الكبت والتسامي
أرغب الناس في وصف الأطعمة وألوانها هو الجائع، أما الشبعان فليس أسأم لنفسه من ذلك.
وكذلك أرغب الناس في وصف الجمال ولذَّات العشق هو المحروم من الحب أو المقهور في عواطفه الجنسية.
ومعنى هذا أن عاطفة الجوع المكبوتة قد تستحيل عند الجائع إلى نوع من الفن الوصفي وتستحيل عاطفة الحب عند العاشق إلى نوع من الأدب الغرامي.
وهذا هو التسامي؛ أي إننا نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا فنصرفها إليه، فإذا وجدت مُنصرَفًا إليه خفَّ اللبيد المحتبس من جهة ونبغنا نحن في الفن من جهة أخرى.
فالنبوغ في الفنون يحتاج إلى عواطف مكبوتة قد استحالت ممارسةً للفن؛ وذلك لأن العاطفة المكبوتة في العقل الباطن طاقة؛ أي قوة تحاول أن تستحيل إلى إرادة فعمل، ولكنها لا تجد ذلك فتنتهز فرصة النوم وتستحيل حلمًا أو تنتهز فرصة السهو والغفلة فتخرج على سبيل الفلتة أو الزلَّة أو تجري خواطر سائبة تتخيل فيها الخيالات.
ولكن هذه الطرق لا تكفي العاطفة المكبوتة إذا كانت قوية؛ ولذلك يحدث كثيرًا أو يتفق لنا لحسن الخط أن نتسامى بهذه العاطفة إلى خدمة قريبة في المعنى لهذه العاطفة، وبهذا يخفُّ اللبيد؛ (أي العاطفة المكبوتة)، ونستطيع خدمة الهيئة الاجتماعية بخدمة الفن الذي نمارسه.
ولذلك يجب أن نعرف أنه إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانًا فإنها أحيانًا أخرى تُحدث النبوغ.
منذ أكثر من ثلاثة قرون كان يعيش في أجرا بالهند أمير مسلم، وكانت له زوجة تدعى نور محل، وكان يعشقها عشق المتيَّم، ثم ماتت فماذا يفعل بهذه العاطفة المتأججة في صدره: عاطفة الحب؟
- (١)
إما أن يُخيِّلها له عقله الباطن شخصًا قائمًا حيًّا يخاطبه في وعيه ويقظته كما نرى نحن شخص الميت العزيز في أحلامنا، وهذا هو الجنون.
- (٢)
وإما أن يتسامى هو بهذه العاطفة إلى عملٍ فنِّيٍّ، فيصرف عاطفة الحب إلى هذا العمل، وبذلك لا يطغى العقل الباطن على وعيه.
وهذا الطريق الثاني هو ما اختاره، فإن حبه الماضي لزوجته كان مؤلَّفًا من جملة عناصر هي الإعجاب بالجمال والافتتان به والولاء والإخلاص للزوجة والإقامة على الحب.
وهذه العناصر نفسها قد تمَّت له في إقامة أثر فني مصنوع من المرمر الناصع يدفنها فيه، وقد قضى عشرين سنة وهو يبني هذا الضريح الذي يُسمَّى الآن «تاج محل»، فالإعجاب بالجمال الذي كان للزوجة قد استحال إعجابًا بجمال البناء، والولاء للزوجة والثبات على حبها قد استحالا إلى ولاء وثبات على حب هذا الأثر وبذل المال في تكاليفه، حتى كان راضيًا بأن يقوم على بنائه ٢٠٠٠٠ عامل في اليوم.
فعاطفة الحب للمرأة قد تسامت في هذا الأمير إلى عاطفة الحب للبناء.
وكذلك يمكن الشاب أن يتسامى بالعاطفة الجنسية المتأججة فيه إلى خدمة فن من الفنون الجميلة كالمثالة أو التصوير أو أي عمل آخر يحتاج إلى ما يشبه عواطف الحب، ومعظم الأعمال بل كلها تقريبًا تحتاج إلى ذلك.
كان لويولا مؤسس اليسوعية يعشق فتاة، ثم قُهرت فيه عاطفة الحب، فوجد منصرَفًا لها في خدمة الدين المسيحي؛ لأن الولاء للدين وحب التضحية وبذل المال والمجهود لخدمة الدين يشبه في عناصره الحب للمرأة والولاء لها؛ لأن في الاثنين معنى العبادة.
وبهذا التسامي ينجو الشخص من الجنون، وكثيرًا ما يحدث الجنون لأن الشخص لا يرى سبيلًا للتسامي، فقد تفقد أمٌّ وحيدها فهو لا يفارقها في خواطرها، وهو حيٌّ أمامها في أحلامها وقت النوم.
