العقل الباطن في الخواطر
لكي نفهم طبيعة الخواطر يجب أن نذكر شيئين عن رفرز وفرويد، فكلٌّ منهما قطب من أقطاب النفسلوجية الحديثة.
فالأول يقول: إن خير طريقة يمكن استعمالها لتفسير الأحلام أن يبقى صاحب الحلم عقب حلمه واستيقاظه منه في فراشه مسترخيًا يتذكر وقائع الحلم ثم يقرن إلى هذه الوقائع ما يخطر في باله عنها ويقيِّد كل ذلك في ذاكرته ثم يقابل خواطره بوقائع الحلم فيستطيع عندئذٍ التفسير.
وطريقة فرويد هي أن يطلب من صاحب الحلم أن يترك خواطره تنساب كما تشاء، فلا يقيِّدها بأي قيد بشأن هذا الحلم، فإذا حلم مثلًا أن كلبًا قد عضَّه فإنه يذكر لفظة «كلب» ثم يكتب كل ما يخطر في باله عن هذه اللفظة، وكذلك لفظة «عض» فإنه يذكر جميع الألفاظ التي تمرُّ بذهنه عندما يذكرها.
فكلٌّ من فرويد ورفرز يستعمل الخواطر لتفسير الأحلام، والسبب في ذلك أن العاطفة المكبوتة في العقل الباطن — وهي التي تُحدث الأحلام وقت النوم — هي نفسها التي تُحدث الخواطر وقت الإغفاء حين يكون العقل الواعي غافلًا غير منتبه.
فالخواطر هي في الحقيقة أحلام اليقظة، فإذا كان الحلم الذي رأيناه في النوم قد أشكل علينا فهمه فلا بأس من أن نكمله ونفسره بالخواطر؛ لأن كليهما ينبع من مَعين واحد هو العقل الباطن.
ولكن الخواطر تمتاز من الأحلام بأنها لا تفارق المحسوس كل المفارقة ولا يعدو خيالها المستحيل، فإذا كان لي خصم قد أهانني ولم أستطع رد إهانته حتى احتبست عاطفة الغيظ في نفسي وكمنت في العقل الباطن فإني في الأحلام أجد أني قتلته أو أراه كنَّاسًا في الشارع أو أن وحشًا يأكله، ولكنِّي في الخواطر لا أتمادى إلى هذا الحد في الخيال؛ لأن عقلي الواعي ما يزال صاحيًا بعض الصحو ولم ينم كل النوم، فهو لذلك يقيد خواطري ويجعلها تجري وفق الواقع أو قريبًا منه. فأنا في خواطري وأنا قاعد أفكر في خصمي لا أرى وحشًا يأكله، ولكنِّي أراني أشتمه وأضربه وأشرح له وقاحته وغلطته وأتخيله يتذلل لي ونحو ذلك، فالخواطر هي أحلام مخففة قد شابها العقل الواعي.
والعقل الباطن يجري في الأحلام والخواطر على وتيرة واحدة، وهو تداعي العواطف، فالعاطفة تدعو العاطفة، وتمثل الرغبة في شخص أو شيء، وكلما كانت العاطفة قوية زادت الخواطر عنها.
والعقل الباطن أكثر تصريحًا بنيَّاتنا من عقلنا الواعي؛ ولذلك كثيرًا ما تكون فلتة اللسان أكشف للنيَّة من الكلام المدبر الموزون؛ لأن الكلام الموزون يصدر عن العقل الواعي وهذا إنما يعبِّر عن نياته بحساب وتوقٍّ من الغلط وتقدير للظروف، فلا تخرج النيَّة صريحةً. أما العقل الباطن فإنه يصرح بها لأنه لا يحسب لشيءٍ ما، فهو يعبِّر عن رغباته بسذاجة الطفل أو أحيانًا بسذاجة الحيوان.
منذ أيام كنت في مجلس وبه فتاة مريضة، وكان بين الحاضرين اثنان: رجل وسيدة بينهما خصومة قديمة، فلما همَّ الرجل يريد الخروج أراد أن يودِّع هذه السيدة فقال: «سلامتك»، يريد لها السلامة، كأنها مريضة، مع أن السلامة كان يجب أن توجه إلى الفتاة المريضة، ولكن لأنه يرغب في مرض السيدة نسي أن يودِّعها الوداع العادي الذي تودَّع به سائر السيدات، فسبب نسيانه أو سبب هذه الفلتة من لسانه هو نية السوء التي يضمرها لهذه السيدة، وهذه النيَّة صرح بها عقله الباطن على غفلة من عقله الواعي، وحدثت هذه الفلتة.
