حصاد الدراسة
تغيَّرت أحوال إسماعيل أبو طاقية — على مرِّ سنوات العمر — تغيُّرًا ملحوظًا، جلب له المزيد من الثروة والوجاهة الاجتماعية. وجاء ذلك ثمرة لعدد من المشروعات التجارية الناجحة. وكان — في نفس الوقت — مُعاصرًا لسلسلة من التغيرات العالمية البارزة التي كان لها تأثيرها على حياته. إذ كانت القاهرة تشهد ازديادًا في كثافة النشاط التجاري الدولي والإقليمي، شأنها في ذلك شأن غيرها من المراكز التجارية الكبرى. ولما كان أبو طاقية تاجرًا كبيرًا لديه شبكات تجارية ممتدَّة إلى مختلف الأسواق، فقد تأثر بتلك الأوضاع، كتأثُّر غيره من تجار الهند الذين استجابوا لزيادة الطلب على المنسوجات الهندية في السوق مثلًا، ومن تجار أوروبا الذين واجهوا ازدياد الحاجات الاستهلاكية للسكان الذين تيسَّرت أحوالهم المعيشية. ورغم أن التوسع الرأسمالي الأوروبي يعود إلى القرن السادس عشر، استمرت العلاقات بين التجار الأوروبيين والتجار من أمثال أبو طاقية قائمة لما يَقرب من القرنين من الزمان على أساس الندية، وليس على أساس هيمنة طرف على طرف آخر. وكان التجار الأوروبيون لا يزالون — في تلك المرحلة — يهتمُّون بشراء السلع الاستهلاكية لتلبية حاجة زبائنهم الذين أقبلوا على شراء البضائع العديدة ذات المصادر المتنوعة، ولم يهتمَّ أولئك التجار بالبحث عن أسواق لتصريف المنتجات الأوروبية، إلا في القرن الثامن عشر وما بعده.
ويدعونا هذا إلى إعادة النظر في الكثير من الآراء المتعلِّقة بالتجارة والإنتاج في هذا الإقليم بعد التغلغل الأوروبي في أسواق التوابل الآسيوية، وإقامة الطريق البحري عبر الأطلنطي. فقد كان لتلك الأحداث الهامة أثرها على التجارة الدولية، وما لبثت أن أدَّت إلى الهيمنة الاستعمارية. غير أن دراسة نشاط التجار في تلك الحقبة تُساعدنا على تفسير وتحليل ما جرى بالإقليم، من خلال العمليات التي حدثت بالفعل، بدلًا من فهم تلك الأحداث على أنها قد دفعت بالشرق الأوسط خارج إطار التاريخ، وأدَّت إلى دمار الاقتصاد، وتبدد ثروات تجار الإقليم؛ لأن ذلك النشاط لم يتأثَّر بالتغلغل الأوروبي في الأسواق الآسيوية وحده، وإنما تأثر أيضًا بالعديد من العوامل الأخرى، التي كان بعضها مُحبطًا للنشاط الاقتصادي، وبعضها الآخر منشطًا له. ولذلك نستطيع أن نرصد بعض الاتجاهات الهامة التي أثَّرت على مختلف الأقاليم جنوب وشمال البحر المتوسط، ونَدرُس مدى تأثيرها أو مساهمتها في تحديد معالم تلك الاتجاهات، بدلًا من أن ننظر إلى اقتصاد الشرق الأوسط في القرن السابع عشر. باعتباره اقتصادًا سلبيًّا متخلفًا لم يشهد تغيُّرات هامة، على نقيض الاقتصاد الأوروبي الذي اختصَّ وحده بالتغير.
