طريقة الإيحاء أو التلقين
لو قلنا لرجل صحيح الجسم سليم الأعضاء إنه مريض وكان لقولنا من الوجاهة وصدق اللهجة ما يؤثِّر فيه ويمنع عنه الشك بالمزاح لاعتقد بمرضه وشعر بعد قليل بالمرض الذي عيَّنَّاه له، وخاصَّة إذا كان المتكلم طبيبًا له نفوذ الحرفة.
ولو قلنا لرجل مريض إن وجهه كل يوم يتورَّد بالدم وإن قوته تزداد ونور الصحة يتألق في محيَّاه وكرَّرنا له ذلك في لهجة صادقة لكان لكلامنا تأثير فيه من حيث شفاؤه، وخاصَّة إذا كان المتكلم طبيبًا أيضًا.
فالعقائد تقوم في النفس بالتلقين والإيحاء، وهي في ذلك تختلف من المعارف، فالمعرفة عقل وتجربة واختبار، ولكن العقيدة تلقين وإيحاء وتكرار، فالناس ينشئون على عقائد آبائهم لأنهم يُلقَّنونها وهم صغار وتُكرَّر أمامهم مرات حتى ترسخ في عقولهم الباطنة ويصير نزعها أشق عليهم من الموت، وإذا أردت أن تُغري أحدًا بأحد فليس سبيلك إلى ذلك العقل وإنما التكرار، وكذلك إذا أردت أن تُقنع أحدًا برأيك فسبيلك إلى ذلك التكرار وليس المناقشة المنطقية.
وليست إعلانات التجار التي نراها كل يوم في الصحف سوى نوع من التلقين والإيحاء غايته إيجاد العقيدة بالتكرار في نفس القارئ بأن الشيء المعلن عنه هو أحسن الأشياء لكي يشتريها.
وقد نبتت النفسلوجية الحديثة من طريقة الاستهواء؛ أي التنويم المغنطيسي، فقد وجد الذين مارسوا هذا التنويم أن المريض إذا قيل له وهو نائم: أنت شُفيت. قام وهو يتوهَّم شفاءه ويؤمن به، وينتهي إيمانه بأنه يُشفى شفاءً حقيقيًّا في كثير من الحالات.
وقد شاع الاستهواء منذ خمسين سنة، ولحظ منه الذين مارسوه أن للإنسان عقلين: عقل واعٍ، وعقل باطن، وأنه مدَّة الاستهواء يكون العقل الواعي نائمًا ويستيقظ العقل الباطن، وهذا العقل يصدق كل ما يقال له، فلو قيل للنائم: أنت في بحر. عمد إلى نفسه فحرَّك أعضاءه وضرب بذراعيه يشقُّ الموج، وإذا قيل له والوقت بارد: إن الحر قد اشتدَّ. صدَّق ذلك حتى يلهث ويعرق وينفخ، مع أن الحقيقة أن الوقت بارد، وليس فعل الإيحاء مقصورًا على وقت الاستهواء، فقد يحدث مثلًا أن تقول للنائم: غدًا تقصد إلى فلان لزيارته، فلا تأتي الساعة المضروبة للزيارة حتى يكون قد ذهب وتعلل بأية علَّة للذهاب.
ومما حدث في نانسي بفرنسا حيث يمارس الاستهواء بكثرة أن قيل لأحد النائمين إنه نابليون. وقد توهَّم بالطبع طول مدَّة نومه أنه نابليون، وليس في هذا غرابة إذا عرفنا أن العقل الباطن يصدق كل ما يقال له وقت الاستهواء، ولكنه بعد ما استيقظ ونسي بالطبع كل ما قيل له مدَّة النوم وقف فجأة بين إخوانه بهيئة نابليون كما ترى في الصور ووضع إحدى ذراعيه داخل صدرته كما كان يفعل نابليون، ثم تعلل لهذا الموقف بقوله كأنه يستغرب: وماذا نفعل الآن؟!
ففي التنويم المغنطيسي نصدق كل ما يقال لنا ويستمر التصديق حتى بعد التنويم، وإذا نظرنا إلى الطريقة التي كانت تُتَّبع في هذا التنويم عرفنا أنه يمكن أن نجعل الاستهواء (أي التنويم المغنطيسي) ذاتيًّا.
فقد كان الممارس للتنويم يأتي بالشخص المراد تنويمه؛ أي استهواؤه، ثم يجعله ينطرح ثم يجعله ينظر إلى جسمٍ لامعٍ مثل كرة من البلور أو نحو ذلك ثم يلقِّنه هذه العبارة: أنت نائم. أنت نمت.
ويكرِّر ذلك عليه نحو ٢٠ أو ٣٠ مرة فينام العقل الواعي، ولكن العقل الباطن يبقى منتبهًا. فمهما قاله المنوم يصدقه النائم.
وقد مارس كويه طريقة الاستهواء الذاتي، فبدلًا من أن يقول للمريض بعد أن ينومه: أنت شُفيت. يجعل المريض نفسه يقول لنفسه: أنا شُفيت.
وقد شاع الاستهواء الذاتي، وهو يقوم على تكرار التلقين بعد أن يضع الإنسان نفسه في حال استرخاء ينظر فيها إلى جسم لامع حتى يتخدر العقل الواعي وينطلق العقل الباطن، ويكون ذلك أوفق قبيل النوم أو بعده، فيقول الإنسان لنفسه: أنا سليم، ليس بي مرض، ويكرِّر هذا القول نحو ٢٠ مرة.
فإذا واظب على ذلك اعتقد العقل الباطن هذه العقيدة وصار يؤثِّر في أعضائه أثرًا حسنًا ويوجهها كلها نحو الصحة، ثم هو في الوقت نفسه يوجه الشخص نحو كل ما من شأنه يرفع الصحة ويقويها في الطعام والنوم والشراب والعمل.
إنما يجب هنا أن نلاحظ أنه عند استهواء أنفسنا يجب أن نتوقَّى الأمر والمنع والكبت، فلا نقول: يجب أن أكون سليمًا، بل نقول: أنا سليم؛ فنضع الإثبات والتصوير مكان الأمر؛ أي إن الاستهواء يكون بالتوهُّم؛ أي نتوهَّم مكان المرض.
ولكي ندرك قيمة ذلك يمكننا أن نتذكر الضحك، فإنه إذا اشتدت بنا عاطفة السرور ومنعناها من أن تستحيل إلى ضحك انفجرت بنا فنقهقه بدل الضحك، ولكن إذا توهَّمنا شيئًا غير السرور كالحزن أو الغضب زالت عنَّا الرغبة في الضحك.
فلكي نستهوي أنفسنا يجب ألَّا نلجأ إلى الجبر والحبس والكبت، وإنما نعمد إلى التخيل والتوهُّم، فنضع في ذهننا صورة الصحة مكان المرض، ونتخيل أنفسنا أصحاء أقوياء.
ولنفرض أن شابًّا وقع في عادة سيئة تملكته، فسبيل خلاصه منها أن يستهوي نفسه في كل فرصة يستطيع أن يسترخي فيها ويلقن نفسه عبارة مؤداها: أنا أكره هذه العادة؛ عادة … (وهنا يعيِّنها) ولا يزال يكرِّر ذلك حتى تنطبع في ذهنه عقيدة تتملكه بكراهة هذه العادة.