بالبيت، وبذلك كان أبناء المُستولَدات يُقيمون في مساكن أقل اتساعًا وراحة من الأماكن التي عاش فيها أبناء الزوجات. ولنا أن نتصوَّر عطية الرحمن بما لَها من ثروة وأصول اجتماعية عريقة وأبناء، تنظر باستعلاء إلى المستولَدات وبناتهن. ولا زال مصطلح ابن الجارية أو بنت الجارية مَضربَ الأمثال حتى اليوم للتمييز في المعاملة بين الناس، ولا بد أن تكون عطية الرحمن قد بثَّت في أبنائها رُوح التعالي على أخواتهم من بنات المستولدات، وإن كان الأطفال جميعًا يَشتركون في اللعب بالفناء دون تمييز، كما أن بنات المستولدات حصلنَ على نصيبهن الشرعي من إرث أبيهن، كأبناء الزوجات الحرائر سواءً بسواء.
(٣-٢) الأتباع والخدم والعبيد
لم يَشتمل بيت عائلة التاجر الثري على زوجاته وجواريه وأبنائه فحسب، بل كان هناك آخرون عاشوا في البيت أو تردَّدوا عليه يوميًّا. فقد استخدم إسماعيل — مثلًا — مباشرًا قبطيًّا يُدعى غبريال ليتولى شئون حسابات تجارته وربما بيته أيضًا. وكان للأقباط صيت ذائع في أعمال الحسابات، وغالبًا ما كان الأمراء يستخدمون مُباشرين من الأقباط لضبط حساباتهم وحسابات بيوتهم. وكان هناك أيضًا بعض الأتباع الذين يَعملون بخدمة البيت، لعلَّ بعضهم كان مُقيمًا به، حيث تتوفر لهم الحماية، ويَحظَون بقدر من المكانة التي يختص بها سيدهم.
(٣-٣) تجاوز نطاق الهياكل التقليدية للعائلة
لقد كان كل فرد من أفراد العائلة يعرف موقعه من الهرم الاجتماعي حسب الفئة التي يَنتمي إليها، كالأقارب، والزوجات والجواري والأبناء، أو موضعه في بيت العائلة الذي تربع أبو طاقية على قمَّته كربٍّ للعائلة. ومع أهمية الفوارق البيولوجية بين أبناء أبو طاقية والحدود التي يَفرضها التراتُب الاجتماعي في بيت العائلة، فإن تلك العوامل وحدها لم تُحدِّد مصير أفراد العائلة، ولكن مصيرهم تَحدَّد بمجموعة مركبة من الأحوال الاجتماعية الاقتصادية المتغيِّرة التي تركت أثرها على العائلة، ذلك الأثر الذي نستطيع تتبُّعه لمدى زمني طويل، كما حدَّدته القدرات والكفاءات الشخصية للأفراد الذين تكوَّنت منهم العائلة. ومع وجود الهيكل الاجتماعي الهرمي، كانت هناك مجالات مُعيَّنة تتَّسم بالمرونة، وتَسمح للفرد أن يُسمع صوته للآخرين، وللمبادرة الفردية أن تؤتي أُكُلها، رغم الفوارق الاجتماعية بين أفراد العائلة.
وتكشف دراسة نسق الزواج عند أبناء أبو طاقية عن تغير أوضاع العائلة، فمن تزوَّج منهم في وقتٍ مُبكِّر كان أقل استفادةً بتغيير الأوضاع عمن تزوج فيما بعد، بما في ذلك الزيجات التي تمَّت بعد وفاة إسماعيل أبو طاقية. وكان أول من تزوَّجن من بنات العائلة فردوس وجميعة، الأولى بنت جارية، والثانية بنت عطية الرحمن، وتزوَّجت كلٌّ منهما في عائلة عريقات، التجار الذين يَنحدرون من أصول حمصية، وتَربطهم صداقة وطيدة مع آل أبو طاقية. وكان زوج جميعة هو أحمد ابن عمَّتها ليلى أبو طاقية، أما زوج فردوس فكان عطية الذي يَنتمي إلى أحد فروع عائلة عريقات، وبذلك تزوَّجت البنتان؛ بنت الجارية، وبنت الزوجة الحرة من رجلَين يتساويان في المنزلة الاجتماعية، مما يدلنا على ما يمكن أن يئول إليه وضع أبناء المُستولَدات. وكان الزوجان يَرتبطان بحمص، ويعملان بالتجارة وبذلك كانا ينتميان إلى دائرة مغلقة، هي دائرة التجار الشوام.