والواقع أن مصر، تلك الولاية المهمَّشة التي تقع بعيدًا عن مركز الدولة العثمانية، خلقت أنماطًا تجارية هامة، ساعدَت على إضفاء الحيوية على التجارة. ورغم ما كانت عليه الإدارة العثمانية من مركزية شديدة في تلك الحقبة، كان الاقتصاد المصري يتأثَّر بالعوامل المحلية والإقليمية، ربما لبُعد الشُّقة بين مصر ومركز الدولة. ولما كانت صناعة السكر ذات وجود تاريخي طويل بمصر — على سبيل المثال — فإن ذلك كان عاملًا ملحوظًا في النهوض بتلك الصناعة أواخر القرن السادس عشر. وظلَّت الطرق التجارية التقليدية التي ربطت القاهرة بالمغرب وأفريقيا والبحر الأحمر وسيناء والبحر المتوسط مطروقة. والواقع أن النشاط ازداد على بعض تلك الطرق نتيجة انضمام مصر إلى عالم الاقتصاد العثماني، ويُمكن القول إنَّ التطورات التي شهدها الاقتصاد المصري كان لها أثرها على إقليم البحر المتوسط كله، وأنَّ التغيرات التي شهدتها التجارة والزراعة والصناعة لم تكن مجرَّد حوادث منعزلة، فلا بد أن تطور إنتاج السكر والمنسوجات الكتانية على نطاق واسع، وتجارة البن العابرة، كان لها صداها وراء حدود مصر، وهو ما قد تَكشِف عنه الدراسات اللاحقة. وما تُبيِّنه ترجمة حياة أبو طاقية الآن، هو تنوع الأنماط الاقتصادية، وأهمية الأحوال المحلية القائمة في إطار العالم الاقتصادي العثماني، هذا التنوُّع بين ولاية وأخرى، سواء كان نتيجة لتطور تاريخي أم عوامل جغرافية، لم يحظَ باهتمام الباحثين الذين درسوا العالم غير الأوروبي ككتلة واحدة، كما لم يحظَ باهتمام الباحثين في التاريخ العثماني الذين قلَّلوا من شأن الفوارق بين الولايات وبعضها البعض. وتُبيِّن الدراسة أيضًا أن ثمة اقتصادًا نشطًا جلب تحوُّلات هامة إلى إقليم، اعتُبر هامشيًّا بالنسبة لمركز الدولة العثمانية والعالم الأوروبي على حدٍّ سواء.
ودراسة الحقبة التي تقع بين نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر من خلال تحليل نشاط التجار يُمكن تبريرها من عدة نواحٍ؛ ففيما يتعلَّق بالتجار ذاتهم، والمكانة التي اكتسبوها خلال الحقبة، يُعدُّ ذلك اتجاهًا له أهمية ملحوظة، فقد تجاوز نفوذهم — في الواقع — حدَّ تحسين وضعهم الاقتصادي إلى صياغة حياتهم بمُختلف أبعادها الاجتماعية والقانونية والثقافية والخاصة. فعندما أثرى التجار من أمثال أبو طاقية أو الدميري أو الرويعي أو الشجاعي، اهتموا بإقامة العمائر ذات النَّفع العام؛ لإبراز وجاهتهم الاجتماعية، وأقاموا علاقات مع مُختلف فئات النخبة الحاكمة، ورتَّبوا حياتهم الخاصة — من حيث البيوت التي عاشوا فيها وهيكل العائلات التي أقاموها — لتتَّفق مع أوضاعهم الجديدة.
وساعدت تلك الأحوال المُتغيرة التجار على أن يتركوا بصماتهم على مسرح الأحداث بالقاهرة، من خلال ازدياد تورُّطهم المباشر أو غير المباشر في الأحداث السياسية. ولكن التغيُّرات التي حدثت عندئذٍ لم تُدخِل انقلابًا على البنية الاجتماعية، فظلَّت النخبة العسكرية — من العثمانيين والمماليك — تَحتكِر السلطة، وجاء التجار والعلماء بعدهم، غير أنَّ الضعف الذي سرى في قمة السلطة، أتاح الفرصة أمام التجار الوطنيِّين لتحسين أوضاعهم بالنسبة لهيكل السلطة. ولعلَّ قلة تدخُّل الدولة في التجارة تعني أن التجار تمتَّعوا بحرية إدارة أمورهم بالطريقة التي رأوا فيها النفع لهم.
