كيف ننتفع بالعقل الباطن
إن درسنا للعقل الباطن في أنفسنا وفي غيرنا يقفنا على كُنْه النفس البشرية ماضيها وحاضرها ويجعلنا نفهم أنفسنا ونعرف مكنوناتها، فبالأحلام نعرف الهموم السخيفة والجدِّيَّة التي نهتم بها ولا ندري أحيانًا أننا نهتم بها، وبالخواطر الطارئة علينا في يقظتنا نعرف آمالنا وما تتشوَّف إليه نفوسنا.
وفي الأحلام والخواطر نرى قوة اللبيد وتساميه ومحاولته أن يرقى، فندرك من ذلك أن الرقي حاجة من حاجات النفس البشرية وأننا لن نكون سعداء حتى ندأب في ترقية أنفسنا، فما دمنا كل يوم نتدرج نحو الرقيِّ فنحن نشعر بهناءة العيش، فإذا ما ركدنا بدأت نفوسنا تمرض، حتى لقد تحب الموت عندئذٍ وتفكر في الانتحار.
والرقيُّ هو الطبيعة الغالبة للنفس البشرية، كما أنه الطبيعة الغالبة لتطور الأحياء، فإن التطور هو الارتقاء كما سبق أن ذكرنا في أول هذا الكتاب، ولكن كما يحدث في التطور أن الحيوان ينحطُّ وينقرض كذلك يحدث للنفس البشرية أن تمرض وتموت؛ وذلك لأنها تأبى أن تتطور.
فالطبيعة الغالبة لنفوسنا التي يثبتها التطور كما يثبتها العقل الباطن في أحلامه وخواطره هي الرقيُّ، فنحن أبدًا نتسامى نحو الجمال والعلم والأدب والثروة والقوة والشرف، فما دمنا في هذا التسامي فنحن سعداء؛ لأننا نجري على مقتضى طبيعتنا التي إذا خالفناها وركدنا بدأنا نحس بالشقاء.
فالركود علَّة الشقاء، وقد يأتي عفوًا كما يأتي التسامي عفوًا، فذلك الطبيب الذي كان يحلم بأنه يهمُّ بأن يقتل نفسه كان يشعر بشقائه؛ لأنه لم يستطع أن ينزع عن نفسه ذكرى الدماء والجروح والآلام في الحرب، ولكن بذرة التسامي ظهرت له في آخر الحلم حين خرج له ابنه وذكَّره بالواجب الأبوي فكفَّ عن الانتحار، فالطفل رمز للمستقبل الذي يجب أن نعيش كلنا له وننسى الماضي من أجله.
وكما نعرف كُنْه أنفسنا وكُنْه مطامعنا وآمالنا كذلك نعرف نيات الآخرين نحونا والعلل التي يرجع إليها مسلكهم؛ فإنه ما من كلمة أو حركة نفعلها على غير وعيٍ منَّا إلا ولها سبب في العقل الباطن، وما من زلَّة يزل فيها القلم أو القدم أو اللسان إلا ولها علَّة ترجع إلى عاطفة ما في العقل الباطن.
وبهذه المناسبة نروي قصة لفرويد عمدة هذا العلم. قال ما خلاصته: لغرفة العيادة عندي بابان بينهما فراغ؛ وذلك لكي يحجز الصوت بين من في العيادة ومن في خارجها، فإذا جاءتني سيدة تسمع عن اسمي وعن هذا العلم الذي اشتهرت به فإن الاحترام لي يملأ صدرها، فهي تفتح الباب الأول بعناية وتقفله بهدوء، ثم تفتح الباب الثاني الذي يُفضي إلى الغرفة فلا تجد من الأثاث ما يحقق ظنها في الفخامة والضخامة فتترك الباب الثاني دون أن تقفله، حتى أحتاج إلى تنبيهها إلى إقفاله، وإنما أهملت إقفال هذا الباب لما سبق إلى عقلها الباطن من احترام الناس باحترام الوسط المحيط بهم.
وهذا هو ما يجده كلٌّ منَّا في معاملات الناس؛ ففي حركاتهم نتوسم الاحترام لنا أو الاحتقار إذا كنا نجيد ملاحظة ملامحهم التي هي عنوان العقل الباطن وما يُضمره لنا، فهذا يسمع عن نكبة وقعت بنا فيضحك، وآخر يسمع القصة نفسها فيتأسف، وكلٌّ منهما يعبِّر عن نيته نحونا، وقد لا يتضح الضحك أو الأسف بعلامات ظاهرة ولكنه يُستشفُّ في الملامح.
وكثيرًا ما «نحس» بقلوبنا أن فلانًا هذا يحبنا أو يكرهنا لأول رؤيته، وإنما يأتي هذا الإحساس من إشارات وحركات في تقاسيم الوجه تدلنا دلالة خفية على ما يكنه في عقله الباطن من الحب أو الكره لنا، وهي دلالة لا يستطيع إخفاءها إلا بالتفاتٍ كبير، وعندئذٍ تبدو زلَّات وهفوات تدل على أنه يتكلَّف.
ونحن نعرف أيضًا أن العقل الباطن إذا لم يكن على وفاق في أغراضه مع العقل الواعي حدثت لنا العصبية وكثرت الزلَّات والفلتات، وبتحليل خواطرنا وأحلامنا نقف على أصل الخلاف، ولكننا بالتسامي نستطيع أن نرفع أغراض العقل الباطن إلى ما يوافق عقلنا الواعي ونزيل بذلك هذا الخلاف، وبالتلقين نجعل العقل الباطن في خدمتنا ونجنِّده حتى يسعى لتحقيق أغراضنا.