وكل هذا شيء عادي قد يحدث لنا مثله إذا فقدنا عزيزًا، ولكن الطاقة المكبوتة عندها شديدة، فما تتخيله في الأحلام يتجسَّم لها وقت اليقظة فلا تصدِّق أنه مات، ويطغى العقل الباطن فلا تزال تخاطبه وتحادثه كأنه أمامها، وهذا هو الجنون.
ولكن إذا وجدت طريقًا للتسامي نجت من ذلك، وهذا السبيل إنما يكون بشيء قريب من الحب السابق لابنها؛ كأن يوجَّه نظرها إلى العناية بالأيتام الذين يشبهون ابنها في السن، أو كأن تتبنى صبيًّا يشبه ابنها فتكسوه بالحب الذي كانت تشعر به لابنها وتنصرف عاطفتها إليه.
وأنت بالطبع قد سمعت عن «مجنون ليلى» كيف حُرم من حبيبته فجُنَّ، والقصة في الأغلب موضوعة لا أصل لها، ولكنها تدل على السبيل الذي تتخذه العاطفة المكبوتة إذا لم تجد سبيلًا إلى التسامي. ولكنه هو تسامى إلى الشعر ولم يكن لذلك مجنونًا كل الجنون.
وفي بعض الأحيان تجد فتاة أو سيدة قد أسنَّت ولكنها تُغرم بالكلاب أو القطط غرامًا فظيعًا إذا بحثت عن أصله لم يطُل بك البحث حتى تجد أن هذه الفتاة أو السيدة اشتاقت أن يكون لها أولاد، واشتدت بها هذه العاطفة ولكنها كبتتها، ثم اتفق أن أُهدي إليها كلب أو قطٌّ فوجدت هذه العاطفة المكبوتة مُنصرَفًا إلى هذا الحيوان، فهذه الأمومة الجائعة قد وجدت مَقنعًا في تربية القطة أو تربية الكلب.
ولكن ليس في تربية الكلب شيء من التسامي، وإنما يحدث هذا التسامي إذا عمدت الفتاة أو السيدة إلى العناية بالأيتام من الأطفال أو التصدُّق على الفقراء أو نحو ذلك؛ لأنها في هذه الأعمال تصرف حنوَّها إلى الصبيان، وتصرف ما فيها من عناصر للبذل والخدمة إلى المجموع.
وعلى هذا المبدأ يجب أن نقول: إن الحماسة في خدمة الفنون أو خدمة الهيئة الاجتماعية لا تكون إلا مع شيء من الكبت حتى تتجمع القوة في العقل الباطن وتنصرف إلى عملٍ شبيهٍ في عناصره بعناصر العاطفة المكبوتة.
والتسامي إما أنه يأتي عمدًا وإما عفوًا، وهو كثيرًا ما يأتي عفوًا في الخواطر، فإننا حين نفكر في زيادة سلطاننا أو زيادة أدبنا أو علمنا أو جاهنا نتسامى بعاطفة مكبوتة.
ولعلك الآن قد فقهت إلى العلاقة بين الغرام والأدب، وفطنت إلى العلَّة التي جعلت الأدب قائمًا على القصص الغرامية، حتى إن ٩٩ في المائة من الكتب الأدبية هي قصص خاصَّة بالغرام؛ وكل هذا لأنَّ في الأديب عاطفة مكبوتة هي العاطفة الجنسية، وهذا التسامي الذي يحدث عند الأديب يحدث مثله عند العالم والطبيب والمهندس ورجل الدين؛ فإن في العاطفة الجنسية من العناصر ما نجهله إذا نظرنا إلى ظاهرها فقط، ولكن إذا تعمَّقنا في فحصها وجدنا أن فيها عنصر الولاء والأمانة وحب الجمال والرغبة في الخدمة وروح النظافة والطهارة وحب الأولاد والتبصر للمستقبل وتكوين العائلة وما يتصل بالعائلة من رغبة في اقتناء الثروة ونحو ذلك؛ ولذلك فإن الأديب أو العالم أو المهندس أو أي إنسان يمكنه أن يتسامى بعاطفته الجنسية إلى واحد من هذه الوجوه. ولعلك أيضًا قد فقهت إلى العلاقة بين معاني الحب والغرام وبين الابتهال والحب لله عند الصوفيين القدماء، حتى إننا نقرأ ابن الفارض فلا ندري موضوع حبه أهو الله أم الخمر والمرأة.
وكما أن العاطفة الجنسية كانت الطريق في تطور الأحياء إلى وجود العائلة والعناية بالأولاد واجتماع القطيع وبناء العش كذلك هي الآن السبيل إلى المعاني السامية في الاجتماع البشري.