ودراسة حياة أبو طاقية وأترابه من التجار، تُعيننا على ملاحظة العلاقة بين التجارة الدولية والزراعة والإنتاج الصناعي. فقد كان أولئك التجار يهتمُّون أساسًا بالأرباح التي يمكن تحقيقها من التجارة الدولية، ولكنَّنا نستطيع أن نضع أيدينا على الطريقة التي تمَّ بها الربط بين التجارة الدولية ومظاهر الاقتصاد المحلِّي الأخرى. ففي كل من مصر واليمن — مثلًا — تم تطويع التجارة حتى تُواكب الطلب على سِلَع مُعيَّنة، مثل: البُن أو السكر أو المنسوجات. وحقيقة اهتمام التجار من أمثال أبو طاقية وأبناء جيله بالزراعة والإنتاج الصناعي ذات مغزًى كبير لفَهمِ الأحوال الاقتصادية. فتوضح لنا أن دوافع التغيُّر في تلك الحقبة حفزتها زيادة الطلب على منتجات بعينِها. وجاءت الاستثمارات في الزراعة والإنتاج الصناعي لخدمة أهداف أولئك الذين يشتغلون ببيع أو تصدير تلك السِّلَع بالنسبة لمنتجات معينة على أقل تقدير، غير أن فهمنا لتلك العملية يظلُّ ناقصًا، ما لم نَدرس الأوضاع الريفية والزراعية، ومن ثم نفترض أنه قد حدثت تغيُّرات موازية في أنواع المحاصيل التي تمَّت زراعتها. ومن الأهمية بمكان دراسة تاريخ منتجات رئيسية، كالمنسوجات — وخاصة الكتان — التي كانت تُمثِّل صناعة محلية هامة، وسلعة تحتل مكانها بين الصادرات الأخرى فيما بين القرنَين السادس عشر والثامن عشر.
ولجأ التجار إلى ما يُوفِّره المجتمع التقليدي من وسائل لتحقيق عملية التوافُق وتطويع الإنتاج للأوضاع المُتغيرة في تلك الحقبة … فكان التجار من أمثال أبو طاقية يتعامَلُون مع شركاء ويَستخدمون نظمًا ذات أصول متنوِّعة تَنتمي إلى أقاليم مختلفة، وفي نفس الوقت مارسوا نشاطهم من خلال نظام تقليدي، فاستخدموا الأدوات القانونية والهياكل والمؤسَّسات التجارية التي تنتمي إلى بيئتهم، والتي كانت قائمة — في مُعظمها — منذ زمن بعيد، ورغم ما نعرف عن الهياكل التقليدية من قيود، كانت الأدوات والهياكل التي استخدمها التجار في تلك الحقبة أقل تزمُّتًا مما قد يظن. ويُمكننا فهم الوضع بصورة أفضل إذا اعتبرناها أطرًا تدور داخلها مختلف أشكال العمل، أكثر من كونها مُعوقات للمُبادرة الفردية. ولا شك أن استخدامها تضمن فرض قواعد سلوكية معينة، ولكن ذلك لم يتمَّ على حساب المبادرة الفردية بأيِّ حال من الأحوال. وكانت الهياكل التقليدية التي عمل التجار من خلالها في تلك الحقبة قد طوعت للأوضاع المتغيِّرة لتتلاءم مع حاجات معينة.
غير أنَّ الأحوال التي عمل التجار في ظلِّها فرضت عليهم — أحيانًا — قواعد معينة، فكان استثمار التجار في الزراعة والصناعة يتم في حدود معيَّنة، فلم تكن استثمارات أبو طاقية تتضمن مدى زمنيًّا بعيدًا، حتى في حالة المبالغ الكبيرة التي اتخذت شكل القروض أو مقدمات ثمن السلع. فكان التاجر يَستثمِر أمواله في زراعة قصب السكر طالما كان يقدر حجم الطلب على السكر في الأسواق، ويُدرك قابلية السوق الخارجية على استيعاب الإنتاج، فإذا تغيَّرت الظروف في العام التالي، كان باستطاعته أن يحول استثماراته إلى مجال آخر، دون أن يتكبَّد خسائر كبيرة. وبذلك كان انتقال رأس المال من المدينة إلى الريف، ومن التاجر إلى المنتج، له فوائد جمة بالنسبة لإنتاج السكَّر بمعدَّلات كبيرة لمدة تزيد على القرن، ولكن التجار من أمثال أبو طاقية لم يهتمُّوا — في الوقت نفسه — بالاستثمار طويل الأمد نسبيًّا، رغم اهتمامهم بالتوسع في إنتاج السكر.
