الأحلام والتنبُّؤ بالمستقبل
من يقرأ شيئًا عن الأحلام القديمة وتفسيرها يجد أن القدماء كانوا يرون في الأحلام علامات وإشارات يمكن التنبُّؤ بها عن المستقبل، وهذا أيضًا رأي العامَّة الآن في الأحلام.
وليس ذلك بمستغرَب إذا عرفنا أننا نحلم بهمومنا التي نطردها عنَّا وقت اليقظة؛ لأننا نكره الاشتغال بها في حالة الوعي، فإذا نمنا انطلقت من حبسها وأعادت إلينا همومنا المكبوتة في هيئة رموز يسهل تعرُّف أصلها أحيانًا؛ فإذا كنا نخشى شيئًا نظن أنه سيقع لنا يومًا ما فإن رؤيتنا له في النوم تتكرَّر بأشكال مختلفة، فإذا اتفق أن ما نخشاه وقع بالفعل فإننا نعزو إلى الحلم صفة التنبُّؤ.
ولكي نوضح ذلك يمكننا أن نفرض أن أمًّا مشتغلة البال على الدوام بسلامة ابنها وتخشى عليه من أن يدوسه الترام أو الأتومبيل، وتعرف من خصاله أنه كثير اللعب والجري في الشوارع ولكنه لا ينتهي بزجرها، فتبقى مهمومة بشأنه، ولكن الهمَّ مؤلم، فما دامت يقظة فهي تطرد هذا الهمَّ؛ لما يُحدثه من الألم، ولكنها إذا نامت رأت ابنها وقد داسه الترام وجرحه، ويحدث أن ابنها يُجرح في اليوم أو الأسبوع الثاني للحلم فترى هي صدق التنبُّؤ من الحلم، ولكن الواقع أن أيَّ إنسان آخر يعرف انطلاق ابنها في الشوارع ويقدِّر متوسطًا للحوادث كان يمكنه أن يتنبأ أيضًا بأنه لا بدَّ أن تحدث حادثة لهذا الولد.
حدث منذ أعوام أن باخرة خرجت من أستراليا تقصد إلى إنجلترا، فلما كانت في الطريق قبل أن تبلغ أحد المواني الآسيوية نزل اثنان من المسافرين؛ لأن كلًّا منهما حلم أنها غرقت فتشاءم من الحلم وترك الباخرة وانتظر باخرة أخرى، وما كادت الباخرة الأولى تبلغ سواحل إفريقيا حتى غرقت هي ومن فيها.
والقارئ لهذا الخبر يتوهَّم أن ما رآه الرجلان في الحلم قد تحقق وأن في هذا حجة وبرهانًا على صحة التنبُّؤ في الأحلام، ولكن قليلًا من التأمل يبيِّن عكس ذلك؛ فإن الباخرة بالطبع لم تغرق إلا لخللٍ في آلاتها، وهذا الخلل لا يحدث فجأة، وإنما تكون له علامات مثل اضطراب الحركة أو الميل الزائد أو نحو ذلك، فالأغلب أن أحد هذين الرجلين لاحظ على الباخرة شيئًا من ذلك ودبَّ في عقله الباطن خوف عليها، والبحر كالظُّلمة يزيد المخاوف، فربما حادَث رفيقه فيما رآه غريبًا في مسلك الباخرة، ولكن عادة الإنسان أن يكبت العواطف المؤلمة؛ ولذلك فهما يسكتان عن بحث الموضوع بصراحة، فإذا ناما رأى كلٌّ منهما هذا الخوف متجسِّمًا في غرق الباخرة؛ ولذلك فهما يتركانها، وتغرق هي بعد ذلك بأسبوعين.
وفي الحلم التالي يرى القارئ شيئًا يشبه التنبُّؤ، ولكنه ليس في الواقع تنبؤًا بل هو عند التحليل شيء آخر لا يقل غرابة عن التنبُّؤ يثبت لنا فائدة الأحلام أحيانًا؛ لأنها تنبِّهنا إلى أشياء نجهلها.
فقد حدث أن رجلًا إنجليزيًّا يُدعى «ج» كان راكبًا للقطار، فاصطدم القطار ووقع «ج» وكسرت له عدة أضلاع، وعولج من الكسر وشُفي منه حسب الظاهر، ومضت على ذلك سنتان والرجل لا يرى ما يشكو منه في جسمه، ثم حدث أنه أصيب بذات الجنب التي انتهت بخُرَاج لم يعرف موضعه، فكان يتألم فإذا فحصه الطبيب لم يستطع الاهتداء إلى مكان الخُرَاج.
وفي أحد الأيام بينما هو راقد في سريره زاره صديق فطلب منه أن يخبر الطبيب بحادثة القطار التي مضى عليها سنتان لعلَّ لها علاقة بما يتألمُّ منه، ولكن المريض ضحك وهزأ بهذه النصيحة.
ونام المريض بعد ذلك ولكنه استيقظ وهو يصرخ، فلما جاءته الممرضة تسأله عن علَّة صراخه أخبرها بأنه حلم بحادثة القطار التي حدثت له قبل سنتين، وأخذ يشرحها لها، فلما جاء الطبيب أخبرته الممرضة كما أخبره هو بالحادثة، فعمد الطبيب إلى مكان الصدمة القديمة وفتحه وأخرج منه أكثر من رطل من الصديد، وشُفي الرجل بعد ذلك.
فما هي دلالة هذا الحلم؟
دلالته أن العقل الباطن كان يدري بمكان الخُرَاج في حين أن العقل الواعي كان يجهله؛ ولذلك ما كاد العقل الباطن ينتبه قليلًا إلى الحديث في حادثة القطار حتى استعاد الذكرى ومثَّلها وكأنه بذلك قد أرشد صاحبه إلى مكان الخُرَاج.
ومن هذا المثل الأخير يمكننا أن نعزو إلى العقل الباطن ميزة الوقوف على تلك العلل الخفيَّة في الجسم، فإذا حلمنا بأننا سنمرض فالأغلب أن في جسمنا خللًا قد شعر به العقل الباطن ودلَّنا عليه عن سبيل الحلم.
وبهذه المناسبة نذكر حلمًا يخشاه كثير من الناس ويظنُّون أن فيه تنبؤًا قد يتحقق، فقد يحلم شاب أن أمه قد ماتت فيشتغل باله كثيرًا، وخاصَّة إذا كانت بعيدة عنه، ولكن ليس في هذا الحلم سوى تحقيق شهوة، ولا نعني بذلك أن الشاب كان يشتهي موت أمه عندما حلم هذا الحلم، وإنما نعني أن هذا الحلم هو استعادة لشهوة قامت في نفسه وهو صبيٌّ عندما كان لا يقدِّر معنى الموت ويدرك نتيجته إدراك الشاب له، فكثيرًا ما يدعو الصبيُّ على أمه بأن تموت، ولكنه في دعائه لا يقدِّر معنى الموت، وأحيانًا ونحن في الشباب نستعيد شهوات الصبا فنراها محقَّقة ونجزع لها.