في ذكر العاملين
يبحث هذا الكتاب في العقل الباطن؛ أي ذلك العقل الذي يعمل على غير وعيٍ منَّا، وبه نحلم ونحن نائمون، وبه تخطر علينا الخواطر ونحن في اليقظة الغافية حين لا نكون متنبِّهين؛ أي حين يكون العقل الواعي غير يقظٍ تمام اليقظة.
فهذا العقل الباطن يعمل كأنه مستقل عنَّا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا، بل هو الذي يكوِّن أخلاقنا، وكثيرًا ما تحدث لنا منه أمراض نفسية خطرة جدًّا.
وأول من عمد إلى درس هذا العقل هو فرويد العالم النمسوي، فهو المعلم الأول، وسائر الباحثين تلاميذه المعلِّقين على نظريته أو المنقِّحين لها، وهو يعتقد أن أهم نوازع العقل الباطن التي تحدث لنا الخواطر والأحلام هو الغريزة الجنسية التي تتنكر فتبدو لنا بأشكال مختلفة، وأن الأحلام تظهرنا على الثقافة القديمة التي كانت فاشية منذ آلاف السنين بين آبائنا.
ويونج أستاذ سويسري يجري على أسلوب فرويد، ولكنه يؤمن بغريزة الرقيِّ المتسامية باعتبارها القوة الأصلية التي تبتعث الأحلام والخواطر وتُحدث الأمراض النفسية، ويُرى أثرها في الأساطير الدينية والثقافة القديمة، وهو يختلف أيضًا عن فرويد؛ لأنه يقسم الناس قسمين من حيث المزاج؛ أحدهما ذلك الذي يستجيب للبيئة بالدخول إلى نفسه فيفكر ويجترُّ أفكاره، والآخر ذلك الذي ينشط للعمل ويؤثِّر في البيئة، وهذا التمييز ضروري عنده في معالجة المريض أو تفسير الحلم.
أما أدلر فهو أول تلاميذ فرويد، وهو أحسنهم، وهو لا يؤمن بأن الغريزة الجنسية هي القوة الأصلية التي تُحدث الخواطر والأحلام وتكون الأخلاق، وإنما يكاد يقول برأي نيتشه بأن الرغبة في القوة والتوسع والاستعلاء هي الأصل، أو هي الطاقة التي تتكون منها أخلاقنا وخواطرنا وأحلامنا وأمراضنا. «وقد قبلت أنا رأي يونج بتنقيحٍ طفيف؛ فالقوة النفسية الدافعة لنا والمكونة لشخصياتنا هي في اعتقادي الرغبة في الرقيِّ، وهذا ما نستقرئه من التطور؛ فإن الطبيعة ترمي إلى الارتقاء.» ولأدلر تنقيح آخر في النفسلوجية الحديثة، وهو أنه يعزو إلى النقص الحادث في الجسم أو النفس أو الإحساس قوة تدفع الشخص إلى الاعتياض منه بكفاية أخرى، وقد سماه «مركَّب النقص»؛ كالأعمى تجود ذاكرته، والأعرج يتجمَّل في لباسه، والألْكن يتعود الخطابة. وهو يعتقد أن العبقرية ترجع إلى نقص ما.
أما بودوان فرجل فرنسي له فضل آخر؛ وهو إبراز قوة الاستهواء في المعالجة وخاصَّة ذلك الاستهواء الذاتي حين يؤثِّر الشخص في نفسه ويجعل عقله الباطن طوع إرادته كأن يلهم نفسه النجاح فينجح أو الشفاء فيُشفى.
وأخيرًا نذكر رفرز وهو إنجليزي استطاع أن يجعل النفسلوجية الحديثة علمًا متصلًا بنظرية التطور، فإننا إذا اعتبرنا فرويد المخترع الأول لهذا العلم والممارس لفنِّه وواضع أساليبه، فإننا نعتبر يونج فيلسوف هذا العلم من حيث توسيع دائرته حتى يشمل ثقافة الإنسان كلها، وأن هذه الثقافة كامنة في نفس كلٍّ منَّا. أما رفرز فإنه العالم الذي لا يُطيق الفلسفة؛ ولذلك فهو أبعد الناس عن يونج، وهو ينكر أن الأحلام تعبِّر عن الثقافة القديمة، بل يرى أن رموز الحلم تُكتسب من تجارب الشخص فقط.
هؤلاء هم أقطاب النفسلوجية الحديثة، وطريقتهم كلهم تحليل النفس بالسؤال والجواب، بحيث يذكر المريض حلمه أو خواطره فيأخذ المحلل في سؤاله عنها، ويقرن كل معنًى طارئٍ إلى غيره، حتى يستشفَّ العقل الباطن، ويقف المريض على كُنْه مرضه فيُشفى، ولكن بودوان يزيد على ذلك طريقة الاستهواء ويستعمل التحليل والاستهواء معًا. أما رفرز فأنه ينصح بتقييد الخواطر التي تمرُّ بالعقل وقت الاستيقاظ عقب الحلم مباشرة، ثم تقرن هذه الخواطر إلى مادة الحلم فيمكن عندئذٍ تفسيره.