كذلك تعرَّضت أنشطة التجار لقيود ذات طبيعة اجتماعية وسياسية. ورغم أنَّ التجارة لم تَخضَع لسيطرة الدولة حتى زمن أبو طاقية، وكان باستطاعة التجار ممارسة عملهم، دون أن يتعرَّضوا لتدخل من جانب الدولة؛ فقد كان عليه إنفاق بعض الأموال على الأغراض السياسية، فيُشركون بعض رجال السلطة في تجارتهم، أو يُقرضونهم المال، مما كان له تأثيره على نشاطهم التجاري؛ لأنَّ ذلك كان يعني اضطرار التاجر إلى اقتطاع جانبٍ من استثماراته لتُنفَق في غرض آخر. فكان أبو طاقية يُقرض بعض أمراء المماليك، ويدفع لملتزمي الجمارك مبالغَ مُقدَّمًا، ويتاجر لحساب بعض الباشاوات. وعلى كل، كان جيل أبو طاقية أحسن حالًا من غيره، فمع تزايد قوة المماليك في القرن الثامن عشر — مثلًا — أصبحوا يَشتغلون بالتجارة الدولية؛ ففي عام ١٦٠٠م، لم يَعُد للباشاوات العثمانيين ما كان لهم من سلطة، ولم تكن النخب العسكرية قد استجمعت قوَّتها بعد للسيطرة تمامًا على مقاليد الأمور، وكانوا في طريقهم للبروز كقوة لها شأنها على المسرح السياسي، وهو ما ركزوا جهودهم عليه.
وتدعو الأحوال التي سادت تلك الحقبة إلى إعادة النظر في الترتيب الزمني المتَّصل بالتاريخ التجاري والاقتصادي. فقد شهدت أوائل القرن السابع عشر اتجاهات ذات أهمية بالغة بالنسبة لتاريخ التجارة المصرية، ولعلَّها استمرَّت حتى بداية الاندماج في الاقتصاد الأوروبي نحو مُنتصَف القرن الثامن عشر، فاستخدمت أساليب تجارية مُعقَّدة، شديدة الشبه — في الكثير من الأحوال — بتلك التي شاع استخدامها بعد ذلك بوقت طويل، وإن لم يتمَّ استخدامها على نطاق واسع على نحو ما حدث في القرن التاسع عشر. والواقع أن بعض الملامح الاقتصادية التي درَج الباحثون على نسبتها إلى مرحلة الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي، كانت موجودة زمن أبو طاقية، فكان أبو طاقية وزملاؤه التجار يستثمرون أموالهم في إنتاج السكر، زراعةً، وصناعةً، وتصديرًا.
ومن الاستنتاجات الهامة التي نخرج بها من هذه الدراسة، تواصُل تلك التطورات مع ما حدث في القرن التاسع عشر … فهذه الدراسة ترى أن بعض مظاهر التغيُّر التي حدثت في القرن التاسع عشر، ترجع بداياتها إلى الحقبة التي عاشها أبو طاقية، مما يتطلب إعادة النظر في الرأي التقليدي الذي يَعتبر عام ١٨٠٠م بداية للتحديث في مصر. وبعبارة أخرى … يُمكننا القول بأن ما حدث في مصر كان تطورًا وليس انقلابًا. ويُعزى التحديث الذي تمَّ في مصر في القرن التاسع عشر — عادةً — إلى التأثيرات الغربية التي صاغت ملامحه إلى حدٍّ ما. ومثَّلت بعض ملامح التغريب انقطاعًا عن الماضي. وترى هذه الدراسة أن عملية التحديث التي وقعت قبل عام ١٨٠٠م اختلفَت عن تلك التي حدثت بعد ذلك التاريخ، وأنَّ ما حدث من انقطاع نراه يتمثَّل في قيام الدولة الوطنية على النحو الذي كانت عليه في القرن التاسع عشر، والتطور التكنولوجي وأثره على المجتمع، وأنَّ ذلك الانقطاع حدَّد ملامح اتجاهات تجربة التحديث. ويُمكننا دراسة ذلك الانقطاع في حدِّ ذاته، وليس باعتباره بداية لا أساس لها في الماضي.