وتُوفِّر لنا المصادر التي استخدمناها فرصة إمعان النظر في المظاهر الشخصية للحياة العائلية، لنرى كيف شكَّلت العلاقات الخاصة داخل العائلة، حظَّ آل أبو طاقية — أحيانًا — خارج نطاق الهيكل التراتبي الاجتماعي للعائلة. وتُوجد إشارات بسجلات المحكمة تُساعدنا على أن نرى ما وراء الهيكل التقليدي للعائلة من المظاهر الخاصة لحياة إسماعيل أبو طاقية. فقد دفعه الشوق إلى أن يكون له ابن يُعينه في كهولته، وعلمُه بعجز ولده زكريا عن تحقيق ذلك بصورة مرضية، إلى أن يَعتمد كثيرًا على أحمد بن عريقات — صهره وابن أخته ليلى — في رعاية أعماله التجارية في السنوات الأخيرة من عُمره. ومع تناقص طاقة إسماعيل على العمل، كان يَزداد اعتماده أكثر فأكثر على أحمد عريقات لإدارة أموره، وتحمُّل بعض مسئولياته الشخصية، ووكَّله عنه رسميًّا أمام المحكمة لتولي أمور التجارة نيابة عنه، وأشركه في شئون أعماله أحيانًا. وعندما أقام وقفه عام ١٦١٩م عيَّن أحمد عريقات ناظرًا للوقف بعد وفاته، ليتولى إدارته ومراقبة إيراداته ومصروفاته، ومراعاة إنفاقها وفق ما جاء بحجة الوقف، فكان له حق توزيع الدخل على المُنتفعين بالوقف من أبناء إسماعيل. ويوضح ذلك مدى الثقة التي خصَّه بها خاله. وعندما أقعد المرض إسماعيل، وحال بينه وبين العمل، تولى أحمد عريقات إدارة أعماله كلها، وتولى مسئولياته في التجارة ورعاية العائلة. وكافأه إسماعيل بجعله شريكًا لأبنائه في الانتفاع بوقف الوكالة الكبرى، وهي ميزة لم يتمتَّع بها صهره الآخر زوج ابنته فردوس. وبعبارة أخرى، احتلَّ أحمد عريقات مكان الابن عند إسماعيل أبو طاقية، واعتمد عليه اعتمادًا تامًّا، في وقتٍ كان فيه ابنه زكريا قاصرًا، لا يستطيع أن يمدَّ له يد العون.
(٣-٤) تفرق العائلة وإعادة ترتيب أمورها
لقد جمع إسماعيل أبو طاقية حوله عائلة كبيرة، ورتَّب أمورها بالصورة التي تَعكِس وضعه الاجتماعي، وللوفاء بما يتطلَّبه ذلك الوضع من حاجات. وأدَّت وفاته إلى اختلال بنية العائلة؛ لأنَّ غيابه جعل الإبقاء على الزوجات والمستولدات والأبناء معًا بنفس الترتيب من الصعوبة بمكان. واتَّضح ذلك فورًا، واتخذ التعبير عنه عدة سبل … فلم يكن هناك من يشغل مكان إسماعيل كربٍّ للعائلة؛ لأنَّ ولده الوحيد زكريا كان قاصرًا، ولعل أخاه ياسين لم يشأ أن يلعب ذلك الدور، كما أن السنوات المعدودات التي عاشها بعد وفاة أخيه كانت حافلة بالأحزان والآلام؛ إذ فقَد جميع أبنائه بما فيهم ولده الشاب عمر، وما لبث ياسين أن مات عام ١٠٤١ﻫ/ ١٦٣١م، كذلك لم يستطع أحمد عريقات — صهر إسماعيل — أن يكسب ثقة العائلة. لذلك يبدو أن العائلة مرَّت — بعد وفاة إسماعيل — بمرحلة تتَّسم بالقلق والاضطراب إلى حين، ثم ما لبثت أن استقرت أحوالها في ظل ترتيبات جديدة.
واتَّخذ الجيل الثاني من آل أبو طاقية لنفسه ترتيبًا جديدًا للعائلة، لم يتمركز حول أحمد عريقات، أو ياسين أبو طاقية، أو زكريا، أو غيرهم من أزواج بنات العائلة، وإنما تمركز حول عطية الرحمن؛ إذ جمعت الأرملة العجوز أولادها وأحفادها حولها؛ فقد أدَّى تقسيم تركة إسماعيل على عدد كبير من الورثة إلى تحجيم ثروة كل وريث؛ ومن ثم أصبح تجميع أبناء وأحفاد عطية الرحمن في بيت واحد أمرًا ضروريًّا.
