الثقافة القديمة في الأحلام
قلَّما يحلم الإنسان حلمًا يشبه حلم هذا الطبيب الذي ذكرناه فيما تقدم تحتوي مادته على لغة وكلام، وإنما الأكثر أن «يُرى» الحلم ولا يُسمع، وهو لذلك يُسمَّى «رؤيا»، وقلَّما تغيب عن الحلم مادة الثقافة القديمة كما هي غائبة في حلم الطبيب الذي ليس به من علامات الأحلام سوى الرموز، وذكرى الطفولة في رغبة الطبيب وهو صبيٌّ أن يكون رجلًا ذهبيَّ الشعر أزرق العينين.
فنحن في معظم أحلامنا خرسٌ لا نتكلم، وإنما نرى فقط، وهذا يتفق ونظرية العقل الباطن من حيث إنه خزانة الثقافة القديمة، فقد كان الإنسان في بدء حياته الإنسانية عقب خروجه من طوره الحيواني أخرس لا يتكلم، وكان يخترع الرموز للأشياء.
- (١)
رموزٌ، وهي كثيرة في الأحلام.
- (٢)
واستعادة رغبات الطفولة، وهي كثيرة في الأحلام.
ولكن فيه شيئًا لم نذكره للآن، وهو أن الأفكار مجسَّمة، وتجسيم الأفكار هو الأصل في هذه الرموز؛ فالطب مجسَّم في شارة الطبيب في الجيش؛ أي عصًا وثعبان، والواجب الزوجيُّ مجسَّم في الكورسيه التي تشد المرأة به وسطها، والانتحار مجسَّم في رجل كان قد انتحر.
فالأفكار والآراء تتجسَّم لنا في الحلم أشخاصًا أو أشياء، فكلنا نحلم بنوعٍ من الهيروغليفية المصرية، ولكننا نعرف أن الهيروغليفية المصرية نشأت صورًا كل صورة تدلُّ على أصلها، ثم تطوَّرت فخرجت عن هذا الأصل حتى صارت رمزًا له أو لجملة أفكار أخرى قريبة منه.
وعلى هذه الوتيرة نشأت اللغات كلها؛ ولذلك فإننا إذا أردنا أن نعرف معنى الرموز التي في الأحلام وجب علينا أن ندرس اللغات القديمة، وأيضًا يجب أن ندرس رموز الشعر والفكاهة، وذلك لأن هذه الرموز تأتي في الشعر أو الفكاهة خواطر غير مقصودة فيكون العقل الباطن هو العامل الأكبر منها، والعقل الباطن هو نفسه الذي يُحدث الأحلام.
ويمكن بتحليل الألفاظ في اللغات الحديثة أن نرى فيها الرموز العامَّة التي تُستعمل في الحلم. وهذه الرموز العامَّة قليلة بالطبع لأنها لعموميتها تشمل جميع الناس من أي الشعوب واللغات، ولكن لكل أمة رموزًا خاصَّة تخرج من بيئتها؛ فالجمل مثلًا رمزٌ عند العربي لا يمكنه أن يراه الأوروبي في حلمه، وللقبعة رمز عند الأوروبي لا يفهمه العربي.
فمن الرموز العامَّة أن نرى السفينة أو الزورق في الحلم، ويكون معناه عندئذٍ المرأة، وهذا واضح في تأنيث السفينة عند الإنجليز مع أن الجمادات في لغتهم لا جنس لها، وواضح أيضًا في أننا نسمي السفينة في لغتنا «جارية»؛ أي امرأة، فنقول: «الجواري المنشآت.»
والعرب تُسمِّي المرأة كما سمَّتها التوراة «ماعونًا»، فإذا رأينا ماعونًا في الحلم أدركنا منه أنه رمز للمرأة.