وأراني في هذا الكتاب قد أخطأت جملة أخطاء يُطلَق عليها عادة اسم «زلة القلم» وهذه الزلَّة تتسم عندي في الغالب بنسيان حرف أو حرفين من الكلمة، فبدلًا من أن أكتب «العقل الباطن» أكتبها هكذا «العقاطن»، والسبب في هذه الزلَّة أنه تقوم بنفسي الرغبة في إنهاء الفصل بسرعة. فيتوهَّم عقلي الباطن لسخافته أن السرعة تقتضي أن أثِب من كلمة إلى أخرى كما يثِب الإنسان في المشي إذا أراد العجلة، فإذا سنحت له فرصة من غفلة عقلي الواعي اندفع هو وأحدث هذه الزلَّة طلبًا للتعجل.
ففي هاتين الحالتين نرى أن النسيان الذي هو أصل فلتة اللسان وزلة القلم كان له سبب معقول. وهكذا الحالة في كل نسيان، فنحن لا ننسى شيئًا إلا ولهذا النسيان سبب.
أعرف صديقًا لي خطب فتاة وأحبها، فكان إذا أراد الذهاب إلى منزله ساقته قدماه وهو لا يدري إلى الشارع التي تسكن فيه خطيبته، وهو لا ينتبه إلا وهو على الباب فيتعجب لنفسه كيف جاء مع أنه لم يقصد المجيء.
وهو إنما فعل ذلك لأن عاطفة الحب قوية في عقله الباطن، فهي تُسارق عقله الواعي وتنتهز غلفته ثم تسوق القدمين إلى غرضها، وهو بالطبع لو كان عقله الواعي منتبهًا لما انساق لهذه العاطفة. ولكننا حين نمشي في الشارع لا نكون في كامل وعينا فيجد العقل الباطن الفرصة في إنفاذ غرضه. ولذلك كثيرًا ما تخطر لنا الخواطر وقت مشينا، وكثيرًا ما نرى ناسًا يكلمون أنفسهم ويشيرون بأيديهم وهم سائرون في الطريق.
وقد رأينا في حلم الانتحار كيف تنشأ الرغبة في الانتحار وتندسُّ كامنةً في العقل الباطن حتى يفشيها الحلم، ولكن من الناس من يبلغ به الشقاء أن تشتد عنده الرغبة في الانتحار حتى يجد العقل الباطن فرصة في غفلة العقل الواعي فينتهزها، وقد يكون المسكين ماشيًا في شارع فتزلُّ قدمه به حتى يدوسه أتومبيل ويموت، فالحادثة أمام الناس قضاء وقدر أو إهمال من السائق، ولكنها في الواقع انتحار قد انساق إليه المنتحر بعقله الباطن وهو لا يدري، وهو في هذا الانتحار كالمحبِّ الذي انساق إلى بيت خطيبته وهو لا يدري إلا أنه أمام منزلها.
وتسمع أحيانًا عن رجل لطم آخر لطمة واحدة فقتله، فالحادثة ضربٌ أدَّى إلى قتل حسب الظاهر، ولكنها في الواقع قتل صحيح لا غشَّ فيه؛ فإن الضارب قد نوى القتل في عقله الباطن، وأراد الضرب بعقله الواعي، ولكن النيَّة الباطنة تغلبت على الإرادة الظاهرة وجعلت اليد تقع حيث يكون الموت نتيجة اللطمة.
ففي زلَّة اللسان والقلم والقدم واليد ترى النيَّة المكبوتة في العقل الباطن تخرج وتنتهز غفلتنا حين يضعف وعينا فتحدث هذه الزلَّة التي نظنها خطأ بريئًا، ولكن النفسلوجية الحديثة تثبت بالتحليل أنه ما من خطأ نخطئه يكون سببه النسيان إلا وله أصل في عقلنا الباطن.
ولكن ليست خواطرنا كلها زللًا؛ فنحن طول النهار تخطر ببالنا الخواطر وهي تتَّسق والأحلام في الطريقة، وتعبِّر عن شهوة كامنة أو عن صراع بين النيَّة الكامنة في أعماق نفوسنا وبين الظروف المحيطة بنا، وتجري في كل ذلك على طريقة الحلم من حيث الطفولة في الأسلوب، فإن مطامعنا في الخواطر لا تُحدُّ ومبالغاتنا كثيرة تُشبه ما يتخيله الصبي، ولكنها مع ذلك دون الحلم في الدرجة ثم هي خِلْوٌ من الرموز.
