الاستهواء والتحليل
لكل جديدٍ طلاوته ولكل اكتشافٍ مبالغاتٌ تنسب إليه عند البداية، والنفسلوجية الحديثة جديدة، والإقبال عليها عظيم، والإيمان بها أعظم، ففيها الآن كتبٌ أميركية يباع الكتاب منها بأقلَّ من خمسة قروش، وفيها كتبٌ أخرى ثقيلة عليها وقار الدرس يباع الكتاب بها بأكثر من جنيه.
وقد شاعت المعالجة بطرقها، أو بالأحرى بطريقتها: طريقة الاستهواء القديمة التي تعتمد على التلقين والإيحاء وطريقة التحليل التي تعتمد على السؤال والجواب حتى يستخرج المحلل ما في العقل الباطن للمريض من النيات والأغراض التي يُخفيها.
ولكن الآمال الأولى التي كانت معقودة بهذا العلم الحديث قد عراها الاعتدال بعد الغلوِّ، فمن يقرأ ما كتبه كويه أو بودوان يعتقد أن النفسلوجية قادرة على شفاء كل مرض، ولكن الذين مارسوا التحليل والاستهواء يرون أنفسهم أميل إلى التوسط والاعتدال مما كانوا قبلًا.
فهناك أمراض عضوية مثل الحصاة في الكلية لا يمكن أي استهواء أو تحليل أن يزيلها، وإذا بلغ التدرُّن درجته الأخيرة فمن العبث أن يُنصح للمريض بأن يعتمد على الاستهواء.
فالمرض إذا كان عضويًّا؛ أي إنه محسوس متحيز في عضو فالأرجح أن الاستهواء يزيله إذا كان مبتدئًا، ولكنه لا يؤثِّر فيه البتَّة إذا تقدَّم، وعندئذٍ يصبح من اختصاص الطبيب، ولكن الابتداء والتقدم لفظتان تقبلان المطَّ؛ فإن الورم قد يتقدم ومع ذلك يخضع للاستهواء ويزول، والصحة قد تعتلُّ اعتلالًا عموميًّا ثم يصحُّ الجسم وينشط بالإيحاء.
ولكن الأمراض التي ينجع فيها الاستهواء والتحليل هي تلك الأمراض النفسية التي تنتج عن عقيدة رسخت في العقل الباطن وأصابت النفس فأثرت هذه في الجسم، وذلك كالصبي يعتقد أنه لا يفهم الحساب ويفشل كل مرة في الامتحان، أو كالرجل يريد أن ينتحر ويشعر بهذه الشهوة تتملَّكه، أو الفتاة تتوهَّم أن أحد الناس قد انتهك حرمتها، أو أي واحد منَّا يصاب بالكابوس أو يتوهَّم أنه ملكٌ أو نحو ذلك.
فمن حيث المعالجة تقتصر النفسلوجية الحديثة على الأمراض النفسية التي تصيب النفس، ولا يهمنا بعد ذلك أن تؤثِّر النفس في الجسم إلا من حيث البحث عن ماهية المرض هل هو جسماني في الأصل كمكروب السفلس إذا بلغ الدماغ وأحدث فيه الجروح، أم هل هو نفساني حدث بعقيدة سابقة قد نسيها المريض نفسه وأحدث هذا التأثير في العقل ثم في الجسم.
ولكن الأمراض الجسمانية نفسها كما أوضحناه آنفًا من تأثير العقل في الجسم تنقاد إلى حدٍّ كبير للاستهواء بالإيحاء والتلقين.
- (١)
طريقة الاستهواء تنحصر في أن يلقِّن أحد الناس المريض أو يلقِّن المريض نفسه. فإذا كان يصاب بكابوس مزعج فإنه يقال له أو يقول لنفسه قبل النوم: أنا أنام نومًا هادئًا لا أحلم فيه البتَّة، ويكرِّر هذا القول نحو ٢٠ مرة.
وتعليل هذا العلاج أن الكابوس هو نتيجة عقيدة سابقة لحادثة حدثت ربما يكون المريض نفسه قد نسيها أو نتيجة هموم غالبة في الوقت الحاضر، فهو يحاربها بعقيدة أخرى تكافحها.
- (٢)
أما الطريقة الثانية فهي التحليل؛ وذلك بأن يحلِّل الكابوس وتذكر تفاصيله ثم يذكر صاحبه ما يمر بذهنه من الخواطر وهو يذكر التفاصيل وأية عواطف يستثيرها هذا الذكر، فإذا وقف على أصل الكابوس — والأغلب أنه يجد هذا الأصل في همومه الراهنة أو في حادثة قديمة وقعت في صباه — فإنه يُشفى منه.
والفرق بين الطريقتين أن الأولى؛ أي الاستهواء، أشبه شيء بالصباغ نصبغ به الحائط فوق الصبغة القذرة السابقة، والصباغ الجديد يخفي الصبغة القديمة مدَّة غير قليلة، ولكنه قد يجفُّ ويقع وتعود الصبغة القديمة إلى الظهور. أما في التحليل فإننا نمحو الصبغة القديمة ولا نضع شيئًا في مكانها؛ ولذلك فإن الكابوس قد يعود بعد الاستهواء، ولكنه لا يعود بعد التحليل.
وإنما نلجأ إلى الاستهواء إذا عجزنا عن التحليل.
ومع ذلك ليس التحليل ترياقًا لكل داء نفساني، وقد رأى القارئ في فصل «حلم الانتحار» أن الدكتور رفرز قد حلَّل هذا الحلم تحليلًا وافيًا ثم بعد ذلك لم يَقنع بهذا التحليل، بل نصح للمريض بأن يترك الطب ويشتغل بصحة المدن وصيانة أنابيب الماء وبالوعات الكُنُف حتى لا يرى جثة.
ولا بد أن القارئ قد لحظ أن المعالجة بالاستهواء تنحصر في الالتجاء إلى العقل الباطن. أما المعالجة بالتحليل فتنحصر في الالتجاء إلى العقل الواعي، ففي الأولى نحاول أن نوهم المريض بأنه شُفي وشفاؤه يتوقف على قوة إيهامنا وإيحائنا له بالشفاء. أما في التحليل فإننا نواجه مع المريض حقيقة مرضه ونكشفه له ونشركه معنا في فهم علته، وذلك باستثارة خواطره التي نعرف منها الصلات الخفيَّة التي تربط تفاصيل الحلم.
فالطريقة الأولى تنفع المريض الجاهل، أما الثانية فيمكن استعمالها مع الشاب الراقي، وإذا أخفقت الثانية عدنا إلى الأولى.