أمراض النفس
تبحث النفسلوجية الحديثة في أمراض النفس، أما أمراض الجسم التي تُحدث تغييرًا في العضو فلا علاقة لها بها، وإن كان الذين يمارسون الاستهواء يقولون بأنه يمكن شفاء هذه الأمراض الجسمية أو تخفيف آلامها بالإيحاء والتلقين، وقد كان كويه ينصح لمرضاه بممارسة الاستهواء الذاتي وقد أثبت أن بعض الأمراض الجسمية تُشفى به، وكلُّ من يعرف تأثير العقل في الجسم يجب أن يسلِّم بجزء كبير مما يقوله كويه.
ولكن الواقع الآن أن النفسلوجي لا يتدخل في عدوى الحمَّى أو الجنون الحادث من السفلس عندما يبلغ الميكروب المادة العصبية ويتلفها، أو نحو ذلك من الأمراض التي هي من اختصاص الطبيب؛ لأن ميدانه الأصلي هو أمراض النفس؛ أي تلك التي تصيب النفس لا الجسم، وقد يتأثر الجسم بها تأثيرًا كبيرًا حتى يحدث الهزال، وقد تبدو علامات جسمية كالقيء أو نحو ذلك، ولكن العلَّة الأصلية في النفس لا في الجسم.
ويمكن أن نضرب بعض الأمثلة لهذه الأمراض: فهناك مثلًا شخص إذا ركب القطار واستدبر القاطرة قاء، وهناك شخص آخر إذا أكل الجنبري قاء وأسهل، والقيء يرجع في الحالتين إلى النفس لا إلى الجسم، فقد ساءت تربية الأول عند ركوبه القطار لأول مرة وأوهم بأنه سيقيء كلما استدبر القاطرة، فصار لهذا الوهم أثر في نفسه يؤثِّر في معدته. أما الثاني فالأغلب أنه حدثت له حادثة جعلته يشمئزُّ من الجنبري، كأن رآه مرة حول جثة منتنة طافية على الماء يأكل منها، وقد ينسى كلاهما علَّة القيء ولكن العقل الباطن لم ينسَ، فهو يستعيد الذكرى على غير وعيٍ من الشخص ويؤثِّر في أعصاب المعدة فيحدث القيء.
فهذان مثلان بسيطان لتأثير النفس في الجسم وإحداث مرض نفسي يعيش مدى العمر، وإن كان هذا المرض خفيفًا لا يحتاج إلى علاج.
- (١)
فقد تتسامى وتجد بذلك منفذًا تصرف إليه قوتها فلا تحدث منها أمراض.
- (٢)
قد تنصرف إلى أحلام وخواطر تخفف ضغطها.
- (٣)
إذا اتَّضح للنفس أن العقل الواعي لا يشبِع شهواتها أو عواطفها عمدت إلى عقولها القديمة فاعتمدت عليها، وهذه العقول لها أساليب تبدو لنا كأنها فساد في النفوس كثيرًا ما نطلق عليه اسم الجنون، وهي في هذه الحال تشبه المقاتل الذي تفسد إحدى آلاته الجديدة فيعود إلى آلاته القديمة.
فالجنون النفسي هو ردَّة في استجابة الجهاز العصبي إلى المؤثرات الخارجية، فبدلًا من أن يستجيب لها بالطرق الحديثة التي حصلت للإنسان في تطوره الأخير يستجيب بالطرق القديمة، وهذه الاستجابة نسميها جنونًا أو انحطاطًا أو فسادًا في النفس، فالنفس ترى مثلًا أن العقل الواعي قد هُزم ولم يستطع حلَّ عاطفة خوف أو حب أو نحو ذلك، فهي تلجأ عندئذٍ إلى عقولها القديمة التي كانت لها قبل ظهور العقل الواعي فتستجيب للحادث الذي أحدث هذه العاطفة أو لذكراه بأساليبها القديمة.
- (١)
إذا بلغ الإعياء من أعصابنا مبلغًا عظيمًا صرنا «عصبيين» فإذا سمعنا ضوضاء لا تنبِّه الرجل إلا تنبيهًا عاديًّا انتفضنا وذُعرنا، ومعروف أن الطفل (الذي يمثل أسلافنا) ينتفض للصوت المفاجئ.