وأصبحت بذلك عطية الرحمن ربة بيت العائلة، تتمتَّع بقدر مُعيَّن من السلطة على ولدها وبناتها وأزواجهم. وقد عُمرت كثيرًا بعد هناء وبدرة ورومية؛ فقد عاشت لترى أبناءها يَكبُرون ويتزوَّجون، وتولَّت إدارة شئون العائلة كربة لبيتِها، تأمُر فتطاع، ويُلبي الجميع رغباتها. وعاش تحت كنفها زكريا وزوجته وأولاده، وأم الهنا وزوجها، ثمَّ ولدها الصغير محمد. وكان يقع بجوار بيتها المنزل الذي عاشت فيه جميعة وزوجها أحمد عريقات، الذي كان إسماعيل قد بناه لابنتِه، وجعَل له بابًا يتصل ببيت العائلة. واستمرَّت عطية الرحمن تزاول عملها كناظرة لوَقف العائلة، تتولى أمر الإيرادات والمصروفات الخاصة بالوقف، كما عاونت أبناءها على رعاية أملاكهم، مُستفيدين في ذلك من خبرتها.
(٣-٥) عائلة أبو طاقية: الخواجة يحيى أبو طاقية
الخواجة عبد الرازق
-
(١)
الخواجة أحمد (تزوج من ليلى أبو طاقية تُوفي ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م).
-
(٢)
رومية (تزوَّجت من إسماعيل أبو طاقية).
الخواجة أحمد (تُوفي ١٠٠٥ﻫ/ ١٥٩٦م).
-
(١)
الخواجة إسماعيل (تُوفي ١٠٣٤ /١٦٢٤).
-
(٢)
الخواجة ياسين (تُوفي ١٠٤٢ﻫ/ ١٦٣٢م).
-
(٣)
ليلى (تزوَّجت الخواجة أبو بكر عريقات، أحمد أبو طاقية، الخواجة عبد النبي عريقات).
-
(٤)
سيدة الكل (تزوَّجت الخواجة عثمان الحمصي).
-
(٥)
بدور.
(٣-٦) الخواجة إسماعيل أبو طاقية
الزوجات
-
(١)
بدرة عريقات (تُوفيت قبل ١٠٤٤ﻫ/ ١٦٣٤م).
-
(٢)
رومية أبو طاقية.
-
(٣)
عطية الرحمن بنت أبو بكر الأحيمر (تُوفيت ١٠٦٣ﻫ/ ١٦٥٢م).
-
(٤)
هناء البيضاء (تُوفيت قبل ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).
الأبناء
-
(١)
فردوس (تزوَّجت الخواجة عطية عريقات، القاضي شهاب الدين أحمد بن حجازي).
-
(٢)
جميعة (تزوَّجت أحمد عريقات، تُوفيت ١٠٥٣ﻫ).
-
(٣)
أم الهنا (تزوجت الخواجة محمد القزويني، القاضي شمس الدين محمد بن المهلهل، تُوفيت ١٠٤٥ﻫ).
-
(٤)
زين التجار (تزوَّجت القاضي ابن المهلهل بعد وفاة أختها أم الهنا).
-
(٥)
زكريا (تُوفي ١٠٨٠ﻫ/ ١٦٦٩م).
-
(٦)
فاضلة (تزوَّجت الخواجة مصطفى علي الدين الشمسي).
-
(٧)
طاهرة (تزوَّجت الخواجة منصور بن الوراق).
-
(٨)
فاطمة الشهيرة بستيتة (تزوَّجت محمد بن الأمير أحمد بن إبراهيم المتفرقة، الأمير محمد بن كيوان، الأمير بشير أغا).
-
(٩)
آمنة (تزوَّجت أحمد بن محمد تاج الدين الأميني).
-
(١٠)
فاطمة (ماتت طفلة ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).
-
(١١)
صالحة (ولدت وماتت رضيعة ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م).
زكريا بن إسماعيل أبو طاقية
-
(١)
كريمة (تزوَّجت شيخ سجادة السادات الوفائية أبا القصيص عبد الوهاب عام ١٠٥٨ﻫ/ ١٦٤٨م).
-
(٢)
أم الهنا (تزوَّجت الشيخ زين الدين عبد اللطيف ابن القاضي أحمد حجازي في ١٠٨٨ﻫ/ ١٦٧٧م).