ومن هذا المنطق، يُمكن النظر إلى التطورات التي حدثت في عهد محمد علي باشا من زاوية مختلفة؛ فالصناعات التي قامت على عهده لم تنشأ من فراغ، بل اعتمدَت على خبرة الحرفيِّين الذين تمرَّسوا طويلًا بالعمل في الإنتاج التجاري الواسع، بصورة تُشبه كثيرًا أترابهم الأوروبيِّين عند وقوع الثورة الصناعية. وإلى جانب ذلك، لم يَخترع محمد علي باشا تتجير الزراعة، بل زاد من نطاقها، وأحكم سيطرة الدولة عليها. ولم يكن أول مَن ربط الصادرات بالزراعة، وإنما أدَّت سياساته إلى توسيع نطاق ربط الزراعة بالصناعة والتجارة، ووضعها تحت إشراف الدولة بهدف دمج مصر في الاقتصاد العالَمي. ورغم أن جهوده الاقتصادية كانت حاسمة، وأن الآليات التي استخدمها كانت أكثر تنظيمًا من تلك التي استخدمها سابقوه، إلا أنَّنا نستطيع فهم التغيرات التي حدثت في القرن التاسع عشر على ضوء ما حدث قبله، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، لا يعني التطور بالضرورة رسم خط واضح مَرِن لعملية التحول، فلا نستطيع أن نُقلل من شأن التغيرات التي حدثت في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر، ونستطيع أن نلاحظ وقوع ظاهرة عامة تُميز بداية التغيرات الهيكلية في الاقتصاد، من ذلك … تناقص صادرات المنتجات الصناعية إلى أوروبا، وهي ظاهرة ارتبطت بتزايد الواردات من المنسوجات الأوروبية، وعانت صناعة المنسوجات المحلية من ذلك نتيجة فقدها بعض أسواقها الأوروبية. وبرزت ظاهرة مُوازية تتعلق بالسكر الذي زاد الطلب عليه في أوروبا، فجاء انتشار معامل التكرير في مرسيليا وغيرها التي اعتمَدَت على القصب الأمريكي؛ ليحد من تدفُّق السكر المصري على الأسواق الأوروبية.
وإذا أخذنا تلك الأحوال في الاعتبار، نستطيع أن نفهم بصورة أوضح أسباب تحول الكثير من الأراضي لإنتاج المحاصيل النقدية التي يَزداد الطلب عليها وتَرتفع أثمانها، وكانت تلك المحاصيل تُصدَّر كمواد خام لا كمُنتجات مصنَّعة. وتَرصد دراسة بيتر جران لمصر في أواخر القرن الثامن عشر التوسع في الأراضي الزراعية التي خُصِّصت لإنتاج الغلال، استجابة لزيادة الطلب عليها في فرنسا، ومثل ذلك الاتجاه بداية الاندماج في السوق العالمية. وكانت سياسة محمد علي استمرارًا لعملية الإدماج في السوق الأوروبية العالمية. ولكنه حاول تَفادي عملية التهميش بإقامة الصناعة الخاضعة لإدارة الدولة، وبحلول مُنتصَف القرن التاسع عشر ازداد إيقاع عملية التهميش سرعة في عهد خلفائه.