- (٢)
ومن المعروف أيضًا أن الحركة العصبية في الأطفال لا تتدرج، فذراعه إذا أراد أن يتناول شيئًا بها انتفضت كأنه لا يملكها، وقد لا تصيب ذلك الشيء الذي يريد أن يتناوله، ولكن أعصاب الصبي أو الرجل متدرجة، تصرف من قوتها في حركة الذراع على قدر المطلوب منها، ونحن إذا ضعُف جهازنا العصبي لإجهاد عظيم أو لخوف شديد زالت منَّا خاصَّة التدرج فتكون حركة الذراع عندنا شبيهة بما هي عند الطفل وتحدث لنا انتفاضات تشبه انتفاضات الطفل (والطفل يمثل الأسلاف).
- (٣)
نحن نعرف أن الغالب في أحلامنا الصمت، وأنه إذا تغشانا الكابوس أصابنا سكون في الحركة، فنحاول أن نجري فلا نقدر، وقد قلنا: إن الأحلام تمثل لنا أساليب العقل القديم، وعلى ذلك يحدث أحيانًا أننا نرى رجلًا مريضًا صامتًا ساكن الحركة، فنبحث عن علَّة هذا المرض فنجد أنه قد حدثت له حادثة قد رعبته رعبًا شديدًا فخرج منها في يقظته بما يشبه الكابوس في النوم لا يستطيع الكلام ولا الحركة.
والاستجابة للخوف عند بعض الحيوانات تقوم الآن — وكانت في الأرجح تقوم عند الإنسان الأول أو الحيوان الذي تطور إلى إنسان — بسكون الحركة؛ حتى لا يلتفت إليه الوحش المغِير في الظلام، فينجو الحيوان بسكونه. أما إذا تحرك وانتفض وجرى وزعق فالأرجح أن الوحش المغِير عليه كان يتعقَّبه ويقتله، فالصمت والسكون طريقة قديمة للاستجابة إلى الخوف. تظهر لنا الآن في أحلامنا في الكابوس، وإذا كان الرعب شديدًا ظهرت لنا في يقظتنا؛ لأن العقل الباطن يطغى على العقل الواعي.
- (٤)
بعض المجانين يمشي على أربع كالحيوان، أو يقعد بهيئة الشمبنزي، وهذه علامات واضحة في تغلب العقل القديم.
- (٥)
نعرف أن العقل الباطن تكون عواطفه أحيانًا من القوة بحيث نتكلم في الحلم، وقد نضرب شخصًا بيدينا، ثم نكون أحيانًا أقوى من ذلك فنقوم في الليل ونمشي ونؤدي أعمالًا أخرى، ولكن إذا استيقظنا في الصباح نسيناها أو تذكَّرناها كما نتذكر الحلم فقط، فإذا طغى العقل الباطن على العقل الواعي حدث نسيان للشخصية، فيقوم الشخص من بيته ويخرج ويؤدي أعمالًا لا يدري أنه يعملها، وإذا ذُكِّر بها بعد ذلك أنكرها، وقد تعاوده فيصير له شخصيتان كلٌّ منهما مستقلة عن الأخرى.
والمحب الذي يذهب أو تحمله رجلاه وهو لا يدري إلى بيت حبيبته إنما يفعل ذلك بعقله الباطن، فهو ينسى غايته طول سيره إلى البيت ولا يتنبَّه إلا عندما يرى نفسه إزاء منزل حبيبته، فبذرة الجنون الذي نسميه فقدان الشخصية موجودة في كلٍّ منَّا تظهر فينا عندما يطغى العقل الباطن على العقل الواعي.
والآن يري القارئ أن الكابوس الذي يحدث لنا في الحلم إذا كانت العاطفة التي ابتعثته قوية جدًّا يحدث لنا في اليقظة، وأنا نفسي أعرف رجلًا فاجأه اللصوص فرعبوه فبقي أكثر من أربع سنوات لا يستطيع الكلام ولا الحركة، فكان لا يستطيع المشي وإن كان يقدر على تناول الطعام.