وأحيانًا يكون المنزل رمزًا للجسم، وفي الأغلب جسم المرأة إذا لم تكن قرائن الحلم منافية لهذا الغرض، ونحن في لغتنا العربية قد قرأنا هذين المعنيين فنقول: «بنية» الرجل أو المرأة بمعنى جسمه، وهي مشتقَّة من البناء، ونقول: «العمود» الفقري، والأعمدة من البناء، ونقول لبطنه: «جوفه» كما نقول: جوف المغارة.
والملابس التحتية رمز للمرأة كما رأينا في حلم سابق حين وضع الكورسيه رمزًا للزوجة واستخرجنا منه معنى الواجب الزوجي.
ونحن نقول عن الموت إنه «الرحلة الأخيرة» أو «السفر البعيد»، وكذلك نرى هذا المعنى رمزًا للموت في الأحلام، وهذا المعنى رآه قدماء المصريين حين شرعوا يفكرون في الموت، وليس «كتاب الموتى» الذي كانوا يضعونه مع الميت سوى الدليل الذي يهديه في ذلك السفر البعيد، ونحن عندما نريد أن نعبِّر عن الموت للطفل وننزل إلى المعنى الذي يفهمه نقول له عن الشخص الميت الذي يسأل عنه أنه «راح بعيدًا» ومن هنا نفهم الاتفاق الواقع بين لغة الطفل وأفكاره ولغة الحلم ولغة الإنسان القديم.
ونعبِّر عن الولادة بالخروج من الماء؛ وذلك لأن عقلنا الباطن يفهم أن هذه هي الحقيقة الأصلية التي يعرفها، فإننا نعيش تسعة أشهر في بطون أمهاتنا في سائلٍ نخرج منه وقت الولادة. والأسطورة القديمة عن موسى والنهر تدل على هذا الخاطر؛ فالخروج من الماء رمز في أحلامنا إلى الولادة.
ومعظم الرموز في الأحلام تخص الغريزة الجنسية، ولكننا لا يمكننا هنا أن نتوسع في ذكرها. ويمكننا أن نختصرها في القول بأن الفواكه ترمز إلى المرأة عند الشاب، وأن الولائم ترمز إلى الرغبة في الزواج.
- (١)
«أ» فتاة تحلم أنها يُعرض عليها معطف مثل المعطف الذي لأختها المتزوجة فترفض وتطلب معطفًا أوسع وأكبر.
- (٢)
«س» تحلم أن وحشًا قد هجم عليها يريد أن يشقَّ بطنها فاشتد رعبها حتى شعرت بالكابوس.
فالمعطف في حلم الفتاة الأولى هو الزوج، فهي ترفض أن تتزوج رجلًا يشبه زوج أختها وتطلب زوجًا أرفع منه.
والوحش في حلم الفتاة الثانية هو الرجل في حالة التهيُّج الجنسي، وقد كان الرجل في الأزمنة البعيدة يخطف المرأة من بين أهلها، وليس شكٌّ في أن المرأة في ذلك الوقت مع رغبتها في الزواج كانت ترعب رعبًا شديدًا من هذه الحادثة؛ ولذلك فإن عقلها الباطن الذي اختبر هذه الاختبارات القديمة يصور لها الرغبة في الزواج كما يفهمها من اختباراته.
وإذا كنا نحن في أحلامنا نستعمل الرموز فإن استعمالنا لها يتفق وطريقة التفكير عند الإنسان الأول، فقد رمز إلى قوى الطبيعة المعنوية بالآلهة، والإِله شخص، فالإنسان القديم شخص قوي الطبيعة، فكما نرمز نحن في الأحلام إلى الواجبات الزوجية بالكورسيه وكما نرمز إلى التسامي بركوب الطيارة كذلك رمز هو إلى الموت والحياة والمرض والزراعة بأشخاص هي الآلهة القديمة، وكذلك نشأت اللغات في الأصل رموزًا، وما زلنا نحن نرى في الاستعارة والمجاز معنى الرمز، ومعظم فكاهاتنا لا تزال قائمة على هذا الأصل.