ويُشير ذلك كله إشارة واضحة إلى خطورة فهم ما جرى في القرن التاسع عشر من خلال ما حدث في العقدَين أو الثلاثة عقود التي سبقته، وخاصة أن مُعظَم المؤرِّخين يرَون أن السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر شهدت أزمة كبيرة. والقول بأن ما حدث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر يُعبِّر تمامًا عن الأوضاع التي سادت قبله ببضعة قرون، يناقض حقائق التاريخ. والواقع أن دراستنا هذه تهدف إلى تأكيد تعذر فهم الحقبة الحديثة من تاريخ مصر، دون الرجوع إلى القرن السادس عشر، للوقوف على جذور عديد من التطورات التي حدثت فيما بعد، وأن أصول بعض الظواهر التي أرجعها المؤرِّخون إلى حقب متأخِّرة، تعود إلى القرن السادس عشر. وبعبارة أخرى … يجب أن يقودَنا ذلك إلى إعادة تقييم تاريخ مصر في العصر العثماني، وألا يَقتصر ذلك على القرنين: السادس عشر والسابع عشر فحسب، بل يمتد إلى القرن التاسع عشر أيضًا. ولعلَّ الدراسات اللاحقة تُبين لنا الامتداد الجغرافي للتحوُّلات التي شهدتها مصر عند نهاية القرن السادس عشر، بالكشف عما يُوازيها في الولايات العثمانية الأخرى، ولعلَّ ذلك يساعد أيضًا على اكتشاف الطريقة التي قامت بها تلك الاتجاهات لإعاقة أو معاونة عملية تحديد صورة الإدماج في النظام الأوروبي العالَمي، فلا زالت مثل هذه القضايا في حاجة إلى بحث.
ويعد التغير في الدور الذي لعبته الدولة حاسمًا على المدى البعيد لتاريخ الإقليم الاقتصادي والتجاري، بقَدر ما كانت عليه الحال بالنسبة لتاريخ أوروبا الاقتصادي. ففي القرنَين السادس عشر والسابع عشر، هيأ ضعفُ الدولة الفرصة أمام جماعات كالتجار للبروز، ولعبِ دورٍ أكثر أهمية اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وتسارع إيقاع هذه العملية حتى نهاية القرن الثامن عشر بانغماس المماليك في الأنشطة التجارية المربحة التي مارسها التجار. وجاء عهد محمد علي باشا ليُمثِّل انقطاعًا في هذا السياق بإقامته للدولة المركزية القوية. وأعقب ذلك تدخل القوى الأوروبية — التي كانت أكثر مركزية من الناحية السياسية عن ذي قبل — الذي غير الأوضاع تمامًا. وعجز سعيد وإسماعيل عن التصدي للتغلغل الأوروبي، فاتخذ التهميش أبعادًا جديدة. وعلى حين ساعد غياب تدخل الدولة في القرون الأولى من الحكم العثماني على توسيع التجار لمجال نشاطهم، جاء ضعف مركز الدولة — في القرن التاسع عشر — لغير صالح التجار المحليِّين، بما أوجده من ظروف مواتية للتجار الأوروبيِّين. فقد أصبح النظام الرأسمالي الأوروبي سريع الانتشار يَحظى بمساندة دول قوية، ويتمتَّع ببنية أساسية متينة مهدت الطريق للتجارة، مستخدمة الجيوش والبعثات التبشيرية، وأصبح القناصل يَحملون شكاوى التجار الأوروبيين إلى السلطان في إستانبول، وتمتع التجار الأوروبيون بالضمانات القانونية والقضائية التي كفلها لهم نظام الامتيازات الأجنبية، بينما حُرم تجار مصر وغيرها من ولايات الدولة العثمانية من الوسائل التي تَكفل لهم الحماية في مُواجهة اكتساح التجار الأوروبيين لأسواقهم، فلم يكن اللجوء للسلطة الحاكمة متاحًا للتجار المحليين، كما أن هياكل التجارة وطوائفها لم تهيَّأ تاريخيًّا للتطور في هذا الاتجاه. وبذلك لم يكن التجار المحليون يَتنافسون مع التجار الأوروبيِّين، وما يجلبونه من منتجات أفضل صنعًا وسعرًا فحسب، بل كانوا أيضًا يُواجهون دولًا يعجزون عن مواجهتها لافتقارهم إلى ما كان لديها من سلاح.