ولكن يحدث فيها «النقل» أحيانًا، فقد رأينا في حلم الطبيب الذي رغب في الانتحار أنه نقل شخصه إلى شخص آخر قعد في مقعده. وقد حدث لي مرة أن دعاني صديق إلى الغداء في الريف وكان يرافقني آخر، فجعلنا نجول بين الحقول حتى شعرت بالجوع، فقلت لرفيقي: لا بدَّ أنك جعت جدًّا.
والحقيقة أن الذي جاع هو أنا، ولكنِّي نقلت شخصي إلى شخصه، وليس من الواضح للآن لماذا يُحدث النقل في الحلم، وهو أندر وأقلُّ وضوحًا في الخواطر.
وقد رأينا في الأحلام كيف يحاول العقل الباطن أن يسمو بصاحبه ويرقى، وكذلك في الخواطر يحاول عقلنا الباطن أن يُخيِّل لنا الرقيَّ ويدفعنا إليه ويعمل لتطورنا من حالتنا الراهنة إلى حالة أرقى، فإن نحن أردنا أن نقف على كُنْه نفوسنا وميولنا وجب علينا أن نفحص خواطرنا وأحلامنا؛ فهما يمثِّلان لنا أطماعنا في الدنيا ومشكلاتنا الخفية وأخلاقنا الأصيلة في نفوسنا.
ولكن تحدث لنا فترات تنحطُّ فيها خواطرنا وأحلامنا، فالشاب المراهق ليس له من الخواطر والأحلام سوى ما يتصل بالغريزة الجنسية، وليس للجائع منهما سوى ما يتصل بالطعام، وهذه فترات أشبه بالمرض منها بالصحة، كالسجين يحلم بالانطلاق من السجن فيرى الملائكة في نومه تحمله إلى النافذة وتُخرجه منها ويتخيل في خواطره مئات الوسائل التي يستطيع أن يفر بها من السجن، فهذه فترات وقتية يكون فيها الشخص أشبه بالمريض فيعمد عقله الباطن إلى تخصيص كل قواه لإنقاذه. فالعقل الباطن عند المسجون لا يفكر إلا في إنقاذه فيُخيِّل له الانطلاق والحرية ووسائل الإنقاذ، وعند الجوعان يُخيِّل له الأطعمة، وعند المراهقة تخفف العاطفة الجنسية المحبوسة بتشخيص الحالة.
ولكن كلًّا منَّا يعرف أنه يمكن بشيء قليل من العزيمة أن نوجه خواطرنا إلى معانٍ وأغراض أخرى غير تلك التي يسلكها عقلنا الباطن، فبدلًا من أن نتخيل الطعام يمكن أن نتخيل قصرًا نملكه أو غنًى نبلغه أو نحو ذلك مما تطمح إليه نفوسنا وفيه من القوة ما يغمر العاطفة السابقة: عاطفة الجوع، وإذا كانت أحلامنا مريضة فإننا يمكننا بتهيئة العقل الباطن قبيل النوم أن نوجهها إلى الأغراض التي نريدها، وقد كان ابن عربي الصوفي الأندلسي يقول: «ينبغي للعبد أن يستعمل همَّته في الحضور في مناماته بحيث يكون حاكمًا على خياله يصرِّفه بعقله نومًا كما كان يحكم عليه يقظةً.»
وليس ذلك بالصعب إذا عمدنا إلى أنفسنا قبيل النوم ساعة الاسترخاء وغفوة الوسن الأولى فنتخيل أشياء سامية نحب أن يشتغل بها عقلنا الباطن وقت النوم، ولا عبرة بما نشعر به عند اليقظة في الصباح حين لا نذكر أننا حلمنا بما أردنا أن نحلم به، فالأغلب أننا حلمنا ونسينا.
وإنما ننسى معظم أحلامنا لأن العقل الواعي يكبتها عند اليقظة؛ لأنها تنافي أغراضه ومسالكه كما تنافي الواقع الذي يعرفه هو؛ ولذلك فإن أحسن الأوقات لاستذكار الحلم هو تلك الفترة التي بين النوم واليقظة حين يكون العقل الواعي ما يزال في غفوته لم ينتبه تمام الانتباه.